|
عندما ركبت الطائرة الجامبو بجلابية مغربية وسفنجة وشعر اشعث أغبر
|
فى بداية الثمانينات صادف أن كان الوقوف بعرفة (يوم جمعة) ، ولما كان المسلمين يحبون هذا اليوم الذى يصادف فيه يوم الجمعة فإن إحصاءات الحجيج اثبتت زيادة كبيرة فى مثل هذا الحج ، ويتدافع الناس بالملايين ليحجوا بيت الله الحرام ويوفو نذورهم ولا يرفثوا ولا يفسقوا ولا يجادلوا أحدا ، وكنت وقتها مغترب بمدينة الرياض ، فجاءنى الأخ الحبيب أبراهيم الشيخ شبور بسيارته الكريسيدا ، وقد أكمل إحرامه ، وهيأ عفشه وأغراضه للتوجه إلى مكة المكرمة عن طريق السيارة فى رحلة طولها حوالى الألف كيلومتر ولم يبق للوقوف بعرفة إلا يوم واحد ، وعرض علىّ فكرة مرافقته إلى الحج ، فأعجبتنى الفكرة ، وودعت أهل بيتى وأحرمت وتوجهنا سوياً صوب مكة المكرمة ، وتوقفنا عند مدينة الطائف ، فجر الجمعة الموافق ليوم عرفة ، لنستريح قليلا من وعثاء السفر ، وكنا نشاهد الواقفين فى عرفة عبر التلفاز ، وقد بدأوا يتقاطرون على عرفة منذ الصباح الباكر ، وبعد الراحة توجهنا نحو عرفات الله ، ووفقنا للوقوف معهم وإدراك هذه الشعيرة الهامة فى ذلك اليوم المبارك ، وعند نفير الحجيج إلى مزدلفة نفرنا معهم ، وبتنا ليلتنا فى مزدلفة ، وجمعنا هنالك (الجمرات) التى تستخدم بدءا من ايام التشريق فى منى ، وبالفعل توجهنا إلى منى ورمينا جمرة العقبة الكبرى ، وهناك فى ذاك الزحام ضاع منى رفيق الرحلة ، ولم أجد له أثر ، ولم أكن أحمل وقتها سوى هويتى ونقودى وجمراتى ، وأنا بملابس الإحرام ، وبعض أغراضى التى أحملها بيدى ، ولما لم أجد أثراً لصاحبى ورفيقى فى الرحلة ، فقد أوكلت أحد السودانيين الذين إلتقيتهم مصادفة فى الحج وسلمته بقية الجمرات خاصتى وأوكلته ليرميها نيابة عنى ، ففعل ، وتوجهت صوب مكة المكرمة وهنالك طفت بالبيت العتيق وسعيت بين الصفا والمروة ، وهما الركنان المكملان للحج ، ومن أمام بيت الله الحرام توجهت مباشرة إلى جدة ، بعد أن غيرت إحرامى ، ولبست ملابس داخلية ، وجلباباً (مغربيا) كان الغرض منه أن يقوم مقام (لبس النوم) ، وإنتعلت (سفنجة) ، وكان منظرى يرثى له ، شعر أشعث أغبر ، وجلابية مغربية (مشحتفة) وسفنجة ، وكيس هزيل وضعت فيه الإحرامات وبعض أغراض ، وكان كل ذلك فى صبيحة أول يوم من ايام التشريق وهو يوم النحر يوم عيد الأضحى المبارك ،
ومن جدة توجهت صوب المطار ، وإشتريت تذكرة طائرة للرياض من المطار ، وكانت الرحلات الداخلية بين الرياض وجدة متوفرة فى ذلك الزمن وتقلع على كل راس ساعة ، فحجزت على أول رحلة ، وأمرنى موظف الخطوط بالتوجه إلى صالة الركاب
توجهت ، بكل دلاقينى وسفنجتى نحو صالة السفر ، ولم ينتبه رجل الأمن إلى دخولى (من شدة الهلفتة) ، وفجأة أحس رجل الأمن بأن (ربما مجنونا) تجاوز الخط الأحمر للدخول ، فنادانى (مفجوعاً) ، تعال تعال تعال ، فجئت إليه ، فين رايح؟؟؟؟ قالها بإستعجاب وكأنه وجد صيداً ثمينا ليسلمنى إلى أمن المطار ، فجاوبته بثقه (الرياض) ، فقال لى هويتك ، فأعطيته الهوية فقلبها ذات اليمين وذات اليسار ، ثم طلب التذكرة ففعل فيها مثل ما فعل فى هويتى ، وتأكد من بطاقة الصعود إلى الطائرة ، وعندما وجد كل أوراقى سليمة ، ولا يوجد ما يدعو للريبة سوى شكلى المبهدل وشعرى الأشعث ، رمقنى بنظرة فاحصة ، من فوق لتحت ، ومن تحت لفوق ، وفتش جيوبى ، ولما لم يجد شىء يستدعى توقيفى ، أشار إلىّ بالمرور ، فتوجهت صوب الصالة ، والجميع يتابعنى بنظرات غريبة ، وتكرر المشهد عند باب الصالة المؤدى للطائرة ، ورمقنى العساكر وموظفى الخطوط بنظرات مبهمة مستعجبين من ذلك السودانى الغجرى الذى هو بصدد ركوب إحدى طائرات الجامبو متوجها للعاصمة السعودية ، وكأنما كنت (مفخخا) ،
وركبت الطائرة بكل هذا المنظر المبهدل ، وكأننى آتياً من السوق الشعبى بأمدرمان بعد أن أكلمت بيع جردل مويتى ، وبالطبع كانت سعادتى كبيرة وأنا فى الطائرة (مثل صعيدى فى القاهرة) ، وخصوصا بعد إقلاع الطائرة ، وإختفيت فى مقعدى تماماً وقد بلغ منى التعب شأنا عظيما ، ووصلت ظهر يوم السبت إلى منزلى فى الرياض أول أيام عيد الأضحى ، وقد وجدت المنزل ممتلئاً بالضيوف الذين أتوا لمباركة العيد ، وبعضهم أتى ليطمئن على أولادى ويبارك لزوجتى (حجى) الذى قسمه الله لى ، وليسألوها متى سأعود ،
وما أن دخلت المنزل ، حتى إنفجر الجميع يضحكون مما رأوا ، فلم يكن أحداً متوقعا حضورى بهذه السرعة ، وبهذه البشتنة ، فبادلتهم ضحكا بضحك ، ولم ألتق صديقى الذى ضاع منى إلا بعد أربعة أيام بلياليها ، بعد أن اضناه التعب بالبحث عنى ، وصارت اليوم جزءا من ذكريات جميلة من زمن بعيد ، وقد حججت بعدها إلى بيت الله الحرام سبعة مرات بالتمام والكمال لشدة ما أفتانى المفتون بأن حجتى لا شك ناقصة رغم قناعتى بإكتمالها حيث أننى (تعجلت فى يومين) للظروف الواردة ، بارك الله لى ولكم فى جميع أعمالنا وجعلها خالصة لله رب العالمين
|
|
|
|
|
|
|
|
|