|
شيخ الدين جبريل - هكذا نعاه الأحفاد
|
زهير حمدنا الله شندقاوى ، هو أحد أبنائنا البررة ، ويكون فى صلة القربى ابن أختى بنت عمتى ، ويكون الوالد المرحوم شيخ الدين جده لأمه ، إلا أنه قد نشأت بينهما علاقة حميمة وخاصة استمرت زهاء الخمسة عشر عاما ، نهل فيها زهير منه ما نهل ، وبكاه بالدمعه الحرّّى وقال فى رثائه هذه الكلمة المؤثرة التى ألقاها بين أيدينا فى منزل العزاء وقال فيها:
صدق الحق الذى أجرى فينا سنته ، واختار إلى جواره نفسا مطمئنة ، رجعت إليه راضية مرضية ، ويبقى وجهه الكريم لا يزول. نفنى والله يرث الأرض ومن عليها ، نموت والله حى لا يموت ، إن تزلزلنا اليوم فقد تزلزل من هم أكرم منا ، حتى أمسك من هول الموت عمر الفاروق رضى الله عنه سيفه . فجعة الموت تطير الصواب وتفقد المرء زمام أمره ، عندما ينشطر قلبك إلى الف قطعة وتتمزق روحك إلى ألف ألف ، عندها لا يبق لك من العقل شىء وتبقى الفجيعة حمراء دامية وتصبح الدنيا محض ألم ويبقى الكون متاهة مغلقة مخرجها الوحيد ربما الدمع.
لم أكن أتخيل نفسى هنا واقفا فى أعلى سارية الحزن أحاول أن أنظم سيرها سفن العويل ، اليوم حق لنا أن نجزع حق لنا أن نخاف ، حق لنا أن نفزع ، هذه ليست دعوة للبكاء ، فالبكاء هو صاحب الدعوة اليوم ، والأسف المخيم هو مضيفنا جميعا
أحقا أنا أرثيه؟ أحقا أنا أبكيه؟ أستاذى ، صديقى شيخ الدين جبريل ، يا لهول الفكرة ويا لحزنها ، أحقا رحلت يا صديقى يا أيها القريب إلى روحى ، القريب إلى نفسى ، القريب إلى عقلى ، لماذا قبلت المجىء الينا؟ ، فمثلك كان كبيرا علينا.
لكن الحمد لله الذى أعطانى فرصة لكى أعرفه معرفة إنبثاق المتع الموصولة التى كانت كوناَ من الوهج والانتشاء عند ذلك الرجل الشاهق المثقل بالومض الموحى ، الغنى العميق ، حزم الضوء الساطعة التى كانت تشرق علينا فتبعث الحياة فينا.
كنت آتيه لأشيح بوجهى عن اليومى وعن المعتاد ، كان يتلقانى دوماَ بالفرح ذاته وبالشوق نفسه ، كان يعتدل فى جلسته كالملك ، وكنت أعتدل تأدبا فى فكرتى وفى موقفى من كل شىء ، وأطأطىء رأسى أمامه ، كنت صديقه وكان أستاذى وأبى ومثالى وصديقى ، معتدلان جدا كنا ، كل على طريقته ، إعتدال المعلم وإعتدال الحوارى ، ثم نبدأ الرحلة إلى عوالم قصية ، نوبات من التخيل الخلاق لنبعث الهيئات الجديدة التى لم تعرف ، وأنا منبهر النفس منبهرالعقل به ، وهو يجعل السهل المطاوع أفانين إمتاع وجنون وإشباع ، يجعل الفكرة قدس أقداسى والحكاية سراً للوجود ، الجهر بها قصيدة والصمت المتأمل بها نشيداً سماوياً.
يأخذ العقل المتأمل بمجامع ذهنى وقلبى وأنا أتمسك بحواف الفكرة لكى لا أسقط والعقل الجبار يطير بسرعة الضوء ، أما القلب الحانى المترف بالحب الذى يسع الأكوان كان مركبى الدافىء الذى يحملنى الى رحم الفكرة ونبعها ، فأشرب ولا أرتوى ، وأنهل ولا أكتفى ،
هذا الأديم يصدُ عن حضاره وينام ملء الجفن عن غٌيّابه إلا فتىً يمشى عليه مجدداً ديباجتيه معمراً لخرابه فى الموت ما أعيا ، وعن أسبابه كل امرىٍ رهن بطى كتابه أسد لعمرك من يموت بظفره عند اللقاء كمن يموت بنابه
كان رمزاً مضيئاً ، وسيبقى خالداً ، رمزاً من رموز الإنسانية ، لا أقول فقط كان مربياً وقدوةً وأنموذجاً وعلماً وقائداً ورائداً.
الأستاذ شيخ الدين جبريل ليس كل هذا فحسب ، بل كان نسيج وحده فى البشر ، كان كائناً نورانياً مرفرفاً فوق الحروف والعبارات والمعانى ، كان خفقة مذهلة تصدر عن الناصع فى عالم الأسمى والأجل والأكبر والأكمل ، لم أعرف رجلاً كانت القيمة عنده غير مجزأة كمثله ، كان مصدر الهامنا ، جبلاً عنده نلقى الهموم ونضع أحمالنا كان وجوده فينا طمأنينة ، صوته سكينه ، كان تفرداً بلا شبيه.
كان دوماً تلك الإبتسامة الودودة التى تشع دوماً مسفرة عن قلب كبير ، وعن نية بيضاء لبن ، موكب من الحلم ، وسعة القلب ، وإنفساح الصدر ، رمز للتجاوز والصفح الجميل.
يا فارس ، سرج جوادك ليس يلامس ظهر الأرض ، وحسامك مثل البيرق يخترق الظلمات ، نارك لا تخبو ، جارك موفور العرض ، يا فارس حتى مات.
لم تكن حياته عادية ، لم يكن عادياً ، لذا فموته عندى ليس عادياً. كان علاّمة ، وكان بحّاثة ، كان قلقاً قلق المفكرين ، وقلق العارفين ، كان بحثه الدائم عن الفكرة ، كانت ضالته الحكمة ، ويشهد محرابه المحفوف بالكتب على ذلك بدأً باللوح المحفوظ ، كتاب الله ، وأحاديث المصطفى شفيعه وشفيعنا بإذن الله ، وجلساؤه كذلك يشهدون سقراط وأفلاطون وابن حزم وابن رشد وابن خلدون وابن تيميه والإمام الغزالى والمتنبىء والبحترى وأعمى المعرّه وطه حسين والعقاد والمحجوب وعبدالرحمن المهدى وشكسبير وتى. آى. إليوت ، وبايرون ، ونيتشه ، وغوته ، وبرتدراند راسل ، وكثيرون كثيرون.
لم يكن عادياً فى حياته ، لذا لن يكون موته عادياً ، موته معرفة ونور ، موته كون عامر بالأضواء وغلالات شفافة من الرحمة ، بإختصار موته إجابة.
ها أنذا أكتب عنه فى سطور الغيبوبة ، وسأكتب عن سيرته وحياته فى أهله وفى وطنه ، وفى التعليم عشقه النبيل وعن علاقته بى فى سطور الصحو.
اللهم أرحمه وأغفر له وأجعل الخير فى ذريته وفى أهله وأدخله جنتك ، اللهم آمين.
زهير حمدنا الله شندقاوى الاثنين 11/10/2004م الساعة 5 مساء
|
|
![ICQ](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif) ![AIM](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif) ![Yahoo](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif) ![URL](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif) ![Edit](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif)
|
|
|
|
|
|
|