إن تومو فيل وأحوال أخرى!

الفاتح جبرا .. في ذمة الله
نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب د. الفاتح يوسف جبرا فى رحمه الله
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 09-23-2024, 05:09 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-05-2023, 02:01 AM

mustafa mudathir
<amustafa mudathir
تاريخ التسجيل: 10-11-2002
مجموع المشاركات: 3553

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في الأحوال الأخرى، تروما اليوم، تروما الأ (Re: mustafa mudathir)

    صعود

    قصة قصيرة

    في نهارٍ مطير بمدينة جوبا، وعلى رقعة معشبة من فناء مدرسة، وقف أحمد بين سُوق وأغصان، يتحسس حلقه بيده. الأيام السابقة كانت لا بأس بها، أصاب فيها علماً جديداً، وجمعته مع آخرين أنشطة متنوعة، رغم ميله للعزلة. لقد وضع نفسه، إثر قرار عجول، على المحك وسط جماعة من الناس، وقد كان قبلاً يتحاشى ذلك. فطفا به التعامل المباشر مع الناس بعيداً عن مخاوفه، حتى أن أغنية شكّ أنها من صنعه، رقصت بعيداً عنه إلى غِمدها في النسيان، كبرقٍ بعيد خرّ فوق قتامة الأفق.
    ها هو مشرفٌ على عشب مُنَدّى، وقد كفّ الرذاذ. تطن حوله حشرات دقيقة، دون أن تزعجه. ولقد نال، أثناء الرحلة، بضع لدغات من البعوض، بلا عواقب. وقضى لحظات ممتعة مع العناكب الواثبة، لكنه لم ير حشرة مروّعة في محيط إقامته، بعكس ما هجست توقعاته عن المكان والمناخ.
    هكذا كان مزاجه في نهار اليوم الأخير من الرحلة.
    الرحلة قامت بتنظيمها مجموعة من الطلاب، ارتبط بهم أحمد رباطاً غير محكم وهو في سنته الأولى بالجامعة. لم يكن يعلم شيئاً عن منظمي الرحلة، لكنه رغب في الذهاب بسبب حماسه المطلق للسفر، وكذلك لأن العرض جاءه من بكري، زميله في المدرسة الثانوية، الذي سبقه إلى الجامعة بعام. ولقد حرص بكري هذا على إطلاع أحمد على أنشطة الجامعة المتعددة.
    **
    في إحدى الأمسيات، قبل السفر، التقى الصديقان في المحطة الوسطى للدردشة عن الرحلة. المحطة لم تكد تبين، في تلك الساعة، من فرط الغبار الذي همَى عليها. اختار بكري بقامته الفارعة ونظارته الطبية أن يسند ظهر كرسيه على حائط خشبي، تدلت منه صحائف بالية واعلانات عصف الغبار بدبابيسها، بينما جلس أحمد قبالته بشعر كثيف ونظرات شاردة وبجسد يميل إلى البدانة. لم يكن لدى أحمد أي خطط لقضاء عطلة ذلك الصيف، بعد عام دراسي مرهق، عانى فيه من التكيف على نمط الحياة الجديدة. وزاد على مصاعبه فقدانه لأمه إبان تلك السنة الدراسية.
    بدأ الناس يهيمون من نواحي الغبار إلى قلب المحطة. وخلص الصديقان، من مجلسهما في ركن أقل غبرة من المحطة، إلى أنهما على المستوى الشخصي، مستعدان للسفر، فالرحلة كانت زهيدة التكاليف رغم طول المسافة. علاوة على ما بالصديقين من شغف بالاستكشاف وحبٍ للمعرفة يتبادلان عطره، كلما التقيا.
    رفع أحمد كوبه وهزّ كرسيه ثم قال، بطعم الليمون اللاذع على لسانه: "المكانَ جميلٌ بلا شك. جوبا وتجربة المناخ الاستوائي لأول مرة". داس بكري على طرف نظارته الطبية ثم قال بابتسامة مشرقة، "بالتأكيد المناخ مثير للاهتمام. وستجد بعض الإلهام من الطبيعة." وألمح بذلك لمحاولات أحمد في الشعر عندما كان في الثانوية. ثم أضاف، بعد أن مدّ عنقه كما لو أنّ البص الذاهب إلى أم درمان قد لاح له من وراء رواد المحطة، "هناك أيضاً فرصة لعمل في مصلحة التقدم مع صعود القوى الديمقراطية." والتفت مرة أخرى بعد أن رأى تعبير اعجاب على وجه أحمد. كان أحمد قد قرأ مقالاً عنوانه (صعود القوى الديمقراطية)، ضمن أوراق أحضرها له بكري قبل فترة، فلمس فعالية عبارة صعود ووقعها المبّشر. عاد بكري يقول: "أمامنا كشباب أن نبني دعائم السلام وفق رؤية تقدمية". وبذكر بناء السلام طرأ على أحمد سؤال السلامة فقال لصديقه: "أتساءل، كم هي آمنة جوبا هذه؟" فرَد بكري: "غالباً آمنة، وأهلها فرحون بإعلان الحكم الذاتي"، ثم استدار مرة أخرى وفي يده كوب الشاي وبدا منشغلاً بتفحص الحافلات التي تدخل المحطة. لم يبدُ مكترثاً بشأن السلامة، لكن أحمد استدعى الحدث في توريت، وسأل بكري: "هل سمعت بالتمرد في توريت؟" فأجاب بكري وقد امتعض: "نعم. مات عمي في تلك الأحداث، ولكن توريت بعيدة عن جوبا". فقال أحمد، "قرأت أن البريطانيين دبروا ما جرى في توريت". فوافقه بكري قائلاً، "نعم، لكنه حادث قديم، قبل شهور من اعلان استقلال السودان." ثم أضاف بغبطة، " كانوا يحلمون بالبقاء في السودان." وانتصب واقفاً وهتف: "هيا، لقد وصل البص!"
    في زحمة الزحف نحو باب الركوب راجع أحمد في ذهنه النقاط المتعلقة بالرحلة فتذكر المسألة التي لم يشأ أن يتحدث عنها وهي خوفه من الحشرات. لقد ظلت أمه تردد أنه كاد أن يُلدغ من عقرب في طفولته، حتى صار يخاف من كل الحشرات. رأى أنه من نوع المخاوف التي يستنكف الواحد في الإفصاح عنها. في الطريق، وهم في البص المتجه إلى أم درمان، عاد بكري ليضيف حدثاً آخر تذكره، وقَع في مدينة واو، فاجأته به ذاكرته في الزحام، ولم يعرف عنه أحمد، لكن بكري سارع لتطمينه قائلاً: "لا تخف. واو أيضاً بعيدة عن جوبا." وهكذا وبرغم شح معلوماتهما عما إذا كانت جوبا آمنة، قرر الصديقان السفر.
    **
    كتب أحمد في مفكرته يصف المكان على طرف المدرسة في آخر يوم في الرحلة:
    "وقفت مرتدياً قميصي الأحمر، أتأمل ذلك الجانب من المدينة الذي نزلنا فيه. كيف يمكن أن تتحسن حياة الانسان في هذه الأدغال؟ وبغتةً ارتد من حلقي، مراً وحارقاً، طعم مسكن الألم الذي أخذته قبل قليل، ومضيت أفكر، فلم تكن لدي إجابة واضحة، أبعد من حدود التمني، عن أسئلة التنمية، بخاصة في الأحراش والأطراف البعيدة.
    عادت رجلي تؤلمني وأنا أقف في فناء المدرسة التي لا أسوار لها وقد خُصصت سكناً لنا في تلك العطلة الصيفية. كانت الحشائش والهوام في كل مكان. والناس والحيوان يحجلون في حالهم، غير بعيد عن ناظريّ. ويبتسمون بإعياء نحوي، فأنتبه لأنني غريب أو ربما أجنبي!
    كان الألم الذي برجلي، جراء إصابة قديمة، قد تفاقم بسبب مشاوير الأمس، حين تجوّلت في بعض أنحاء المدينة، مع معارف جدد، طوال القامة، من أبناء الجنوب، من عامة الناس خارج المعسكر وتبادلنا العبارات الطيبة والبسمات الناصعة. وكنت أبغض ذلك الألم الذي يعتري ساقي كلما استجبت لفرح المشاوير، وأبغض الدواء الذي يسبب لي دواراً وارتباك، رغم نفعه.
    جال بصري في المكان وتوقفت طويلاً عند القطاطي، أكواخ الفقر تلك المبعثرة غير بعيد عن فناء المدرسة وكنا قد فضلناها على فصول المدرسة كمساكن، فنقلنا إليها أغراضنا بعد إذن مدير المدرسة. تقف الواحدة من هذه القطاطي، في تفردها، ضيقة لمن يراها من بعيد، لكنها، بشكل مفرح، تكشف لداخلها عن رحابة وسعة، فنقلنا إليها الأسّرة، وكانت معدنية وباليّة حتى قال أحدهم: هي باليّةٌ لتبلوّنَك بالصرير، وعليها مراتب قطنٍ مستهلكة."

    **
    التزم أحمد ببرنامج الرحلة الذي كان ثقافياً في أغلبه. نقاشات عن السلام والتنمية وعن الأدب، تم بعضها في صالة الطعام، فوق صحون (فتة) الفول والعدس. ودأب على حضور قعدات في النجائل، الصلعاء بسبب ركض التلاميذ عليها، عن الفن وعن الاشتراكية. جرى كل ذلك في المدرسة التي أخلتها من تلاميذها إجازةُ الصيف. واستمع في احدى جلسات السمر تلك، وباهتمام ينتابه لأول مرة، لأغاني (حقيبة الفن) من شباب في سنه. أرخى لها أذناً بعد أن كان يظن أنها أغاني الشيوخ، ربما لورودها في محطة راديو أم درمان قبل وقت صلاة الجمعة، وما يعقبها من مدائح وأحاديث دينية. ووجد بعض الفكاهة من نفر يتغالطون في مصطلحات انجليزية، معرّبة وغامضة، بحماس وصريخ، تحت الشجر داكن الخضرة والسماء المتراكبة سُحُباً.

    **
    دوّن أحمد في مفكرته مشهداً رآه في ذلك النهار:
    "ها أنذا في اليوم السابق لانتهاء الرحلة، وبسحر الجو الخريفي، يتغلب عليّ فضول السعي بلا هدف في شوارع المدينة المحفوفة بالنباتات الاستوائية. وكان يلح على ذاكرتي البرنامج الأخير في الرحلة وهو اللقاء مع ضابط عظيم، جاء من الخرطوم لمناقشة قضايا تنمية الإقليم، لا أدري لماذا تحوّل أمره لنوع من الازعاج، ولم أسمع عنه سوى بالأمس. ترنحت في طريق غير متوقع انبثق أمامي فأبعدني عن المعسكر. بدوت في قميصي الأحمر وبنطلون الجينز الأزرق متسقاً مع أوراق الشجر العريضة، في خضرتها المترعة، وقابلت أناساً في الطرقات داكنة السمرة تفانوا في تحيتي، لكأنني الغريب الذي طابت رؤيته. وبعد مشية مسحورة بين أنصال النبات وما بها من زخم القربى وكثافتها، رأيت جذع شجرة ضخم، مغروز على جانب الطريق يلف حوله صبية في فوضى ضجيج. صعد ذلك الجذع كأنه يبغي السماء، فدار رأسي بسببه حتى استردته لي صيحات الأطفال فعدت فضولياً مثلهم. أسعدني ضحكهم رغم فقر هيئاتهم وملابسهم المهترئة. دفعت بجسدي مخترقاً حشدهم، وسألتهم بتواصل أقرب للغة الجسد، فقالوا شيئاً لم أفهمه لكنني رأيتها.
    كانت حشرة بعجيزة ضخمة وأرجل مشعرة مستنفرة وقرون استشعار مشرئبه تتسلق الجذع المغروز في الأرض رأسيا وسط حماس ومتابعة الصبية."
    *
    كانت الحشرة عظيمة الكَفَل، وفي حجم ثمرة البلح، ربما نملة ضخمة أو خنفسة لكنها بأبعاد لم يألفها أحمد، تدب في جذع الشجرة المغروزٌ في وسط القطية (الكوخ)، والمخترقٌ لسقفها. رآها وهو يستلقي بعد أن عاد إلى الكوخ من مشواره مع بكري. ولأول مرة، أعجبه دبيب حشرة. أحس براحة في متابعتها في ركضها حتى وصلت نقطة بالقرب من سقف القطية العشبي الجاف، فظن أنها وصلت لوجهتها، لكنها تعثرت، كأن شيئاً قطع عليها الطريق. اتكأ أحمد على كوعه في سريره الصِّريّر، فرأى الحشرة تسقط عمودياً على ظهرها في الأرض. هب جالساً، إذ خشي أنها قد أحدثت صوتاً مكتوماً، ولمعت في ذهنه ذاكرة غامضة لهزيم بعيد. لم يكن نشاط المتمردين قد توقف نهائياً. وفي هنيهته تلك تمثلت له جلسة المحطة الوسطى وحديث بكري مزداناً بعبارة صعود. لكنه أرخى أذنيه فلم يسمع سوى رجع صوتٍ ناءٍ ومتصل. كانت أرجل الحشرة المنقلبة قد نسجت، كما تراءى له، ثوب عزمها على النهوض، بينما ران السكون على القطاطي (الأكواخ) في المعسكر، فبدت فكرة الانفجار البعيد محض هاجس. الجميع، كما قدّر أحمد، تفرّقوا في يومهم الأخير لوداع المدينة، فمنهم من ذهب للتجهيز للقاء الضابط الكبير وآخرون ذهبوا للأسواق بحثاً عن خيرات جوبا ليعودوا بها لأهلهم.

    **
    وبعودة لمفكرة أحمد عن مشهد الأطفال والحشرة نقرأ:
    "عندما قررت تجاهل لقاء الضابط كنت، في الواقع، قد فضلت عليه حكاية الحشرة. فهي برنامج أمتع لي من الجلوس لسماع خطبة سياسية لن تنفذ وعودها، بأي حال، في نفس اليوم. رأيت أن مُتعَ الحاضر أكثرُ جاذبية. ولقد عظمت في نفسي جهود الحشرة الحماسية والعزم الذي أظهرته. فهي صعدت مسافة قاسية على العود، لتنزلق إلى السقوط مرة أخرى. ودون رادع، عادت لتصعد، وتكرر دورة صعودها مراراً ولم أدر ما كان يفعله الصغار بها.
    استثارت مساعي الحشرة خيالي، تماماً مثلما سما به عرض الموسيقى الذي قدمه بالأمس عازف الجيتار في فرقة العقارب، وقد تفاجأت بمشاركة الفرقة في الرحلة. لقد وقف ذلك العازف عارياً تحت رذاذ المطر فأرعد وأومض فينا بأجهزته الكهربائية. كانت سقطة الحشرة، في مرات، تكاد تُسمع لها دمدمةٌ، كمُدفعٍ في نزاع مضى، ودائما كانت تقع على ظهرها. وفي مرة، بدأت صعودها بالتسلق على أطرافها الخلفية ووجها مشرفٌ إلى أسفل، أي (حركة وراء) كما جرى وصف ما تفعله السيارة، فضج الدغل بضحكات رنانة، وحثيثا واصلت هي سعيها نحو قمة لم أتبينها. وصعب عليّ أن أسأل ماذا تفعل في القمة. كان الحشد حولي يتدافعون وهم معجبون بافتتاني الفائق بالحشرة وسرعان ما يؤكدون تشجيعهم الخاص لاستمرارها بعبارات داويةٍ من لغتهم يتقاذفونها بينهم، ولا أفهمها. في الحقيقة طاب لي أن مقصدي من رصد الحشرة بدا مختلفاً عن مقصدهم هم، فلربما سألوا، متى؟ وسألت أنا، لماذا؟ لكن مقصدي نفسه لم يكن متفائلاً."

    **
    كانت الحشرة قد انعدلت على أرجلها الست وتسلقت العود بخطوات سريعة نحو سقف الكوخ. راقبها أحمد وقد تعلق بدأبها لكنه ما فتئ يجادل نفسه، بتأثير من كلمات بكري، في قراره ألا يذهب لسماع خطبة الضابط. كان قائد المعسكر قد تلا عليهم بالأمس تنويراً عن زيارة الضابط فقال إنها تأتي دعماً للوحدة وتعزيزاً لجهود الطلاب في ترسيخ السلام، وخلا حديثه من عبارات موحيّة مثل صعود القوى وغيرها. والموضوعات التي وردت في كلامه كانت جيدة في نظر أحمد، لكنه لم يكن مقتنعا بأهلية الضابط للحديث. كانت حكاية الضباط الذين يتكلمون في السياسة، غامضة ومشوبة بالخطر في تقديره. لكن طرق أحمد لهذا الأمر وما نابه فيه من قلق استدعى مسألة أخرى، ولأول مرة منذ بدء الرحلة، وهي أنه ربما، هو الآخر، لم يكن أهلاً للمشاركة في هذا المعسكر، فهو يذكر أن كل شيء تم بسرعة لم ينتبه لها، إذ أن زميله في الثانوية بكري قام بتعريفه، أول ما رآه في حرم الجامعة، وهو بعدُ (بريليم) وفي غشاوة، ببعض الأسماء اللامعة في الجامعة، مثل الشعراء، ثم أحضر له أوراقاً ليقرأها، وفعلاً قرأ بعضها، رغم وعورتها، ووقعت في نفسه موقعاً حسناً لكن بكري حاول اختباره فيها، فرفض أحمد الاختبار. ثم عاد بكري وقال له إنه تم قبوله في الرحلة إلى جنوب السودان. انحلت العقدة بلا اختبار. وسقطت الحشرة من علٍ فوَجَم أحمد وهو مستلق على جنبه في السرير.
    **
    ونقرأ في مفكرة أحمد:
    "مر وقت أبدت فيه الحشرة ما في وسعها من العزيمة والتصميم بين صعود وهبوط. ومع عودة الشمس لسطوعها الساخن، سيطر التعب عليّ وتذكرت أني أرهقت رجلي بالمشي بالأمس. التعب أوعز لذهني بالشك في فائدة انخراطي في لعبة لا أعرف عنها شيئاً، فمثلاً هل كانت الحشرة تعرف هذه اللعبة، مثل الأولاد؟ هل أتوا بها أم وجدوها هنا؟ وكيف تشارك فيها بهذا الحماس كأنها مروّضة. لكني رأيت أن اهتمامي بالحشرة لا ينبغي أن يذهب سدى، لمجرد أنني لم أدرك كنهه. فهناك ما يخفى عليّ ويدركه هؤلاء الصغار. وفي لحظة فارقة تصاعدت شهقات الصبية، إذ تمكنت الحشرة، في محاولة أخيرة، من الاقتراب من هدفها وهو، على ما بدا لي، بلوغ أعلى نقطة في العود والبقاء هناك. صارت على بعد بضع سنتيمترات فقط من القمة. النصر صار في متناول اليد والقلوب خفقت بالترقب. ارتفع يقيني بنجاح الحشرة. لكن القدر سخر منا جميعاً وفقدت الحشرة قبضاتها، فهوت من شاهق. تذكرت مع سقوطها عبارة سمعتها بالأمس تعني تقريباً (هناك قوى لا تريد لنا النهوض) وصدرت تنهيدة جماعية من الحشد، لكأنها ترجيع لخيبة أملي الأكيدة."

    **
    في مرتها الثالثة، صعدت الحشرة بهمة، تجاه تلك النقطة المبهمة، قرب سقف القطية، وسقطت مجدداً، فقام أحمد من مرقده وأشرف عليها بحذر وهي تشد وترخي أرجلها، كأنها تستجمع قواها. تفحّص السقف مستعيناً بسرير فوقه سرير، فلم يجد ما يمنع الحشرة، أن تلج ثغراته الناتجة عن اختراق العود. وقبل أن يفهم السبب في تعثرها عن بلوغ بغيتها، دخل عليه بكري في محاولة أخرى لإقناعه بالذهاب معهم لسماع حديث الضابط، لكن أحمد، دون أن يطلع بكري بأمر الحشرة، كان جاهزَ الحُجة، بأن ساقه تؤلمه ولا يستطيع الذهاب. ولم يكن صادقاً بشأن الألم في رجله، فدبيب الحشرة كان قد أنساه ذلك الألم. وهو لم يعد سوى متشوقٍ لمعرفة مصير الكائن في إلحاحه على التسلق نحو السقف. وكما توقع، غير عابئ، لم يعجب اعتذارُه البارد صاحبه بكري، الذي خرج بتعبير غاضب على جانب وجهه. فقال أحمد في نفسه، على طريقة السينما: دعوني وشأني، بحق السماء!
    ثم عاد يراجع الأمر بين يديه. هذه الحشرة تريد الوصول لنقطة قرب السقف، ولكنها لا تنجح ولا تيأس. أحتار أحمد في أمرها. لم يكن القوت همها، لا البحث عنه ولا حمله على ظهرها كانا وراء سعيها المحموم ولا كان التناسل، كيف يقسو التناسل لحد تكرار السقوط من شاهق؟ واصل أحمد مراقبتها عن كثب وفي مرة كاد يعينها على النهوض على أرجلها المرتجفة لولا خشيته أن تحمل عليه. انحنى يتأملها بخوف وشغف، كما لو أتته منها رسالة تعايش. كانت سوداء اللون بجسد مفصص وخصر متناه. كانت مخيفة حقاً وهي تفرك قوائمها المشعرة كأنها تتوعد أحدهم بالانقضاض. لكن أحدهم هذا لم يكن أحمد، فهو كان جاهزاً لتلقي رسائل من تكرارها للفعل.
    **
    وكتب في مفكرته:
    "لقد خابت النتيجة التي كنت أرجوها، وماتت الحشرة إثر سقطتها الأخيرة، ثم أعقب ذلك عراك نشب فجأةً بين الصبية. كان أحدهم يضم قبضته إلى صدره العاري والآخرون يحاولون نزع ما بقبضته عنه، فتمحوّروا حوله وزوبعوا فذهبت بهم زوبعتهم بين الأغصان، وتبدد تعاطفهم مع الحشرة في حرش كثيف. قلت لنفسي، وبصوت مسموع: إنهم حتى، لم يتأكدوا من موتها؟ ومددت ذراعي فقطعت فرعاً جافاً ومسستها ثم أغلظت غرزاً في جسدها. كانت ملقاة على ظهرها وأرجلها المشعرة منتصبة، ولكن لا حراك فيها فلقد قضت رهقاً! وأسرعت أبتعد عن المشهد، ولا أكاد أغادره.
    ولمع تحتي، بغتةً، نفس العشب اليانع، كل مساحة المدرسة حضرت أمام ناظريّ جلية. وأول مَن رآني كان بكري الذي صاح: أين كنت يا رجل؟ لقد بحثنا عنك.
    وسرنا نتحدث قرب سور المدرسة الذي اختلف الناس حول موقعه الحقيقي فعبر بذهني أننا سنغادر دون أن نعرف كثيراً عن هذه الأنحاء."
    **
    كانت الحشرة قد سقطت مراراً، وصادف سقوطها الأخير عودة رفاق المعسكر وهم يحملون معهم كثيراً من الصخب. وما إن دخلوا حتى أشعلوا الحديث عن الضابط وكيف أنه مثال للمثقف الذي يطرح رؤيته بوضوح، وقال أحدهم: قلما تجد ذلك بين ضباط بالجيش. وسأل آخر، ثم ماذا بعد أن يصعد الضباط إلى السلطة؟ وران صمت وترقب، إذ لم يجد ذلك القول استحساناً فعاد صاحبه يسأل بصيغة اعتذارية: لماذا لا نقرأ التاريخ؟ فقال له صوت خفيض مسموع: التاريخ لا يعيد نفسه، واشتعل الهرج والأقوال المتعارضة. لم يعبأ أحمد بكل ذلك، إذ كان في شغل آخر وهو أن يخفي الحشرة من رفاقه بزحزحتها تحت السرير. لم يدر لماذا فكر في ذلك أو ربما هو لم يفكر، لكنه استطاع، في خلسة، أن يكفأ نعلاً فوق الحشرة، وهي تحت سريره، ولمست قدمه ما ظنه بعضاً من قوائمها المشعرة، فاقشعرّ وأخفى ما أراعه. وقضى القوم باقي تلك الليلة يتحدثون في المواضيع التي طرحها الضابط في الندوة، إلاّ أحمد فهو لم يحفل بهم، بل كان يستعيد في ذهنه تسلقات الحشرة ودوافعها وكيف ماتت بتلك الطريقة العمودية.

    **
    كان بكري مستاءً من فتور أحمد تجاه حضور ندوة المساء الأخير في جوبا. كانا قد سارا في اتجاه القطية (الكوخ) ثم تجاوزاها وعادا نحو سور المدرسة الافتراضي، لم يفهم أحمد ضرورة استياء بكري، لقد كان معروفاً بالرقة، بل هو شاعر وممثل. ولكن أحمد سمع منه عبارات جادة احتفظ منها بكلمة (انضباط) لردح من الزمان بعد ذلك. كانا يجيدان الإصغاء، أحدهما للآخر، فتحدث بكري طويلاً عن أن مشاركة أحمد في الرحلة، في أصل الموضوع، كان مقصوداً بها منحه فرصة أن يستمع "لحمَلة مشاعل الوعي، ليقرر فيما بعد الانضمام إليهم"، تلك كلمات بكري، وأضاف إليها: "إنها دعوة أتاحها لك نشاطك المستقل، أذكر تلك الجريدة الحائطية أيام الثانوية، التي كنت تصدرها باللغة الإنجليزية، وطبعاً اهتمامك بالأدب والترجمة." اندهش أحمد لذلك القول فهو لا يذكر أنه رأى بكري واقفاً أمام تلك الصحيفة، بل لم يلتقيه إلاّ لماماً أمام بورد الصحف اليومية التي كان يرفعها اتحاد الطلاب. تعجّب كيف أن بكري لم يذكر له صيحات الانتصار التي كان يطلقها أيام كان الفيتكونج يشنون حملاتهم الظافرة على القوات الأمريكية في فيتنام وتلك كانت مسألة ملفتة لكثيرين وتسببت في جفوة بين أحمد وبعض معارفه الذين لم يستحسنوا تأييده الصارخ لشعب فيتنام. ورغم أنه سمع بالاستقطاب هو لم يتوفر على فهمه، إلاّ أنه استنتج، عند تأمله لبكري بعيونه الضيقة خلف نظارته الطبية، أن هذه المعلومات عنه لم تكن بلا قيمة.
    توقف أحمد عن السير بالقرب من الكوخ، وقد دارا حوله للمرة الثانية. وتحسس ساقه. كان بكري قد صمت ليسمع من أحمد فقال الأخير بأداء مسرحي وبتعابير وجه متعب: "يا أخي، عندما أغيب عن مخاطبة الضابط فهذا يعني أنني منشغل بشيء مهم فلقد شهدت اليوم درساً من الطبيعة في معنى الإقدام والمثابرة."
    لكن بكري لم يهتم لقوله، بل ظنه يحاكيه في التمثيل ويمزح، فسأله: أين قضيت كل هذا الوقت؟ هل مشيت لناس المَلوص (لعبة خداع) أم ماذا؟
    رد عليه أحمد باستنكار: لم يكن مَلوص!
    فقال بكري بثقة: أليس هم الصبية على جانب الطريق إلى الترعة؟ وابتسم.
    كان بكري من المشرفين على شئون المعسكر.
    تذكر أحمد أنه شاهد المَلوص، يلعبه المشردون خلف دار السينما بأم درمان ولم يحدث أن رأى عندهم حشرة. لكنه لم يدل بهذه المعلومة.
    وواصل بكري فسأل أحمد: ألم يهرب أصحاب اللعبة في النهاية؟
    ردّ أحمد بضيق: صحيح، تفرقوا بسرعة، لكن لم أر في الأمر خداع!
    ثم غاظه أنه لم يفهم جيداً لماذا كان ذلك الصبي يضم شيئاً إلى صدره قبل أن ينسحب هو ورفاقه.
    وابتسم بكري ابتسامة ماكرة، كونه عرف عن هروب الصبية، ثم قال: خذ مهلة للتفكير في الذهاب معي، وسأعود!
    وأسرع مبتعداً.
    عاد أحمد يتحسس ساقه، ونظر إلى السماء. "بكري لا يهمه أن يسمع قصتي"، قال لنفسه. كانت الشمس قد مالت إلى العصر.
    **
    في صباح اليوم التالي قام أحمد باكراً ليواري الحشرة الثرَى خارج القطية وكان رفاقه غارقين في النوم. لقد استحى بالأمس، أن يعرفوا موضوع الحشرة وهم ممتلئون بحضورهم ندوة الضابط، تصوّر أن بكري والآخرين من الممتلئين كان سيتم تحويل اهتمامهم لحشرة، وسيكون ذلك غايةً في الحرج. لم يكن ما حدث للحشرة من اختياره بالطبع، لكنه كان الاختيار نفسه مطرظاً بوقائع متشابكة لا يسهل سردها بلا توقع استهجان من السامع، وهو أصل النظر في أمر حشرة، فالحكاية قد تبدو تافهة، لكنها شهادة نابضة عن اللحظات الأخيرة في حياة كائن بحجم معتبر وقدرة فائقة على الحركة وكذلك على تحدي الموت، بلا سجّل يرصد ذلك.
    وذلك ما عبّر عنه أحمد في مفكرته:
    "كأنها اختارتني شاهداً على صعودها وموتها، كأن لها صوتاً دعتني به لمتابعة ما يدور وسمعته أنا، قالت لي: لا تهتم، أنا لا أتألم. فخذ مني عبرة. وحيدةٌ كانت حين أقبلت على هلاكها بحماس، فيما عدا شخصي يتابعها، ولكن لماذا عُلّقتها هكذا؟ ما دخلي وما الذي أجنيه من رصد هذا الفصل الأخير من حياة حشرة."
    **
    لم يجد الحشرة تحت سريره. حار أين تذهب حشرة ميتة، لقد كان متأكداً أنه أخفاها عن رفاقه. ذلك شيء مخيف. فكّر أنه ربما أتى فأر بالليل فأكلها، أو ربما تعشت بها عقرب. ربما هي لم تكن ميتة أصلاً، فقط غابت عن (الوعي) وعادت له. ارتعد وهو يفكر في الاحتمالات المرعبة. لكنه بات متأكداً أن مثابرة الحشرة لم تكن متعلقة بضروريات حياتها كالطعام أو التكاثر، بل برمزية ما، بواجب في الصعود بحدة والهبوط إلى الموت، ذلكم كان بيت القصيد، البيت الذي لن يدخله غيره، وفق ما قررت دواخله.
    **
    حدثت مفاجأة يوم سفرهم عائدين إلى الخرطوم، حيث أتيحت لهم فرصة مجانية لركوب الطائرة ناقلة الجنود (انتنوف)، فتركوا سفر الباخرة وما فيه من مشقة وركبوا الطائرة.
    وفي وقت قصير، بعد عودتهم لأهلهم زار بكري صديقه أحمد. وبعد التحايا والممازحات، بعد اجترار تجربة الطيران وقوفاً في طائرة نقل الجنود وأهوالها، طلب بكري شنطة اليد، وكانت مرمية في ركن من حجرة أحمد، قال إنه يريدها لسفرة سريعة لأهله في عطبرة. فقال له أحمد: خذها، فسأله بكري بخبث خفي: ألم تخرج بها؟ رد أحمد: لا حاجة لي بها ولا أخرج، فقال بكري وهو يخطو نحو الشنطة: لقد وضعنا لك فيها مفاجأة!
    ثم تجاهل نظرات صديقه المتسائلة ورفع الحقيبة ونظر داخلها، وأحمد يتابعه، وقلبها ونفضها، فسقطت منها قصاصات ورق صغيرة تهاوت على ارض الغرفة، على مهلها.
    قال أحمد: ما هذا؟ أين المفاجأة؟
    وضع بكري الشنطة جانباً وجلس فحكى لأحمد:
    "تغيير السفر من الباخرة للطائرة، لّخبَط كل شيء. تذكر تلك الليلة، قبل السفر، بعد عودتنا لقاء الضابط، حكى أحد الرفاق أنك كنت تزحزح شيئاً، كأنك تخفيه عنا، فأسرّ ذلك لمحمود، وانت تعرف شقاوة محمود، فقام وأنت نائم وبحث تحت سريرك فوجد حشرة ميتة، واقترح أن نضعها في ملابسك كدعابة، ولكننا أثنيناه عن ذلك وقلنا نضعها في شنطتك، ذلك أخف عليك!"
    ثم ضحك باقتضاب وقال:
    - وبعدها سافرنا في تلك البهدلة،
    ثم أخذ الشنطة وقال: "دعابة خشنة، فعلاً، والآن لديك حشرة تختبيء في ركن ما،" وركض نحو الباب وهو يضحك، بينما سار أحمد بهدوء نحو مكتبه ليواصل كتابة فصل جديد في مفكرته عنوانه بيت القصيد. وقبل أن يمسك قلمه، فتح درجاً ليلقي نظرة بداخله. "كانت حشرة بعجيزة ضخمة وأرجل مشعرة مستنفرة وقرون استشعار مشرئبه،" ترقد في مهد شمعي أحضره لها من قسم علم الحيوان بالجامعة. وكانت رائعة وهي لا تحرك ساكناً.

    انتهت

    (عدل بواسطة mustafa mudathir on 11-09-2023, 06:32 PM)
    (عدل بواسطة mustafa mudathir on 11-09-2023, 06:47 PM)
    (عدل بواسطة mustafa mudathir on 11-24-2023, 07:55 AM)







                  

العنوان الكاتب Date
إن تومو فيل وأحوال أخرى! mustafa mudathir07-24-23, 08:56 PM
  Re: الإنتوموفيل وأحوال أخرى! mustafa mudathir07-25-23, 04:16 PM
    في الأحوال الأخرى، تروما اليوم، تروما الأمس mustafa mudathir07-31-23, 05:02 AM
      Re: في الأحوال الأخرى، تروما اليوم، تروما الأ mustafa mudathir08-05-23, 02:01 AM
        Re: كليك mustafa mudathir08-06-23, 12:35 PM
          Re: كليك osama elkhawad08-07-23, 07:32 PM
            Re: كليك mustafa mudathir08-08-23, 09:43 PM
              Re: كليك osama elkhawad08-09-23, 06:18 PM
                سودان الغد mustafa mudathir10-25-23, 03:53 AM
                  Re: سودان الغد mustafa mudathir11-09-23, 06:45 PM
                    Re: سودان الغد mustafa mudathir11-24-23, 08:07 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de