نعم هى ثنائية وللثنائية أسباب - منصور خالد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-11-2024, 00:53 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة هشام شيخ الدين جبريل(يازولyazoalيازول)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-26-2004, 02:02 AM

Omar
<aOmar
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 239

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (2) (Re: يازولyazoalيازول)

    الأخ هشام
    تحياتي...

    أسمح لي أن أأتى بالجزء الثاني من مقالة د. منصور خالد ....


    السلام الشامل ما هو؟ وما هى وسائل تحقيقه؟

    بقدر ما نستطيع، حاولنا في المقال السابق إبانة الأسباب التي أدت لأن يكون التفاوض بين الحكومة والحركة الشعبية ثنائياً وينتهي إلى وفاق ثنائي. وقلنا إن تحقيق السلام الشامل لا يتكئ، فحسب، على صدق الارادة السياسية للطرفين الموقعين في تنفيذ الاتفاق الذي تواصيا عليه، وإنما أيضاً على صيانة ذلك الاتفاق بسياج من التأييد الوطني. السلام الشامل، أو الحل السياسي الشامل، تعبير شاع في الخطاب السياسي منذ منتصف الثمانينات، خاصة بعد أن جاءت الحركة الشعبية بأطروحة قلبت المفاهيم هى أن مشكل الجنوب هو مشكل السودان. وكما ذكرنا في المقال السابق استطال الحوار في كوكادام بين الحركة والتجمع الوطني حول إن كان المشكل الذي ينبغي حله هو قضية اقليم محدود (الجنوب) أو قضية الوطن كله. ولعل ذلك الانكار من جانب الطبقة السياسية الشمالية أن الوطن كله مأزوم هو الذي حمل الأستاذ محمود محمد طه في الستينات، حين استبد بالناس الحديث عن مشكلة الجنوب، إلى اصدار كراسة اتخذ لها عنواناً: "...وللشمال مشكلة أيضاً". حقاً، كان الخطاب السياسي يومذاك، في الغالب الأعم، يتمحور في مشكلة واحدة هى مشكلة الجنوب، وفي قضية واحدة هى قضية الديموقراطية. الأولى تذكرنا بها دوماً الحرب الأهلية، والثانية لا نستذكرها إلا عند وقوع الانقلابات أو سقوط الأنظمة العسكرية فنبدأ في البحث عن وسائل حمايتها.
    أياً كان الأمر، للشمول في اعتقادنا جانبان، جانب تمثيلي وآخر موضوعي. وفي حالة الاتفاقيات موضوع البحث هناك جانب ثالث هو الشمول الأمني. ويتطلب الشمول التمثيلي اشراك القوى السياسية الفاعلة في عملية السلام، خاصة إن تجاوزت نتائج تلك العملية وقف العدائيات وبسط الأمن والاستقرار إلى إعادة صياغة الدولة. أما الجانب الموضوعي فيتناول ـ على وجه التحديد ـ شكل ومضمون اعادة الصياغة هذه: الرؤية والخطط ووسائل التطبيق.
    نبدأ بالعنصر الثالث في الشمول: الشمول الأمني لنقول إن أية محاولة لاطفاء النار في جزء من الدار وتركها تشتعل في جزء آخر لن يحقق شمولاً أمنياً حتى وإن خمدت النار وطَفئت الفتنة في أكثر مواقع الحرب إتقاداً. هذه حقيقة لم يتعام عنها طرفا الاتفاق، ففي المادة السابعة من بروتوكول الترتيبات الأمنية نص صريح حول وضع ما أسماه البروتوكول "المجموعات المسلحة الأخرى في القطر". الفقرة الأولى والثانية من تلك المادة تعالج أمر المجموعات المسلحة المتحالفة مع الطرفين، في حين تعـالج الفقـرة الثالثة أمـر "المجموعات الأخرى" بهدف تحقيق سـلام شامـل واستقرار في كـل القطـر واحتواء كامــل (Full Inclusiveness) في العملية الانتقالية. هذا النص يلزم طرفي الاتفاق، بل يوفر المدخل الشرعي لمعالجة حالتي دارفور وشرق السودان. ولن يكون هذا إلا بمعالجة الأسباب التي قادت إلى فتنة توقدت والتهبت في الحالة الأولى، واحتقانات دائمة صحبتها انفجارات هنا وهناك في الحالة الثانية.
    الشمول التمثيلي في عملية التفاوض أمر لا لُبس فيه ولا اختلاط، وقد يفيد أن نضيف إلى ما أوردنا في المقال السابق شيئاً من خبر الجهود التي بذلت لتحقيق ذلك الشمول منذ زمان بعيد. إلى ما أوردنا نضيف أن التجمع الوطني الديموقراطي، رغم موافقته على مواصلة الحركة التفاوض منفردة مع النظام تحت مظلة الايقاد، بقى على اتصال دائم مع دول الايقاد وأصدقاء مبادرة الايقاد، وبوجه خاص الولايات المتحدة وبريطانيا وايطاليا. بعض هذه الاتصالات تم على أعلى المستويات (لقاءات رئيس التجمع مع رؤساء كينيا، ويوغندا، وأريتريا، وأثيوبيا)، وبعضها الآخر كان في اللقاءات مع الممثلين الدبلوماسيين لهذه الدول. ثمة هدفان كانا وراء هذه الاتصالات: الأول التأكيد على مركزية قضية التحول الديموقراطي في حل المشكل السوداني لأن ايقاف الحرب وحده لن يحقق سلاماً مستداماً كما يرى التجمع، والثاني هو اشراك التجمع في عملية السلام الجارية. في ذات الوقت ظل الطرف الحكومي في التفاوض ثابتاً عند موقفه في أن تظل المفاوضات ثنائية لأسباب رآها، وكان أبلغ مظاهر رفضه توسيع قاعدة التفاوض في الثامن من أغسطس 2000، التاريخ الذي أوفد فيه التجمع نائب رئيسه الفريق عبد الرحمن سعيد يصحبه وفد ضم، من جانب الحركة، القائد نيهال دينق نيهال (رئيس الوفد المفاوض في نيفاشا فيما بعد) لاجراء حوار مع سكرتارية الايقاد في نيروبي للتفاطن معها حول اشراك التجمع في مبادرة الايقاد. الرفض البليغ لذلك المطلب جاء على لسان مبعوث خاص للحكومة (الدكتور قطبي المهدي) أوفدته الخرطوم ليبلغ سكرتارية الايقاد (السفير سيمبويا) اعتراضها على اشراك التجمع في المفاوضات بأية صورة من الصور، أو كما قال قطبي : "اذا دخل التجمع من باب فسنخرج من الباب الآخر". ذلك كان هو فصل الخطاب إذ لم تلتقِ سكرتارية الايقاد بوفد التجمع حتى للتحية.
    دخلت من بعد مصر إلى المعمعة بكل ثقلها مع ليبيا التي ظلت تحتفظ بعلاقات حميمة مع الحركة الشعبية، فكانت المبادرة المشتركة. وكما هو معلوم لم تتقدم تلك المبادرة كثيراً لنقص عضوي في المبادئ الموجهة والضابطة للتفاوض، ألا هو افتقاد تلك المبادئ لأية اشارة لموضوع حق تقرير المصير لجنوب السودان. وبما أن مبدأ حق تقرير المصير لا يمثل فقط نقطة جوهرية في مشروع الحركة لمعالجة قضية الجنوب، بل هو أيضاً موضوع توافقت عليه كل القوى السياسية السودانية والوسطاء: الحكومة، والتجمع، والايقاد، كان اغفاله بمثابة قُبلة الموت للمبادرة المشتركة. رغم ذلك، حددت المبادرة المشتركة بشكل واضح الحد الأدنى للوفاق بين التجمع والحكومة مما يجعل من أي حديث يدور اليوم. في مِعرض النقد لاتفاقيات السلام الأخيرة، عن سقف أعلى للتفاوض كان من الواجب على مفاوضي الحركة أن لا يتهبطوا عنه، تزيداً بلا معنى. ما هو هذا الحد الأدنى؟ المذكرة التي صدرت من التجمع في القاهرة في 30/6/2001 للتمهيد للمبادرة المشتركة لخصت ذلك الحد الأدنى فيما يلي:-
    * اعتبار المواثيق والعهود الدولية والاقليمية المعنية بحقوق الانسان جزءاً لا يتجزأ من الدستور، وأي قانون مرسوم أو قرار أو اجراء يصدر مخالفاً لها يعتبر باطلاً وغير دستوري.
    * قومية كل المؤسسات وأجهزة الدولة.
    * كفالة الدستور والقانون للتعددية والحريات المدنية والسياسية وسيادة حكم القانون واحترام حقوق الانسان.
    * تشكيل حكومة قومية انتقالية تمثل فيها أطراف الاتفاق السياسي وتنظيم انعقاد المؤتمر الدستوري الذي يضع الدستور الدائم للبلاد.
    * يتعهد طرفا النزاع بالوقف الفوري والشامل للحرب فور توقيعهما على الاتفاق السياسي.
    لهذا، فإن أي نقد بعد هذا لاتفاقيات السلام لأنها لم تحقق "تفكيك النظام" كما كانت تنادي قرارات التجمع، أو باقصاء المؤتمر الوطني عن الحكم أو حتى تحجيمه بمعنى عودته ـ أو اعادته ـ للحجم الذي كان عليه قبل انقلاب 30 يونيو 1989 في أية عملية لاقتسام السلطة يصبح إما تزيداً أو "عرضة بره الزفة". فما يتمناه التجمع، أو تبتغيه الحركة، أو يحلم به المعلقون السياسيون، أو ينادي به المناضلون الارائكيون الذين يعيشون خارج الزمان والمكان لا يحدث في موائد المفاوضات، وإنما تحكمه موازين القوى التي حملت الناس على التفاوض ابتداءً.
    الحد الأدنى الذي أقرته المبادرة المشتركة هو، اذن، ما كان يفترض أن تستصحبه الحركة في مفاوضاتها مع النظام بعد أن قُدر لتلك المفاوضات أن تستمر ثنائية. يفترض المرء أيضاً أن مفاوضي الحكومة لن يَزوَّروا عن الالتزام بتلك الحدود بعد أن رضيوا عنها كمبادئ موجهة للحوار مع التجمع في اطار المبادرة المشتركة. وبهذا الفهم لا يملك أي معلق منصف أن ينكر أن هذه القضايا قد عولجت بوجه أو آخر في المفاوضات. فالذي تحقق في نيفاشا ليس هو الأمثل بالنسبة لأي طرف من الأطراف بل هو الممكن تحقيقه في ظل واقع موضوعي. ولكن لا معدي من الاعتراف أن في الاتفاق خروقاً وفتوقاً وشقوقاً. لهذا يصبح المطلوب هو تطوير ما تم الاتفاق عليه بشأن هذه القضايا، إن كان ثمة مدعاة للتطوير، وسد الثغرات فيه حيثما كانت ثغرات، واستدراك ما هو قمين بالاستدراك باتفاق الأطراف جميعاً.
    نقطة مهمة نتطرق اليها قبل الولوج في باب الشمول الموضوعي هى قضية المحاسبة، أي محاسبة النظام على الجنايات التي يتهم بارتكابها من جانب معارضيه، أو من جانب من لحق بهم أذى أو ضرر. يدفعنا للاشارة لهذه النقطة ما جاء في بعض التعليقات على اتفاقيات السلام حول الفقرة 7.1 من بروتوكول اقتسام السلطة. يقول النص: "يتفق الطرفان على اطلاق مبادرة شاملة للمصالحة الوطنية والالتئام في كل القطر كجزء من عملية بناء السلام. وستقوم حكومة الوحدة الوطنية بوضع الآليات والوسائل لهذا الغرض". مثال ذلك اشارة للسيد الصادق المهدي تُعَيِّب تلك الفقرة لأنها تتحدث عن المصالحة دون اشارة لضرورة التقصي عن الجنايات التي ارتكبت خلال فترة حكم "الانقاذ" وفق النمط الجنوب أفريقي الذي ربط المصالحة الوطنية باستقصاء الحقائق عما وقع من ظلم خلال حكم الابارتايد. مثال آخر هو ايماءة الدكور الشفيع خضر في مقاله الآنف الذكر الذي جاء فيه "من الممكن أن نرمي كسياسيين وراء ظهرنا كل مرارات وخصومات الماضي. لكن هل يمكن اقناع الجماهير بالتخلي عن مطلبها العادل في مساءلة ومحاسبة من تتهمه بانتهاك حقوقها وسلب أموالها وأموال الدولة؟" الاشارتان لهما ما يبررهما ولهذا لن أقول مشاكسة إن الإشارة للمحاسبة أو البحث عن الحقيقة قد غابت عن بروتوكولات نيفاشا التي وقعت في السادس والعشرين من مايو 2004 لنفس الأسباب التي دعت لتغيبها في مشروع السلام الذي اعتمده التجمع في القاهرة في 30/6/2001، أو في اتفاق جيبوتي الذي وقعه رئيس حزب الأمة مع الرئيس البشير في يوليو1999، أو في اتفاق جدة الذي وقعه رئيس التجمع مع النائب الأول لرئيس الجمهورية في ديسمبر 2003، لن أقول أيضاً تزيداً أو تبرئة للحركة، أن مفاوضيها ثابروا منذ مفاوضات مشاكوس على المطالبة بقيام لجنة للحقيقة والمصالحة على النمط الجنوب أفريقي للتنقيب عن الأسباب التي أدت منذ الاستقلال لكل الإرزاء التي عانى منها السودان وأهله، وهو نفس الموقف الذي ألحفت الحركة على تضمينه في مذكرة التفاهم التي وقعت مع المؤتمر الشعبي في جنيف في فبراير 2002، وتورد الفقرة الخامسة من تلك المذكرة ما يلي: "ادانة النهج الانقلابي لاسهام الانقلابات العسكرية في تفاقم الأزمة الوطنية وفشلها في ادارة السودان وفي ايجاد حل وطني دائم وشامل للصراع. كما ينبغي المحاسبة على كل الفساد والجرائم التي ارتُكبت بحسبانها أمراً ضرورياً لمستقبل الحياة العامة".
    على خلاف ذلك، أقول يلزم أن يكون الاقتراب من تلك القضية على وجهتين، الوجهة الأولى تتعلق بحقوق الذين انتهكت حقوقهم من البشر، والثانية تتعلق بكشف الحقائق كلها تطهيراً وتعقيماً للجسم السياسي حتى تقوم المصالحة على أساس متين وسليم، فالجُرح الذي يُضمد على قيح لا يبرأ. وفي الحالة الأولى لا أحسب أن أي اتفاق بين طرفين أو أكثر، بل أي قانون ـ حتى القانون السماوي ـ يلغي حقوق الناس، فالله يعفو عن حقه ولكن لا يعفو عن حقوق العباد. روى سفيان الثوري عن رسول الله صلعم أنه قال: "إن لقيت الله تعالى بسبعين ذنباً فيما بينك وبين الله تعالى، أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد". وذُكر عن أبي بكر الوراق أنه قال: "أكثر ما ينزع من القلب الايمان ظلم العباد". وليس في اي نص من نصوص الاتفاق نداء موجه للأفراد أو الجماهير كيما تتخلى عن حقها في السعي لرد أموالها، أو المطالبة بمحاسبة من انتهك حقها. الوجهة الثانية هى ضرورة اجتهادنا جميعاً في استقصاء جذور المشكل السوداني منذ الاستقلال من أجل الوصول إلى مصالحة تاريخية، فأزمة الدولة السودانية تعود إلى مطالع الاستقلال. والازمة كما ظللنا نقول، تكمن في عجزنا عن التصالح مع النفس، ولن يفلح المرء في الاصطلاح مع الآخر ما لم يتصالح مع نفسه. هذا هو مفهوم لجان الحقيقة والمصالحة التي تعددت تجاربها في العقدين الماضيين، وكل واحدة من تلك التجارب كانت تستجيب للظروف الموضوعية التي أدت إلى خلقها. فمن تلك اللجان ما أنشئ للتحقيق في قضايا محدودة (لجنة البحث عن الحقيقة في موضوع الأشخاص المختفين (الارجنتين في عهد الرئيس راول الفونسين وشيلي في العام 1990). ومنها ما أنشئ للتحقيق حول انتهاكات وقعت في فترة زمنية معينة (لجنة التحقيق في انتهاكات حقوق الانسان في الفترة 1974- 1999، تيمور الشرقية، لجنة الحقيقة والعدالة في الاكوادور في 176 حالة من حالات انتهاك حقوق الانسان خلال 17 عاماً)، ومنها ما أُلحق باتفاقيات السلام مثل لجنة الحقيقة في السلفادور التي انشأتها الأمم المتحدة في العام 1992 كجزء من مشروع السلام الذي رعته.
    لجنة الحقيقة والمصالحة التي طالبت بها الحركة، ودعونا لها قبل التوقيع على بروتوكولات نايفاشا ( أهوال الحرب وطموحات السلام ص 1034 - 1035) ربما اتخذت من التجربة الجنوب أفريقية نموذجاً يحتذى. تلك التجربة كانت مبادرة من رجلين نبيلين، نلسون مانديلا ودزموند توتو ارادا بها تطهير النفس، والسمو عن المواجع، واستشراف المستقبل بدلاً من التلبث عند الماضي. تكونت اللجنة بعد وفاق بين المؤتمر الوطني الأفريقي (حزب مانديلا) والحزب القومي (حزب ديكليرك) تضمن تبني الحزبين لقانون صدر في العام 1990 (قانون تعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية)، وكانت لجنة الحقيقة والمصالحة عنصراً مهماً من عناصره . من تلك اللجنة انبثقت لجنة قانونية مستقلة يترأسها قاض من قضاة المحكمة العليا للنظر في حالات الانتهاك الخطير لحقوق الانسان يُقر فيها المذنب بذنبه في جلسة علنية ويعفو فيها المجني عليه عن الجاني. فالهدف من العملية كان هو ابراء الذمم وضمد الجروح، وكان القانون حكيماً إذ نص على أن تقوم الدولة، في كل الحالات التي تستدعى تعويضاً مادياً ولا يكفي فيها رد الاعتبار المعنوي، بتعويض الضحايا. هناك أيضاً تجربة أخرى جديرة بالنظر هى تجربة المغرب في عهد الملك محمد السادس، تتمثل في هيئة الانصاف والمصالحة الملحقة بمجلس حقوق الانسان.
    الحركة، سواء كان في ما اقترحته على مائدة المفاوضات منذ ماشاكوس، أو ما تواصت عليه مع المؤتمر الشعبي في مذكرة التفاهم، ظلت تنادي بقيام لجنة تجتهد في التفتيش عن الحقيقة منذ الاستقلال لأن التعفية على الماضي لن تعين على مداواة أوصاب الحاضر، ناهيك عن وضع الأسس السليمة لسودان المستقبل. هذا النمط من البحث عن الحقيقة لا يتعسف طلب العدل القصاصي Retributive)) وإنما ينشد العدالة التعميرية Restitute))، وذاك لعمري جهد يتطلب غوصاً في الذات، وصدقاً مع النفس، ونبلاً في الطبع.
    أجئ إلى الشمول الموضوعي زاعماً، في المبتدأ، أن الأسلوب الذي أقبلت به المفاوضات الأخيرة لمعالجة مشكلة الحرب لم يَقتفِ أثر الاتفاقيات النمطية التي درجنا عليها منذ مؤتمر المائدة المستديرة، والتي لم ينجم عنها ـ حتى حيثما أفلحت إلى حين في تهدئة الأجواء ـ غير اعادة انتاج الأزمة. ولا ريب في أن التلكؤ في، إن لم يكن الاحجام عن، الحل الشامل لمشاكل السودان المتعددة والمترابطة هو سبب الوهن الذي انتاب الجسم السياسي السوداني وأدى إلى تآكله الداخلي. وإن كان التلكؤ تعبيراً عن أن هذه القضايا لم تكن تحتل موقعاً رفيعاً في قائمة هموم الحاكمين، فإن الاحجام يعود في الأساس لهيمنة الماضي على عقول النُخبة الحاكمة وكان ذلك دوماً أمراً اختيارياً بحكم التجاهل العمدي لخيارات عديدة ممكنة، نعود اليها في المقال الرابع. وكما يقول برنارد شو إن "تجاهل المستقبل، والاصرار على ذلك التجاهل، هو الشئ الوحيد الذي يكرس تأثير الماضي على أفكارنا". لهذا أصاب التجمع الوطني الديموقراطي المرمى عندما وصف بروتوكولات السلام بأنها "خطوة مهمة في طريق انهاء الحرب الأهلية ومعالجة جذور الأزمة السودانية المزمنة. وهى بالتالي تشكل نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة لتحقيق التحول الديموقراطي وترسيخ السلام .. وتوفر أساساً لإعادة هيكلة البناء الوطني الموحد على أسس تختلف عن الأسس القائمة منذ الاستقلال". (بيان حول موقف التجمع الوطني الديموقراطي من بروتوكولات السلام، أسمرا 21/7/2004).
    أنا زعيم بان مثل هذا الاقتراب من الازمة السودانية لم تعرفه أية محاولة لعلاج مشكل الحرب من قبل اتفاقيات السلام الراهنة، حتى وان اعتورها قصور. وسنتناول في مقالات تالية كيف أقبل المتفاوضون على هذه القضايا؟ وما هى الحلول التي اقترحوها؟ وكيف تناولت السياسة السودانية في الماضي نفس القضايا؟ وما هى الحلول التي توصلت اليها، إن كان ثمة حلول؟ هذا أمر ضروري لأن أي تحليل أو نقد لما اتت به بروتوكولات نيفاشا من نظم ومؤسسات وسياسات دون مقارنته مع، أو مضاهاته بالتجارب الماضية، يصبح منقوصاً منهجياً ومعيوباً فكرياً. ولعل أول محاولة للانعتاق من الأسلوب النمطي في التعامل مع الازمة السودانية هى مقرارات أسمرا التي تناولت قضية الوحدة الوطنية من منطلق جديد إذ اعترفت بقضايا الهامش والأطراف، وأكدت مبدأ الوحدة الطوعية وحق تقرير المصير، وأقرت ضرورة اعادة النظر في منهج التنمية الاقتصادية الموروث منذ عهد الاستعمار بحسبانه العامل الرئيس في تكريس الفقر في الأطراف. وباعتماد هذه المفاهيم أصبح للديموقراطية ـ والتي هى موضوع مركزي في خطاب التجمع، وفي الخطاب السياسي منذ أكتوبر ـ معنى عند الجنوبي والبجاوي والنوباوي الذين لم تكن ضالتهم أبداً هى الحقوق المدنية. مواثيق أسمرا، بدون شك، تمثل خطوة متقدمة عما ورد في ميثاق الانتفاضة (أبريل 1986) الذي طغت عليه إما النمطية الموروثة منذ أكتوبر 1964 أو الثوابت الايديولوجية، وللموضوع نعود في مقالات تالية نكشف فيها عن تراجيديا الفرص الضائعة في السياسة السودانية.
    الاهتمام بهذه القضايا في اتفاقيات السلام هو الذي أكسبها شمولاً موضوعياً. ولو توقف البحث عن التحول الديموقراطي عند القضايا التي لا تعني الكثير لأهل الأطراف. لما حُلت مشكلة الجنوب، ولا مشاكل التهميش السياسي والاقتصادي، ولا استقرار الحكم في اقاليم السودان في الشمال والشرق والغرب. أهل الأطراف لا يستخفون بهذه القضايا لعدم أهميتها ولكن لأنها لا تحتل أولوية في قائمة همومهم التي تتعلق بالوجود، ولهذا تحتل درجة أعلى من قضايا مثل التعددية الحزبية، الحقوق المدنية، الانتخابات. نعم، لو أقام المفاوضون عند القضايا التي كنا نَلبِدُ (نلزق) بها عقب الانتفاضات لما أصبح للتحول الديموقراطي معنى. فبقاء الاحتقانات السياسية في الأطراف، وعدم الاكتراث للعُطب السياسي في المركز سيقود، طال الزمن أم قصر، إلى الانفجار. لهذا يليق بالباحث او الناقد أو المحلل، اذن، الاعتراف أولاً بأن هذه هى المرة الأولى منذ الاستقلال التي تتم فيها معالجة الازمة السودانية معالجة شاملة تناولت نظام الحكم، وهيكل الاقتصاد، وتوزيع الثروة، وتحقيق التمكين السياسي للمستضعفين سياسياً. الباحث أو الناقد أو المحلل الذي يستبين هذه الفروق هو وحده الذي يُستحب له ابانة أوجه القصور في جملة الحل ومفرداته.
    يتبدى لنا أيضاً من بعض ما اطلعنا عليه من نقد أو تحليل للاتفاقيات اختزال قضية الشمول في المشاركة في الحكم وقسمة السلطة. فبروتوكول اقتسام السلطة على المستوى القومي قبل الانتخابات البرلمانية يخصص النسب التالية: الحركة الشعبية 28% المؤتمر الوطني 52%، والقوى السياسية الشمالية 14% والقوى السياسية الجنوبية 6%. في حين يخصص للحركة الشعبية، على مستوى برلمان الجنوب 70%، والمؤتمر الوطني 10%، ولبقية القوى السياسية الجنوبية الأخرى 10%. ومن المفهوم أن النسبة التي حُددت للمؤتمر الوطني في الجنوب سيذهب جلها للجنوبيين المنضوين تحت لواء ذلك التنظيم.
    بلا مماحكة، هذه قسمة ضيزى، وفي هذا الاطار نفهم النقد القارص للاتفاق من جانب السياسي الجنوبي المحنك بونا مالوال عندما كتب يقول: "حَرُصَ الطرفان على أن تكون اتفاقية السلام آلية لاقتسام السلطة بينهما أكثر منها آلية لحل النزاعات وحسم المشكلات كما توقعتها أغلبية السودانيين" (الشرق الأوسط 10/6/2004). أنا مثل بونا مواطن سوداني نال حظاً من المعرفة وقضت ظروف أن يتوغل في السياسة. من خلال تلك المعرفة وذلك التوغل أملك أن أقول إن أغلبية السودانيين في الشمال وفي الجنوب تنشد السلام، وأن المظلوم من بينهم يتمنى رد ظلامته في السلطة كان ذلك أو في الثروة، كما يطمح مجروح الكرامة إلى استرداد كرامته وضمان توقيرها، ويطمعون جميعاً ـ متى ما استردوا حقوقهم وكرامتهم ـ في العيش كبقية شعوب العالم، تتطامن نفوسهم ويُسترغدُ عيشهم. ولعلني أزعم أن اتفاقيات السلام الراهنة تمهد الطريق لتحقيق هذه الغايات للمرة الأولى منذ الاستقلال، دون إدعاء أنها ستحسم المشكلات بشكل مطلق. أزعم أيضاً أن الاتفاق الذي يؤكد حق تقرير المصير للجنوب، ويمنح ولايات السودان عبر القطر سلطات واسعة لم تُحظَ بها منذ الاستقلال، ويقسم الثروة بصورة غير مسبوقة، ويمنح كل ولايات السودان سلطة لم تتمتع بها من قبل لمراقبة المركز عبر مجلس للولايات، فيه ما هو أكثر من التمهيد لحل النزاعات والمشكلات. فإن كان الزعم صحيحاً، أولا يحسن بنا البحث عن وسائل الارتقاء بهذا البناء الغض الطري، بدلاً من الانتقاص منه، بله انكاره. أما اقتسام السلطة فلعل ما يستهم فيها الصديق بونا بقدر أكبر هو استئثار الحركة الشعبية بالسلطة ـ ليس طوال الفترة الانتقالية ـ بل خلال السنوات الثلاث الأولى. ففي النصف الثاني من تلك الفترة ستقرر "أغلبية السودانيين" بمحض ارادتها من الذي يحكمها. أو كما قال الأستاذ فاروق أبوعيسى في حديث لهذه الصحيفة "في الاتفاقية عيوب لو تمت معالجتها لكان الاتفاق أكثر قوة وعدالة.. وبعد ثلاث سنوات الحشاش يملا شبكته" (الرأي العام 15/6/2004).
    السنوات الثلاث هى التي ستقرر مصير الاتفاق. فما لم يتم تنفيذ الاجراءات الأمنية بصورة تُنهي الاحتراب، وتزيل كل بؤر الانفجار المحتملة، وتبني للسودان ـ في الشمال والجنوب ـ جيشاً عقيدته حماية الوطن، وتوفر الحل لمشكل كل جندي حمل السلاح، فلن تكون هناك ديموقراطية مستدامة أو غير مستدامة، ولن يكون هناك سلام عادل أو غير عادل. هذه أمور لا يقدر عليها إلا من يملك زمام التحكم في القوى الضاربة مما يجعل الطمع في أن يتخلى "العسكري" جون قرنق دي مابيور في الجنوب، و"العسكري" عمر حسن أحمد البشير في الشمال عن موقعيهما حال توقيع الاتفاق ليحتلهما من هم أكثر جدارة بالحكم، طمعاً في غير مطمع، بل ربما يكون وصفة لتقويض الاتفاق. أقول هذا مستنطقاً الواقع بعد استنفاد كل الاحتمالات، وخسران كل الرهانات المبنية على الوهوم لا لأنني "مارشال" يريد أن يُنَمِرَ هذا، أو يُقرنق ذاك، أو كما قال.
    من الناقدين للقسمة الضيزى الدكتور حيدر ابراهيم، كتب في مقال لجريدة المصور يقول: "يصاب المرء بالحزن والخوف من المجهول حين يتذكر الطريقة التي اقتسم بها الطرفان السلطة والثروة". ثم يتساءل "هل هذا الذي يتم تقسيمه بالنسبة وطن أم غنيمة ذبيحة. ولكنها بالفعل شركة مساهمة وليست شراكة سياسية كما يروج لها الطرفان" (المصور 18/6/2004). مرة أخرى، الاشارة هنا لاقتسام السلطة في الجزء الأول من الفترة الانتقالية رغم أن تلك الفترة، بموجب الاتفاق، ستشهد انفتاحاً يمهد الطريق لتحول ديموقراطي واسع ظل الدكتور حيدر (كما ظللنا) يتمناه منذ أن دعا للمصالحة التاريخية مع النظام قبل بضعة أعوام. لا شك أنه من حق القوى السياسية الشمالية، كما من حق القوى السياسية الجنوبية، أن ترى في تلك النسب استصغاراً لها، ومن حقها أن لا ترضى بها. وفي هذا ما ظلم السيد الصادق المهدي عندما قال "المشاركة ستكون ضمن التحول الديموقراطي وضمن ما تعطيك من فرصة للتأثير على القرار، أما الاشتراك كمردفين فهذا غير وارد" (الحياة 8/6/2004). ولكن، كما ألمحنا، فإن هذا الوضع غير الطبيعي طبيعي بلوازمه، وعلى رأس اللوازم موازين القوة. ولعلنا نعرف جميعاً من معارفنا في الرياضيات أن اللازمة نتيجة تتبع بالضرورة حقيقة ثابتة بالبرهان. كان الأمر ليصبح مدعاة للاستنكار ـ بل المجابهة ـ لو لم تُقر الاتفاقية مبدأ العودة للشعب خلال الفترة الانتقالية. كما يحق لكل القوى السياسية الإصرار على توفير الضمانات بأن تتم الانتخابات في الموعد الذي حددته الاتفاقيات، وأن توفر لها كل الضمانات الوارد ذكرها في تلك الاتفاقيات.
    الخوف من المجهول بسبب هذه القسمة هو الذي يبعث على الحيرة في حديث د. حيدر. فلئن كان مبعث الخوف هو طراوة الاتفاق، أو اعتماد نجاحه على متحولات غير منظورة، أو لأسباب لم يحسب لها الطرفان حساب لفهمناه، أما أن يكون بسبب القسمة فتلك نتيجة لا تبيحها المقدمة. فالجميع يعرف أن السياسة السودانية قد درجت على أسلوب في اقتسام السلطة في الفترات الانتقالية منذ أكتوبر 1964 يعتمد دوماً على أوزان القوى التي أحدثت التغيير. فما هو ،مثلاً، الوزن العددي مقارنة بالأحزاب، لجبهة الهيئات التي سيطرت على الحكم بعد سقوط نظام عبود؟ أوليس دورها في اسقاط النظام هو الذي فرض تحكمها في مفاتيح السلطة يومذاك حتى لم يَعُد للأحزاب في حكومة أكتوبر الانتقالية غير وجود رمزي. وما هو الوزن العددي للجيش والتجمع النقابي، بالنسبة للأحزاب، الذي أهلهما لتولي الحكم خلال الفترة الانتقالية بمعزل عن الأحزاب عقب سقوط نميري؟ أوليس ذلك بسبب دورهما الحاسم في اسقاط حكومة مايو؟ ثم أولم يقرر التجمع الوطني الديموقراطي فترة انتقالية تمتد لخمس سنوات (لا ثلاث) ، إن قدر له اقامة النظام الذي كان ينتوي اقامته، يختار حكومتها وبرلمانها من بين فصائل التجمع؟ ورغم أن التجمع تنظيم شامل لأغلبية الفعاليات السياسية (بما فيها حزب الأمة بحكم ما كان)، أوليس صحيحاً أنه لا يضم أحزاباً وجماعات خرجت عن تنظيماتها ولهذا حُرمت من عضويته مما كان سيخرجها من "مولد" الفترة الانتقالية التجمعية "بدون حُمص"؟ هذه المقارنة قد تكون عسيرة على الهضم عند البعض لأن أحد أطراف الشراكة المرتقبة في الحكم هو الحزب الذي كانت الحركة تحاربه، وما انفك التجمع يعاديه. ولكن الذي نحن بصدده هو ضرورة اتخاذ عيار محدد أساساً للمقارنة وامتحان المكائيل، فعيار الاقتسام في حالات النصر ليس هو نفس العيار في حالات الهزيمة، وعيار الاقتسام في حالات التصالح من مركز قوة ليس هو نفس العيار في حالات التصالح من مركز أقل قوة، كي لا نقول أضعف. وعلى كل، فبصرف النظر عن الأسباب الموضوعية التي قادت للقسمة الضيزى فان تخيل وجود مسطرة حاسبة Slide Ruler)) في السياسة تقاس بها الأوزان (عدا الانتخابات) خيال لا يسنده برهان أو تثبته قرينة.
    أن تكون لأغلب الناقدين لُبثة عند حديث القسمة باعتباره هو المبتدأ والخبر في قضية التحول الديموقراطي أمر مؤسف، وكأن كل عناصر التحول الديموقراطي التي تضمنها الاتفاق مثل الاحتكام للشعب بعد ثلاث سنوات، واعتماد مواثيق حقوق الانسان بصورة لم يعرفها أي دستور سابق بل تجاوزت ما أقره التجمع (وكان طرحه متقدماً على ما أوردته كل دساتير السودان السابقة)، ونقل السلطة فعلياً لا رمزياً للولايات بحيث سيصبح الحكم فيدرالياً بحق وحقيقة، وتأهيل أجهزة الأمن لتصبح أجهزة مهنية تحكمها ضوابط تتفق مع الأعراف وتخضع للدستور والقانون، كأن كل هذه أمور يستهان بها في معرض تحليل عناصر الانتقال من الشمولية إلى الديموقراطية التعددية. هذه هى المبادئ التي لا تقبل القسمة والتي يجدر الاهتمام بها.
    من جهة أخرى ينطلق التلبث عند قسمة السلطة، فيما هو بين، من حالة ذهنية لا صلة لها بالواقع الجديد الذي سيتولد من الاتفاقيات، مما يجعل من الجدل عراكاً في غير معترك. ففي بروتوكول اقتسام السلطة أصبحت وحدة القسمة هى الولاية لا المركز، ولهذا لن تبقى السلطة المركزية على ما كانت عليه، لا من ناحية السلطات، ولا الحجم، ولا النفوذ، ولا الموارد المتوفرة لها. الاقتراب السليم من قضية التحول الديموقراطي كان من جانب محلل سياسي نابه هو الأستاذ محمد الحسن أحمد. كتب في مقال ناقد للاتفاق يقول إن: "أكبر مكسب في مجمل هذه الاتفاقات على الصعيد السياسي هو التأكيد على إجراء انتخابات ديموقراطية في كل البلاد وبمراقبة دولية، وحتى تكون الانتخابات نزيهة وحرة ينبغي أن تكون الحريات متوفرة ومعززة والفرص متكافئة للجميع. واذا يُسرت كل تلك المتطلبات فانها بلا شك تجعل من نسب التوزيع في السلطة الانتقالية أمراً غير ذي بال بالنظر إلى أن برنامج الفترة الانتقالية هو برنامج تراضى عليه الجميع بل هو جماع اتفاقات السلام المفضية بعد سنوات إلى بناء السودان الجديد اذا أحسن الجميع تنفيذها. وبالتالي فان على القوى الحزبية أن تتهيأ للتنافس في الانتخابات القادمة بعد ثلاث سنوات" (الشرق الأوسط 10/6/2004).
    ليت التحليل والنقد اتجه إلى كيف يطور الاتفاق إلى واقع ملموس، وكيف تُحكم الضمانات لتنفيذه، وكيف يؤطر دستورياً ميثاق الحقوق الذي ورد في البروتوكول (الفقرة 6.1)، وكيف تتم المشاركة في اللجنة القومية للدستور التي يتحدث عنها البروتوكول (الفقرة 12.2)، وكيف تُكَّون اللجان الرقابية المستقلة مثل: لجنة الانتخابات، ولجنة حقوق الانسان، ولجنة الخدمة العامة، واللجنة القومية للخدمة القضائية؟ فاتفاقيات السلام ليست حدثاً Event)) وإنما هى عملية Process))، والعملية هى جملة أعمال تنشأ من مركز انطلاق واحد ثم تترى وتتفاعل.
    في خطابه عقب التوقيع على اعلان نيروبي (5 يونيو 2004) قال رئيس الحركة: "برغم أن الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني سيصبحان الشريكان الرئيسان في المرحلة الأولى للفترة الانتقالية إلا اننا نفهم هذه الشراكة كعملية لا تُقصي أحداً، ولهذا نسعى لضم كل القوى السياسية لعملية السلام، وعلى رأس هذه القوى الأحزاب المنضوية تحت لواء التجمع الوطني الديموقراطي. لهذا السبب اقترحنا وضع عقد اجتماعي ينعقد عليه وفاق شامل ويلتزم باتفاقيات السلام، كما يوضح بجلاء محددات الحكم الصالح، وأهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية خلال الفترة الانتقالية. يتضمن العقد أيضاً التزاماً اخلاقياً بالقيم التي لا يستقيم الحكم الصالح Good Governance)) دون الالتزام بها، على أن يكون ذلك في مدونة سلوك يلتزم بها اللاعبون السياسيون". هذه النظرة للمشاركة تنشد الارتقاء بها إلى آفاق تتجاوز الصراع على السلطة (بمعنى كراسي الحكم) إلى صراع حول الأهداف من الحكم، وتحويل الامتثال الاجرائي بقواعد الحكم الصالح إلى التزام أخلاقي بهذه القواعد.
    عَملٌ صالح أن تتجه القوى السياسية داخل القطر لانشاء تحالف لتحويل الاتفاق من صفقة ثنائية إلى اتفاق قومي. وأكثر صلاحاً الاتجاه بهذا العمل إلى القضايا التي تتناول جوهر الحكم، والوسائل التي تتيح مشاركة فاعلة في صوغ السياسات، ومراقبة التحول الديموقراطي. وقد كان للتجمع، بلا مشاحة، اسهام كبير في بلورة أفكار الحركة نفسها حول التحول الديموقراطي. وإن كان أحد طرفي الاتفاق (الحركة الشعبية) والذي هو عضو أصيل في التجمع الوطني الديموقراطي قد أبان الخطوط العامة لجوهر المشاركة، فقد أعلن أيضاً الطرف الحكومي رأيه واضحاً في بيان مشترك مع التجمع خلال زيارة النائب الأول لرئيس الجمهورية للقاهرة ولقائه مع قيادات التجمع. ذلك البيان تحدث عن "ضرورة تضافر جهود القوى السياسية كافة لترسيخ السلام وشموله وتعزيز التحول الديموقراطي والحفاظ على وحدة البلاد، وتخلي التجمع، ازاء ذلك، رسمياً عن العمل العسكري المعارض" (الحياة 11/6/2004). وجاء خطاب الفريق البشير في مساء يوم 29/6/2004 تأكيداً لذلك العزم، خاصة اعلانه السعي الجاد لادارة حوار وطني مع كل القوى السياسية.
    لقد أتاحت اجتماعات هيئة قيادة التجمع التي انعقدت في أسمرا في الفترة (14- 23/7/2004) فرصة مواتية لحوار مطول حول استراتيجيات التجمع المستقبلية خاصة في ما يتعلق باتفاق السلام والتحول الديموقراطي. ولعل من أبرز ما ورد في الخطاب الافتتاحي لرئيس التجمع (الاربعاء 2004/7/14) دعوة التجمع لـ " لأمرين، الأول هو الترحيب باتفاقيات السلام "طالما أنها تفضي إلى وقف الحرب والاقتتال وتحقيق التحول الديموقراطي والتبادل السلمي للسلطة، وتخلق واقعاً جديداً لترتيب الأوضاع السياسية للتعامل معه في اطار السعي نحو الأفضل". الأمر الثاني، كما جاء في الخطاب هو، "ان الاتفاق بين الحركة الشعبية وحكومة الخرطوم يظل مفتقراً إلى الاجماع الوطني الذي يضمن له النفاذ على أرض الواقع، ولن يتسنى ذلك دون مشاركة التجمع الوطني الديموقراطي والقوى الرئيسة". هذا رأي صائب لأن أية محاولة من جانب التجمع لتحقيق أجندته القصوى، أو رفع سقف مطالبه عما حدده في مبادرات السلام، مع عدم توفر الظروف الموضوعية لذلك يصبح تخبطاً أو مغامرة، وما أودى بالسودان غير تزيد المغامرين العاجزين عن فك الاشتباك مع أوهامهم. دعا رئيس التجمع أيضاً للابقاء على كيان التجمع مع "تطوير ميثاقه وآلياته للتوافق مع متطلبات المرحلة القادمة لتأمين الوحدة الوطنية والسلام والديموقراطية والتنمية الشاملة". هذه رغبات عملاقة، يتطلب تحقيقها جهداً عملاقاً. ونحن نبرز هذا الجانب من الخطاب لما فيه من استبصار لطبيعة المرحلة القادمة، وهى مرحلة لها رؤاها وآلياتها كما لها اخلاقياتها الخاصة التي تضبط التعامل. فلا أفكار الهيمنة والظلم العظيم من جانب، ولا نظريات الاستئصال للآخر المغاير أو توقع بناء السودان الجديد بالعنافة، من جانب آخر، تصلح في مرحلة "تأمين الوحدة الوطنية والسلام والديموقراطية"؟
                  

العنوان الكاتب Date
نعم هى ثنائية وللثنائية أسباب - منصور خالد يازولyazoalيازول07-22-04, 11:22 AM
  اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (2) Omar07-26-04, 02:02 AM
    Re: اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (2) يازولyazoalيازول07-26-04, 02:18 AM
      Re: اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (2) Zaki07-26-04, 12:49 PM
        المناطق المُهمشة: خيار بين الحيف والسيف Omar08-01-04, 10:55 PM
          Re: المناطق المُهمشة: خيار بين الحيف والسيف يازولyazoalيازول08-02-04, 00:06 AM
            بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات- المقال الخامس (1-2) Omar08-04-04, 11:39 PM
              Re: بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات- المقال الخامس (1-2) يازولyazoalيازول08-05-04, 02:52 AM
                Re: بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات- المقال الخامس (1-2) aymen08-05-04, 10:36 AM
              بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات- المقال الخامس (2-2) Omar08-06-04, 08:02 AM
                الدين والسياسة .. زراعة الإحَن وحصاد المحن Omar08-12-04, 12:50 PM
                  Re: الدين والسياسة .. زراعة الإحَن وحصاد المحن Omar08-16-04, 08:12 PM
    اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (3) Omar08-08-04, 01:57 AM
  Re: نعم هى ثنائية وللثنائية أسباب - منصور خالد Adil Osman08-05-04, 11:56 AM
    Re: نعم هى ثنائية وللثنائية أسباب - منصور خالد aymen08-05-04, 12:33 PM
      Re: نعم هى ثنائية وللثنائية أسباب - منصور خالد يازولyazoalيازول08-07-04, 07:22 AM
        الاقتصاد السوداني ... فرضيات الواقع ووهوم الأيديولوجيا Omar08-16-04, 08:17 PM
          Re: الاقتصاد السوداني ... فرضيات الواقع ووهوم الأيديولوجيا khider11-19-04, 01:21 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de