حزب البعث السوداني : البرنامج السياسي ملاحظات ومراجعات حول الوثائق الأساسية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-10-2024, 04:39 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-25-2022, 08:52 AM

حزب البعث السوداني
<aحزب البعث السوداني
تاريخ التسجيل: 09-20-2022
مجموع المشاركات: 24

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حزب البعث السوداني : في البرنامج السياسي. (Re: حزب البعث السوداني)

    وثائق سياسية لحزب البعث السودأني . رغم انها وثيقة قديمة الا ان ركائزها الاساسية لازالت صالحة في تحليل طبيعة النظام القائم بالرغم من تطورات كثيرة في الخط السياسي لحزب البعث السوداني سنتناولها تباعا .
    إهمية هذه الوثيقة تنبع من انها اول وثيقة بينت النشاط المستقل لحزب البعث السودانى بعد انفصاله من القيادة القومية التابعة للنظام العراقي حينذاك ليكون نشاطه ومركزه المستقل. وحينها كان الحزب يكتب اسمه كاملا بإضافة السوداني. الا ان قرر الحزب اختيار اسم حزب البعث السودانى، تمييزا وتعبير عن الموقف المستقل لحزب البعث السودانى.

    نحو مخرج ديموقراطى من الأزمة الوطنية الراهنة
    مقدمة :-
    تشهد بلادنا طوال الفترة الأخيرة ، تطورات سياسية هامة لها تأثيرها الكبير فى الوضع السياسى القائم وفي مستقبل البلاد ، وشملت هذه التطورات مجالات الإقتصاد والسياسة والحرب الأهلية . وبحكم إتساعها وعمقها ، فقد أدت هذه التطورات الى تغييرات أساسية وحاسمة فى الوضع السياسى العام وفى دفع الأزمة الوطنية الجارية في البلاد الى طور جديد يهدد وجود الكيان السودانى نفسه ، ويعرّض سيادته ووحدته الوطنية للإنتهاكات الخارجية والتمزق والتفكك الداخلى . كما أدت الى تفاقم ازمة الفئة الحاكمة نفسها مما يفتح إمكانيات واسعة أمام قوى المعارضة السياسية والعسكرية. كل ذلك يضع بلادنا في مواجهة إحتمالات خطيرة ترتبط،من جهة أخرى ، بمجمل تطورات الوضع العربى والقرن الأفريقى ووسط القارة الأفريقية وأستراتيجية قوي الهيمنة الغربية الولايات المتحدة ، الهادفة الى السيطرة على منابع النفط ومصادر المياه وفرض تسوية مذلة للقضية الفلسطينية الخ... . وفي هذه الوثيقة سنتابع أهم تطورات الوضع السياسى في بلادنا ومناقشة تأثيرها في حركة الصراع السياسى والإجتماعى ، بكل إحتمالاتها المتوقعة ، وبما تطرح من مسؤوليات وواجبات على القوى الوطنية الحيّة فى المجتمع وقوى المعارضة السياسية بشكل عام، ومع تقديرنا لأهمية التطورات الأقليمية ، العربية والأفريقية ، والدولية وتأثيرها فى الوضع الداخلى إلاّ أننا سنركز على التطورات الداخلية ، وذلك لأنها تمثّل المدخل الرئيسى فى تفاعلات وتداخلات العوامل الخارجية كما أنها تشّكل الأساس لمواجهة مخططات قوي الهيمنة الدولية فى نفس الوقت . وحزب البعث عندما يطرح تصوره للوضع السياسى فى هذه الوثيقة فإنه لا يطرحه ككلمة نهائية، بل كأساس للحوار والمناقشة المفتوحة مع كل القوى الأخرى ، فى إطار التجمع الوطني الديموقراطى ، بهدف الوصول الى تصور مشترك وخطط عملية موحدة تمّكن قوي المعارضة السياسية والإجتماعية من القيام بمسؤولباتها ، وذلك لأننا نعتقد أن ما يواجه السودان فى هذه المرحلة من تحديات ومشاكل يتطلب تضافر كل الجهود المخلصة لمواجهة هذه التحديات بجدية ومسؤولية ، ولأننا نرى أن التجمع الوطنى الديموقراطى أصبح يمثل إطارا شاملاً لكل قوى المعارضة السياسية والإجتماعية ، واساساً لبناء جبهة وطنية عريضة تستهدف بناء سودان ديموقراطى موحد ومستقل وفاعل فى محيطه العربى والافريقى والدولى.
    الشرعية المفقودة والطريق المسدود:
    لقد جاء إنقلاب 30 يونيو 89 لتقويض الديموقراطية وقطع الطريق أمام عملية السلام الجارية وقتها على اساس إتفاق الميرغنى/ قرنق ، وبهدف إنقاذ حزب الجبهة الإسلامية القومية من هزيمة كاسحة ، بعد أن عزل نفسه عن إجماع القوى السياسية والنقابية ، الجنوبية والشمالية ، ووضع نفسه فى مواجهة ميثاق الديموقراطية والسلام وحكومة الجبهة الوطنية المتحدة ،وهو ، كإنقلاب ، جاء فى عموميته على نمط الإنقلابات العسكرية التقليدية فى السودان ، ولكنه تميّز عنها بإرتباطه بحزب عقائدى يرفع شعارات إسلامية، وبإستفادته من تجاربها ودروسها ، ولذلك قام حزب الجبهة تحت لافتة هذه الشعارات ، بفرض أشرس نظام دكتاتورى فى تاريخ السودان الحديث كإمتداد طبيعى للانظمة الدكتاتورية العسكرية السابقة ، وبالذات النظام المايوى . وإذا كانت الشعارات العزيزة التى رفعتها هذه الأنظمة قد تحولت الى دكتاتورية إستبدادية ، وخراب إقتصادى وإجتماعى ، وتهديد للوحدة الوطنية ، وتفريط فى السيادة الوطنية وتبعية للأجنبى ، وتخريب لعلاقات السودان الخارجية مع دول الجوار العربى والأفريقى .. إذا كانت تلك هى نتائج سنوات الأنظمة الدكتاتورية السابقة ، فإن حصاد إنقلاب يونيو فى سنواته السابقة يفوق سلبيات وإخفاقات الانظمة السابقة ، بل هو إمتداد لسلبيات النظام المايوى فى أسوأ سنواته الاخيرة (87_85 ) . والحلقة الشريرة ، التى ظلت تعيشها بلادنا طوال سنوات ما بعد الإستقلال بين الإنقلاب والديمقراطية ، لم تكن لعنة من السماء بل كانت ، بشكل رئيسى ، نتيجة لضعف التقاليد والثقافة الديموقراطيتين لدى النخبة السودانية عموما ولضيق بعض الفئات السياسية والإجتماعية بالديموقراطية والحريات العامة ، واصرارها على تقويضها والإنفراد بالسلطة واحتكارها في مواجهة إتساع الحركة الجماهيرية الديموقراطية وتزايد نفوذها وتأثيرها . وهذه الحقيقة تؤكدها طبيعة الفئات التى نفذت إنقلابات 58 ، 69 ،89 ، وحقيقة أن التجارب الديموقراطية تكاد تكون محطات إنقطاع بين الأنظمة العسكرية التى سيطرت على أكثر من ثلاثة أرباع فترة ما بعد الاستقلال وحقيقة أن نضال الحركة الجماهيرية طوال سنوات ما بعد الإستقلال وحتى الآن ظل يركز على الحريات العامة واستعادة الديموقراطية وترسيخها..
    وفى مؤتمر الدفاع عن الديمقراطية ، فى اكتوبر 1985 لخصت القوى السياسية والنقابية ، ومن ضمنها حزبنا ، حزب البعث ، هذه التجربة وأكدت رفضها لأى إنقلاب عسكرى ، أيا كانت شعاراته ومصدره ، وأكدت ضرورة الدفاع عن التجربة الديموقراطية والعمل على تطويرها بما يمكنها من البقاء والإستمرار وترسيخها وتوطينها فى الواقع السودانى ، فإذا كانت الانظمة العسكرية تعمل على الإستفادة من دروسها وخبراتها بهدف ضمان إستمرارها فمن الأولى أن تتعلم قوى الديموقراطية من خبراتها وتجاربها من أجل وضع حد للدوران فى حلقة مفرقة وبناء تجربة ديموقراطية راسخة ، بدلا من تكرار التجارب القاصرة والعاجزة .
    إن إنقلاب حزب الجبهة لا يختلف جوهريا عن الإنقلابات السابقة فى عموميات طبيعته الإجتماعية وفى توجهاته السياسية والإقتصادية وذلك رغم الإختلاف الظاهرى فى الشعارات .. فقد رفع الإنقلاب شعارات عزيزة على شعبنا لكنه اعتمد على نفس مرتكزات الانظمة الدكتاتورية السابقة ، مع تشابه متزايد بين الفترة الاخيرة للنظام المايوى والنظام الحالى ، وطور اساليبها وخبراتها بما يمكنه من البقاء والإستمرار . فقد ارتكز الخطاب السياسى لنظام 30 يونيو والجبهة القومية الإسلامية ، طوال السنوات السابقة ، على محورين اساسيين هما: تشويه التجربة الديموقراطية وتضخيم سلبياتها وتحميلها اخفاقات السياسة السودانية فى فترة ما بعد الإستقلال ، وتقويض الاسس الفكرية للنظام الديموقراطى وإعتباره (سلعة غربية مستوردة لا تتناسب مع واقعنا وعقيدتنا ) وذلك بهدف خلق تبرير لمشروعية إنقلابها واحتكارها للسلطة ، دون تقديم بديل مقنع أو حتى تقديم منجزات مادية يمكن الترويج لها دعائيا كمبرر للتضحية بالديموقراطية والحريات العامة . أما المحور الثاني فهو طرح شعارات الإنقاذ والشريعة والإكتفاء الذاتى والمشروع الحضارى وغيرها، بهدف خلق قاعدة واسعة من التأييد الشعبى وربط إمكانية تحقيق هذه الشعارات ببقاء النظام ، وذلك ايضا ، دون أي تأكيد بقدرتها على القيام بذلك كما أثبت الواقع فيما بعد ، بل تدهور الحال الى أزمة وطنية شاملة .

    فى إطار هذين المحورين تدور كل مفردات خطاب السلطة السياسى ، بما فى ذلك الشعارات الإسلامية التى دخلت حلبة الصراع السياسى بقوة وعنف بقوانين سبتمبر 1983 فى عهد النظام المايوى ، ولكن النتيجة العملية تمثلت فى إستناد المجموعة الحاكمة الى نفس ركائز الانظمة الدكتاتورية السابقة ، المتمثلة فى الجمهورية الرئاسية بسلطاتها المطلقة ، نظام الحزب الواحد وروافده وقانون الأمن العام وحالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية الاخرى ، وذلك بهدف إحتكار السلطة ، فحظرت نشاط الاحزاب والتنظيمات الاخرى ، واقامت اجهزتها الامنية بصلاحيات واسعة لقمع قوى المعارضة السياسية والعسكرية والإجتماعية ، وشملت إجراءاتها كافة اشكال القمع المادى والمعنوى ، ووصلت ذروتها فى إعدامات شهداء حركة 23 ابريل 1990 العسكرية المجيدة ، حيث اعدمت 28 ضابطا ، من خيرة العسكريين السودانيين ودون محاكمات وبطريقة لم يشهد لها السودان مثيلا فى كل الانظمة الدكتاتورية السابقة ولا حتى فى محاكمات ابطال ثورة 1924 ايام الإحتلال البريطانى، وبذلك كشفت طبيعة نظامها الإستبدادى وقدمته كبديل للديمقراطية ، وتحولت حملاتها على التجربة الديموقراطية الى مجرد تبرير لا معنى له ، إذ مهما كانت سلبيات النظام الديموقراطى لا يمكن أن يكون البديل نظام دكتاتورى يقوم على مزيج من تجربة المؤتمرات واللجان الشعبية الليبية ونظام الحزب الواحد وجوانب السيطرة السياسية الشمولية المشابهة ، ومهما كانت السلبيات لا يمكن أن تتم معالجتها بتقويض النظام الديموقراطى بكامله وهدم اسسه القائمة على احترام حقوق الإنسان وسيادة حكم القانون وحق الشعب فى تقرير مصيره واشاعة الحريات العامة ، وعلى راسها حرية الرأي والصحافة وحرية التنظيم الحزبى والنقابى والتداول السلمي للسلطة وغيرها . ومن جهة أخرى ، فإن مشكلة الحكم فى السودان لا ترجع الى التجارب الديموقراطية ، بل ترجع الى سيطرة الأنظمة الدكتاتوية الثلاث لأكثر من ثلاثين عاما من مجموع سنوات ما بعد الإستقلال البالغة 42 *عاما ففى ظل هذه الأنظمة تفاقمت مشاكل البلاد حتى تحولت الى أزمة وطنية شاملة فى ظل نظام الجبهة الدكتاتورى ، وإتسعت الفجوة بين تطلعات الجماهير فى الحياة الكريمة وعجز الدولة عن تلبية هذه التطلعات خاصة بعد تخليها عن دورها الإقتصادى والإجتماعى وإرتباطها بالفئات الطفيلية .
    ولا مخرج من هذه الازمة إلاّ بإستعادة الديمقراطية وإشاعة الحريات العامة ومشاركة كافة القوى السياسية فى تقرير مصير البلاد . وإذا كان التوجه نحو الديموقراطية قد اصبح اتجاها عالميا بعد إنهيار المعسكر الإشتراكى وثورة الإتصالات والمعلومات ، رغم محاولة قوى الهيمنة الغربية إستغلال هذا التوجه لخدمة مصالحها واستراتيجيتها ، فإن ظروف السودان الخاصة تؤكد اهمية وضرورة الديمقراطية كمدخل رئيسى للمحافظة على وحدته الوطنية وتطوير أوضاعه الإقتصادية والإجتماعية ، وذلك بحكم واقع التعددية فى حركته السياسية وحيويتها ، وارتباط قضايا التغيير الإجتماعى بالديموقراطية واشاعة الحريات العامة ، وبحكم ضخامة وتعقيد ومشاكل ومهام مرحلة ما بعد الاستقلال ، وضرورات مواجهة الازمة الوطنية الشاملة الجارية فى البلاد ، ولأن تجربة حزب الجبهة نفسها قد أكدت استحالة حكم السودان بواسطة حزب واحد ، وأهم من كل ذلك لإرتباط الحركة الوطنية السودانية وحركة النهضة العربية الحديثة بمفاهيم الحرية والشورى والديموقراطية والتحرر الداخلى والخارجى . لهذه الاسباب لم ينجح الخطاب السياسى للفئة الحاكمة الحالية والانظمة العسكرية السابقة، فى تشويه التجارب الديمقراطية السابقة ولا فى تقويض الأسس الفكرية والضرورات العملية للنظام الديموقراطى فى بلادنا ، بل أدخل نفسه فى تناقض صارخ خاصة عندما فشل فى توسيع قاعدته الإجتماعية وفى جذب أي قوة سياسية مؤثرة الى جانبه . وعندما ربط نفسه بشعارات الشريعة والشورى والإنقاذ أستهدف فقط محاولة إحتكار الإسلام وفرض برنامجه على الآخرين وتبرير قمع قوى المعارضة الشعبية والعسكرية بمنطق دينى زائف ، ولكنه وجد نفسه فى تناقض كامل مع التراث العربى الإسلامى الزاخر بقيم العدل والحرية ،ومع والشورى التى تعنى مشاركة الأمة فى تقرير مصيرها . ولا طريق لتحقيق ذلك بغير الديموقراطية بمفهومها الحديث . كما وجد نفسه في تناقض صارخ مع سماحة الإسلام وارتباطه بالفطرة والتجارب الإنسانية المتطورة ، ومع تأريخ الإسلام وإنتشاره فى السودان وتاريخ حركة النهضة العربية الحديثة بتياراتها الإسلامية والقومية والديموقراطية واليسارية المناهضة للإستبداد والرجعية ، وهكذا بدأ كأن حزب الجبهة يحاول تطبيق نموذج ستالينى متخلف بشعارات إسلامية ، وهذا التناقض يجد تفسيره فى الطبيعة الإيدولوجية والإجتماعية للجبهة الاسلامية الحاكمة ، والفئات المرتبطة بها ، التى تدفعها الى إستغلال كل شئ ، بما فى ذلك معتقدات الشعب ، من أجل فرض سيطرتها على البلاد على حساب مصالحها وقيمها الدينية والإنسانية والقومية .

    إن هذا التوجه يرتبط بالبنية الفكرية للفئة الحاكمة وحلفائها ، المعادية للديمقراطية والرأى الآخر ، بما فى ذلك التيارات الإسلامية الأخرى . ويرتبط ايضا ، بتكوينها الإجتماعى البرجوازى الصغير والمتوسط بعد التغييرات والتشويهات التى طرأت على هذه الشرائح الاجتماعية منذ السبعينات _ فهى تستند الى فئات الرأسمالية الطفيلية ودوائر من المثقفين والشباب وبعض القوى التقليدية والرأسمالية الريفية ، وهذه القوى التى ظلت تمثل السند الأساسى لحزب الجبهة فى الفترة السابقة . لقد استند حزب الجبهة حتى بداية السبعينات ، الى فئات من الموظفين والطلاب وبعض دوائر القوى التقليدية ، ونتيجة لمداخيل الإغتراب والارتباط ببلدان الخليج والسعودية ، بعد الطفرة النفطية ، وسيطرته على منظمة الدعوة الإسلامية والشركات المرتبطة بهاوعلى بنك فيصل والبنوك الاسلاربوية الأخرى ، وجدت هذه الفئات مداخل واسعة للثراء ودخول نادى الراسمالية السودانية والعربية . وبعد مصالحة 1977 إستفادت من وجودها داخل صفوف الطبقة المايوية لتركيز وجودها ومواقعها فى جهاز الدولة ومجالات التجارة والخدمات والجهاز المصرفى ، وكان لهذه التطورات تأثيرها فى تركيبها الإجتماعى وارتباطها بقوى الإنفتاح الإقتصادى والتوجه الدكتاتورى الرجعى فى السودان والمنطقة ، كما اشارت الى ذلك وثائق المؤتمر القومى الثانى عشر لحزب البعث (1992) ، وكان لها تاثيرها فى إرتباطها الحميم بالفكر الإقتصادي الراسمالى واللبرالية الجديدة ، وتخليها عن شعارات العدالة الإجتماعية والإشتراكية الاسلامية ، التى سادت فى فترة الديمقراطية الثالثة ، وسيطرة الأثرياء الجدد والاتجاهات الطفيلية على تنظيم الجبهة وبرنامجها السياسى . وبعد إنقلاب يونيو ظلت الفئة الحاكمة تعمل على تدعيم مواقع هذه القوى والشرائح فى جهاز الدولة والسوق والقطاعات الإقتصادية المختلفة . واذا كان مثل هذا الحديث يبدو غريبا فى سنوات سابقة ، فإن واقع الحال يغنى عن أى مقال، _ فالواضح أن شعارات الانقاذ والشريعة وغيرها أستخدمت لتلبية تطلعات السيطرة السياسية والإقتصادية من خلال جهاز الدولة واعفاءته وغيرها ، وأن هذه الشعارات تحولت عمليا الى خراب إقتصادى وإجتماعى وأزمة وطنية شاملة ، وفى ذلك لم يختلف دعاة ( الحل الإسلامى ) عن دعاة (الحل الإشتراكى) المايوى ، لا فى السلوك والممارسة العملية ولا فى مصادر برنامجهم السياسى _ وهذا وحده يكفى لتأكيد وحدة الاساس الإجتماعى والفكرى لقوى الإنقلابات والدكتاتورية فى بلادنا، وتناقض وإزدواجية هذه القوى بين شعاراتها وممارساتها العملية الإنتقائية والإنتهازية وبتركيبها الإحتماعى المتخلف وبنيتها الفكرية المعادية للديمقراطية والرأى الآخر والتراث الالعربى الإسلامى فى مجمله وتياراته العقلانية والمستنيرة بشكل خاص . على قاعدة هذه الركائز السياسية والإجتماعية قام حزب الجبهة بتنفيذ كامل برنامجه السياسى والإجتماعى فى البلاد ، إستنادا الى شعارات عزيزة على شعبنا _ ولكن الواقع قادر على كشف الفرق بين الحقيقة والوهم _ فبعد أن أخذت دورة العنف والقمع دورتها كاملة ، وبعد أن وضح رفض الواقع السياسى والإجتماعى لسياساتها وبرنامجها ، وبعد أن عكست الأزمة الوطنية الشاملة الجارية فى البلاد نفسها فى كل مناحى الحياة ، أُجبرت الجبهة القومية الاسلامية على التراجع أمام ضغوط الواقع الداخلى والخارجى ، ومنذ عام 94 بدأت تتحدث عن الإنفراج السياسى والوفاق والمصالحة الوطنية لتوسيع قاعدة الحكم كبديل لشعار (التمكين ) الذي ساد فى الفترة السابقة ، وذبك الى جانب شعارات تصفية المعتقلات وتوسيع الحريات العامة وإنهاء الحرب الأهلية بالحوار السلمى بدلا من شعارات الجهاد وغيرها ، ورغم أن الفئة الحزبية الحاكمة تحاول إرجاع هذا التحول فى موقفها الى أنه جزء من برنامجها للتحول من الشرعية الثورية الى الشرعية الدستورية ، فإن الواقع يؤكد أنه جاء نتيجة لضغوط عدة عوامل محلية وخارجية ، يتمثل اهمها في الآتى:-
    تفاقم الأزمة الاقتصادية وتحولها الى ركود تضخمى خانق ، وإتساع الحرب الأهلية وأمتدادها الى الشمال وتورط السلطة فى تدويل مشكلة الجنوب والمشكلة السودانية وتحويلها الى أزمة وطنية شاملة ، اتساع العزلة الداخلية وصمود قوى المعارضة الداخلية فى وجه سياسات العنف والقمع وبروزها ، بشكل خاص ، فى إنتفاضات شعبية وطلابية وفى مقاطعة إنتخاباتها وأستفتاءاتها وغيرها ، وذلك بالإضافة الى وحدة قوى المعارضة الخارجية ودخولها ميدان العمل المسلح فى الشرق والنيل الأزرق بعد عام 1995 ثم إتساع العزلة الخارجية والضفوط الأقليمية والدولية بسبب توتر العلاقات مع دول الجوار العربى والأفريقى ، حتى وصلت الى مرحلة الصدام المسلح مع البلدان المجاورة وصدور قرارات دولية ضد السودان لأول مرة فى تأريخه .
    وكان لهذه الضغوط تأثيرها داخل صفوف النظام وحزبه حيث برزت خلافات حول المصالحة والإنفراج السياسى والحرب الأهلية والحريات العامة والتعددية السياسية وغيرها وبرزت الى السطح معارضة اسلامية مؤثرة داخل صفوف الحزب الحاكم ومنظمات أخرى ، ووجد هذا التراجع أمام الضغوط تجسيده العملى فى الموقف من الحرب الأهلية ومسودة الدستور بشكل خاص ، كمحاولة للخروج من مأزق الشرعية المفقودة والطريق المسدود الذى وصلت اليه سياسات الدولة فى المجالات المختلفة ، وذلك بالبحث عن شرعية جديدة تساعد على توسيع قاعدة الحكم وإطالة عمر النظام من خلال تحالفات داخلية وخارجية ، تحت شعارات مختلفة ومتناقضة فى نفس الوقت ، فمع القوى الجنوبية ترفع شعارات تقرير المصير ومع القوى الشمالية ترفع شعارات الدفاع عن الوحدة الوطنية والعروبة والإسلام ، ومع القوى الإقليمية والدولية تحاول تقديم تنازلات حول علاقات الجوار ومواثيق حقوق الإنسان وتأكيد إحترام العلاقات الدولية وغيرها .. ولكن هل تنجح السلطة فى مساعيها هذه ؟؟.
    هنالك عاملان هامان، هما التكوين الإجتماعى والفكرى للمجموعة الحاكمة ، بالمعنى الذى سبق شرحه ، والعامل الثانى يتمثل فى تأريخ تعاملها مع القوى الأخرى ، المحلية والخارجية ، خلال السنوات السابقة ، وبحكم عدم قدرتها على التخلى عن تركيبها وأسلوبها فى العمل ، فإن إستمرار هذين العاملين سيقفان حجر عثرة أمام أي محاولة للخروج من أزمتها ، وهذا ما يؤكده السيناريو الذى إتبعته فى معالجة مسألتى الدستور الدائم وإنهاء الحرب الأهلية فى الفترة الأخيرة ، فقد بدأ سيناريو الدستور بطريقة مفاجئة بتكوين لجنة (قومية) لصياغة الدستور ، وظلت تردد أن اللجنة مخولة بصلاحيات كاملة وتضم كل الوان الطيف السياسى، وجاء ذلك فى تعجل واضح وفى ظروف إستثنائية ، شملت غياب الديموقراطية ومصادرة الحقوق الأساسية وإتساع الحرب الأهلية وإمتدادها فى الشمال ودخول قوى المعارضة الشمالية ميدان العمل المسلح وظروف عزلة إقليمية ودولية واسعة .. فى مثل هذه الظروف طُرحت مسألة الدستور من قبل سلطة غير شرعية ، لها مؤسساتها المهيمنة ، ولها اتفاق مع بعض القوى الجنوبية بمنح الجنوب حق تقرير المصير وتكوين دولته المستقلة الخ.. هذه الظروف فى مجملها لا تسمح بطرح قضية الدستور بمثل هذه الطريقة ، لأنها تحتاج الى مشاركة كل القوى السياسية فى البلاد والى إتفاق عام حول طبيعة الدستور والقضايا الاساسية فى مناخ ديموقراطى كامل _ وبغير ذلك ستكون تكرارا لتجربة دستور عام 1973 بحذافيرها _ ومع كل ذلك ، فإن السلطة لم تلتزم بما طرحت في البداية . فعند إنتهاء اللجنة القومية من مسودتها ، ظهرت مسودة أخرى فى القصر الجمهورى ، كتبها اركان النظام الحاكم ، لتحول شعارات الإنفراج والحريات العامة الى نصوص محكومة بقوانين تصدرها السلطة ، وبإدخال تعبيرات ( التوالى ) وصياغات غامضة اخرى تحولت احلام التعددية الى سراب. وجاءت مناقشات المجلس الوطنى لتتم إجازة المسودة بالإجماع ، رغم إرتفاع الاصوات المعارضة ، وبقى فقط إعلان نتيجة الإستفتاء لتتوهم الطبقة الحاكمة شرعية شعبية ودستورية لنظامها الإستبدادى ، ويبدو أنها لا تريد سوى إستخدام الوثيقة كألة رافعة لتسهيل مفاوضاتها فى نيروبى مع حركة جون قرنق ومجموعة دول الإيقاد ، ولفتح مداخل مع بعض قوى المعارضة الشمالية والقوى الاقليمية والدولية ، ولكن الواضح أن ذلك لن يخرجها من أزمتها وعزلتها الداخلية والخارجية ، ولن يخرج البلاد من أزمتها الوطنية الشاملة ، بل سيعمقها اكثر فأكثر ، وذلك لأنه لا مخرج من هذه الأزمة الا باستعادة الديموقراطية ومشاركة كل القوى السياسية فى تقرير مصير البلاد . وفى معالجتها لمشكلة الحرب الاهلية سارت فى نفس الطريق المتأرجح والمتردد ، فهى ترفض إعلان مبادئ الإيقاد ، ثم تتراجع بقبوله، وتهاجم مقررات مؤتمر اسمرا ثم تتراجع لتقترب منها بقبول اهم بنودها_وكل ذلك يؤكد عدم جديتها واستهتارها فى التعامل مع القضايا الوطنية الكبرى ، وينكشف هذا الاستهتار فى سياساتها الاقتصادية والإجتماعية بشكل خاص .
    الوضع الاقتصادي بين شعارات الإنقاذ والخراب الاقتصادي :
    تعكس الصورة الإجمالية للاقتصاد السوداني في ظل سلطة الإنقاذ أزمة حادة وخانقة أفرزت استقطاعات سياسيا واجتماعيا يضع البلاد امام احتمالات خطيرة . فقد طرحت سلطة الإسلاميين برنامجها الاقتصادي -الاجتماعي تحت مسمي ( الاستراتيجية القومية الشاملة ) ودعمتها بسياسات التحرير الاقتصادي منذ عام ١٩٩٢ بعد ان مهدت لها بالبرنامج الثلاثي عام ١٩٩٠ . وهي كخطة تمثل برنامجا طموحا لتحريك جمود الاقتصاد الوطني وتعبئة موارده الاقتصادية والبشرية في "اتجاه الأكتفاء الذاتي والتغيير الاجتماعي والتنمية وتحويل السودان الي دولة إقليمية كبري خلال عشر سنوات". وقامت هذه الخطة والسياسات المرتبطة بها علي تحرير التجارة وتعويم العملة الوطنية و(أسلمة) الجهاز المصرفي وتخلي الدولة عن دورها الاقتصادي والاجتماعي برفع الدعم عن السلع والخدمات، بما في ذلك خدمات الصحة والتعليم ، وخصخصة مؤسسات القطاع العام وبالتالي الاعتماد علي القطاع الخاص والمحلي والأجنبي في قيادة النشاط الاقتصادي والاجتماعي وحصر دور الدولة في توفير البنيات الاساسية والتسهيلات اللازمة للاستثمار الخاص مع تخفيف الاثار السلبية لسياسة الانفتاح الاقتصادي عن طريق ما سمي صناديق التكافل الاجتماعي.
    يمثل هذا البرنامج امتدادا لبرنامج النظام الانقلابي السابق (٦٩_٨٥) والذي كان قد قطع شوطا بعيدا في تطبيقه منذ عام ٧٥ تحت إشراف صندوق النقد الدولي مجسدا لاتجاهات المؤسسات المالية الدولية التي حاولت فرضها علي البلاد منذ عام ١٩٥٨ بحذافيرها لكنها لم تنجح كلية نتيجة لحيوية الحركة النقابية والسياسية بحيث لم تجد فرصتها الا مع اشتداد وطأة الدكتاتوريات المتتابعة . ويؤكد هذا، بما يعنيه من توافق مع مركز النظام الرأسمالي العالمي تحت الهيمنة الامريكية ، التناقض الفاضح للفئة الحاكمة بين دعاوي الاسلامية الرسالية والعداء لدول (الاستكبار الغربي) وبين برنامجها الاقتصادي الرأسمالي التابع للمنظومة الغربية العالمية المسيطرة في عهد ما بعد نهاية الحرب الباردة . كما يكشف تحليل النتائج التطبيقية للبرنامج التناقض بين طموحاته وبؤس حصاده في اطار التناقض الأعم بين ادعاءات احياء قيم العصور الذهبية للحضارة العربية الاسلامية وواقع نظام الإسلاميين الاستبدادي والمنحاز تماماً ضد مصالح الأغلبية السودانية المسلمة وغير المسلمة .
    من الناحية العملية تراجعت طموحات وتقديرات الاستراتيجية القومية الي معدلات متواضعة لم تتجاوز ما كان سائدا قبل الانقلاب بل الي معدلات ادني بكثير في كل المجالات تقريبا . فاجمالي الاستثمارات ، وهي مربط الفرس لانه لا تنمية بلا استثمار ، لم تتجاوز ال ٨٪ من اجمالي الناتج المحلي في أحسن الفروض مقابل ٢٠٪ في التقديرات المتوقعة . ومعدل نمو الناتج المحلي لم يتجاوز ال٣-٤٪ مقابل ١٣٪ في الخطة ، بل تدهور الي ناقص ٥٪ في بعض في بعض السنوات وهو معدل اكثر من متواضع اذا أخذنا في الاعتبار معدل زيادة السكان (٢،٨٪) . وبعكس ما يشيعه الاعلام الحكومي ، فان هذا التراجع في معدلات الاستثمار ونمو الناتج الاجمالي لا يعود الي موقف السودان من حرب الخليج الثانية وتوقف التدفقات المالية الخارجية بسبب الحصار غير المعلن لان هذا التوقف كان واضحا منذ بداية الثمانينات لأسباب تتعلق بمتغيرات داخل النظام الرأسمالي العالمي وفقدان مصادر التمويل الثنائية والمتعددة الأطراف الثقة في الادارة السودانية للاقتصاد منذ عهد النميري. وتمثل من خلال العهد الحالي في عجز الفئة السياسية الحاكمة والفئات الاقتصادية المرتبطة بها عن تعبئة الموارد الوطنية الاقتصادية والبشرية لمصلحة التنمية وعجز ها عن تحقيق فائض اقتصادي حقيقي للاستثمار وذلك بحكم طبيعتها الطفيلية المناقضة للإنتاج ولقدراتها الهائلة علي تبذير الفائض الاقتصادي للبلاد في جهاز دولة متضخم وغير منتج وأنفاق عام إهداري علي الحرب الاهلية واحتياجات حماية السلطة. وهذا هو مصدر فشل الاستراتيجية القومية وثبوت خطل افتراضاتها النظرية والعقائدية وأولها استبعاد دور الدولة والقطاع العام والاعتماد شبه _الكلي علي القطاع الخاص الأجنبي والمحلي . والأول رهين بنجاح الثاني بينما تشير التجربة الي انه قطاع طفيلي تجاري لا يرتكز علي عمود فقري زراعي صناعي وهدفه الحصول علي اعلي فائض بأقل تكلفة ممكنة، نظرا لنشوئه في ظل سوء الادارة الاقتصادية خلال الدكتاتورية السابقة وتقلباتها وهيمنة مصالح أقلية اجتماعية محدودة للغاية علي السياسات الاقتصادية . والواقع ان سياسات الدولة تنطلق من موقف عقائدي مسبق ومتزمت ضد القطاع العام ودور الدولة في النشاط الاقتصادي منحاز للقطاع الخاص بشكل مطلق دون سند علمي وواقعي وانما فقط بهدف تنمية فئات النشاط الاقتصادي الطفيلي المرتبطة بالمجموعة الحزبية الحاكمة وإعادة تركيب الرأسمالية السودانية لمصلحة سيطرة هذه الفئات.
    نتيجة لذلك شهدت السنوات الاخيرة تدنيا كبيرا في مساهمات قطاع الانتاج السلعي (الزراعة والصناعة) وارتفاعا ملحوظا في مساهمة قطاع التجارة والخدمات في اجمالي الناتج المحلي . فقد توقفت معظم المصانع في البلاد وضعفت إنتاجية المصانع العاملة نتيجة لمشاكل عديدة يواجهها القطاع الصناعي في الطاقة الكهربائية ومصادر التمويل والعملات الصعبة وتزايد أعباء الضرائب والرسوم الحكومية ومنافسة السلع المستوردة مما تسبب في تضييق قاعدة الصناعة الوطنية. كما تدني الانتاج الزراعي وتدهورت أوضاع قطاع الزراعة في السنوات الاخيرة نتيجة لنفس الأسباب وخاصة تزايد أعباء الضرائب والرسوم ومشاكل التمويل وصيغة "السلم"،وهو نظام تسليم شبه ربوي تمارسه الدولة في القطاع الزراعي ، بالاضافة الي ابتعاد الدولة عن دورها في تمويل وإعادة تأهيل المشاريع الزراعية الكبيرة. وهذا الوضع المتدهور إدي الي توقف الهيئة العربية للاستثمار الزراعي، اهم المشاريع العربية المشتركة في السودان ، مصانعها وصادراتها للأسواق العربية والأوربية والي دخول آلاف المزارعين في السجون بسبب عجزهم عن تسديد ديونهم وتهديدهم بترك العمل الزراعي والي تداعي المشاريع الكبيرة ( ربما تمهيدا لخصخصتها) واحتمال فشل الموسم الزراعي القادم بشكل تام رغم تدخل نائب رئيس الجمهورية لتدارك الوضع في ربع الساعة الاخير. هذه التطورات تؤكد صحة القول بان فشل الاستراتيجية القومية كان بسبب عجز الفئة الحاكمة عن تعبئة الموارد الوطنية للتنمية بحكم طبيعتها الطفيلية . ويبدو ان طبيعة القاعدة الأيدلوجية - السياسية والاجتماعية للسلطة تدفعها حتي الي تحطيم القاعدة الإنتاجية القائمة وشبكة التوزيع والتبادل الضرورية للإنتاج نفسه ، ففاقد الشئ لا يعطيه حتي لو تدثر بشعارات الشريعة والإنقاذ . ومع وضوح فشل الوعود التي أطلقتها الاستراتيجية القومية والسياسات المرتبطة بها وفشل الافتراضات التي استندت اليها. لجأت الفئة الحاكمة الي تعليق كل آمالها في استخراج البترول بالتعاون مع راس المال الأجنبي . وهذا مشروع قديم بدأ في عهد النميري خلال السبعينات من خصائصه انه ثروة قابلة للاستنزاف وذو حساسية عالية لعوامل تصعب السيطرة عليها في ظروف السودان الراهنة كما ستثبت حقيقة ان منطقة انتاج البترول ونقله مجاور لمناطق العمليات العسكرية في الجنوب والشرق . وعلي أية حال فانه حتي استمرار التصدير دون معوقات لا ينفي حقيقة فشل البرنامج الاقتصادي للفئة الحاكمة لطبيعتها الطفيلية ولا يغفر لها تبديدها لموارد البلاد الحقيقية وفائضها الاقتصادي . فهذه الموارد خاصة الزراعية والبشرية منها ، هي الرأسمال الدائم لانها موارد متجددة وليست موارد مؤقتة مثل ثروات باطن الارض .
    هذا التدهور الاقتصادي المتعدد الوجوه قاد الي اختلالات وتشوهات داخلية وخارجية في تركيبة الاقتصاد الوطني يتمثل اهمها في عجز الميزان الداخلي ( بين الاستهلاك والإنتاج وفي موازنة الدولة بحكم تصرفها بأكبر نسبة من الناتج المحلي) وفي الميزان الخارجي ( متحصلات الصادرات والخدمات مقابل الواردات ) الذي ظل يتزايد عاما بعد عام مما يفضح ادعاءات السلطة حول الاكتفاء الذاتي وتحويل السودان من بلد متسول الي بلد منتج وسلة لغذاء العالم وذلك لان هذه الحقائق تعني وجود فجوة متسعة دوما بين ما ننتج وما نستهلك وبين ما نصدر ونستورد. فالعجز في الموازنة العامة هو نتاج تزايد نفقات جهاز الدولة ، وخاصة قطاع الأمن والدفاع والإعلام ثم الادارة العامة التي تضاعفت بعد تطبيق نظام الحكم الفيدرالي واتساع الحرب الاهلية
    ( تصل نفقاتها الي مليوني دولار يوميا ) وظل يتفاقم حتي بعد تخلي الدولة عن دورها الاقتصادي والاجتماعي وتحولها الي دولة بوليسية هدفها حماية الأمن والنظام العام وتحصيل الضرائب فقط . اما العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات فانه يرجع الي ضعف حصيلة الصادرات نتيجة لدني الانتاج وفقدان الاسواق التقليدية والسماح للمصدرين بالاحتفاظ بجزء كبير منها خارج البلاد فيما يسمي بسياسة " التجنيب " ، وتقلص تحويلات المغتربين بسبب عدم استقرار العملة وسياسات الدولة وكذلك القروض والمساعدات ، مع ارتفاع فاتورة الواردات في الجانب الاخر ، خاصة بعد تحرير التجارة الخارجية . وفي مواجهة هذه العجوزات المزمنة لا تجد الدولة سوي الاستدانة الخارجية فارتفعت الي ١٨ مليار دولار معظمها فوائد متراكمة لصندوق النقد الدولي والي الاستدانة الداخلية من النظام المصرفي التي ارتفعت معدلاتها بسرعة كبيرة أدت لإشعال نيران التضخم حتي وصل ١٦٠٪ عام ١٩٩٦ والي أضعاف مركز الجنيه السوداني وتدهور قيمته حتي وصل سعر الدولار الي اكثر من ٢٠٠٠ جنيه (ابريل/نيسان ٩٨) مقابل ١٦ جنيه في يونيو/حزيران ١٩٨٩. ومع تخلي الدولة عن دورها في استخدام خريجي المدارس والجامعات بحكم سياسات التحرير الاقتصادي وتدهور الأوضاع في قطاعات الانتاج ، خاصة مناطق القطاع التقليدي، تدفقت الهجرة الداخلية من الأرياف الي المدن خاصة العاصمة لتكتظ بمئات الآلاف من العاطلين وشبه العاطلين عن العمل . كما أفرغت الحرب الاهلية الجنوب من سكانه حيث نزح معظمهم الي مناطق الانتاج والمدن الشمالية والبلدان المجاورة ، وتزايدت معدلات ارتفاع الهجرة الخارجية الفنية والأكاديمية والإدارية التى تقدرها بعض الأوساط العلمية بأكثر من نصف القوي السودانية العاملة (٣٠٪ من السكان) تتزايد فيها باستمرار نسبة الشباب .
    وبجانب هذه الاختلالات والتشوهات فقد إدي عدم استقرار الأوضاع الاقتصادية الي هروب الاموال الي الخارج او اكتنازها في شكل دولارات او عقارات وما شابه . وفي هذا الخصوص يشير بعض المتابعين الي ظهور حسابات خارجية بملايين الدولارات وسط المغتربين السودانيين .وتقدر بعض الأوساط رؤوس الاموال السودانية بالخارج بأكثر من من ١٥ مليار دولار . وهذه الظاهرة تؤكد حجم الازمة الاقتصادية وتأثيرها علي الاستثمار وعلي قطاع رجال الاعمال بما في ذلك المرتبطين منهم بالفئة الحاكمة كما يدل انتشار ظاهرة اعلان إفلاس الشركات خلال السنوات الاخيرة . وفي عام ١٩٩٦ بدأ بنك فيصل الاسلامي ، وهو من المؤسسات الاقتصادية القيادية عمليا في البلاد، تغطية حالة الإفلاس بسياسة "توفيق الأوضاع" لتتبعه بقية المؤسسات والمصارف ، وليس هناك تفسير لهذه الظاهرة خارج اطار تحول الازمة الاقتصادية الي أزمة ركود تضخمي حادة وخانقة لا يمكن علاجها بالإصلاحات الجزئية في اطار النظام السياسي القائم وسياساته الجارية.
    هذا التدهور في الأوضاع الاقتصادية انعكس في تدني نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي ، وهو المتوسط الذي يمثل اهم مؤشرات نجاح اي برنامج اقتصادي ، الي حوالي ٨٠٠ الف جنيه سوداني في العام اي ما يعادل ٣٥٠ دولارا بينما يقدر متوسط الصرف العائلي المتواضع للغاية بأكثر من ثلاثة ملايين جنية في العام.وبما ان النتاج المحلي الاجمالي لا يوزع بالتساوي علي كل السكان فقد تزايدت في السنوات الاخيرة ظاهرة التفاوت في الدخول بين الفئات الاجتماعية وأقاليم البلاد المختلفة بسبب إفرازات سياسة التحرير الاقتصادي المنفلت من كل قيد تشيديه التي نجمت عن اطلاق عقال أسعار السلع والخدمات مع ثبات الأجور والمرتبات في القطاعين العام والخاص علي حالها تقريبا والفشل الذريع لمشروع صناديق التكافل وتدهور أوضاع قطاعات الانتاج ، أوشكت الطبقة الوسطي علي التلاشي . وبذلك اصبح المجتمع منقسما الي طبقتين فقط غنية محدودة وفقيرة واسعة حيث تتداول الصحف ومراكز البحوث شبه الرسمية أرقاما عن اتساع ظاهرة الفقر تتحدث عن شموله ٩٥٪ من السكان مما يؤكد وجود حالة استقطاب سياسي واجتماعي حاده بعواقبه الانفجارية الخطيرة.
    وفي هذا الوضع انتشرت ظاهرة الاختلاسات في القطاع العام ، ووصلت الي اكثر من ثلاثة مليارات جنيه عام ١٩٩٧ وشملت مسؤولين في قمة الجهاز التنفيذي والسياسي ، وانتشرت أيضاً ، مظاهر الفساد والتحلل الاجتماعي والأخلاقي وضعف القيم اما الحاجة جنبا الي جنب مع سوء التغذية والأمراض المرتبطة بها وفي مواجهة هذا الحال يلجأ المواطن الي مضاعفة ساعات العمل ، اذا وجد والعمل في القطاع غير الرسمي ، وتشغيل الاطفال وبيع الممتلكات ، بجانب التفكير الدائم في الهجرة والاغتراب . وفي الجانب الآخر ، تستعرض الطبقة الحاكمة ، والفئات المرتبطة بها ، خاصة فئة الأثرياء الجدد ، مظاهر ثرائها في السكن الفاخر والسيارات الفارهة وفي المدارس والمستشفيات الخاصة وفي اكلها ولبسها ووسائل ترفيهها وغيرها، كأنها في بلد ومجتمع اخر غير السودان ، ورغم ذلك تصر الفئة الحاكمة وحزب الجبهة علي الاستمرار في سياساتها المعلنة وتعد الشباب بالرفاهية والتنمية الشاملة وتتعامي عن معاناته اليومية ، ولكن واقع الحال لا يبشر باي تغيير حقيقي في اطار النظام القائم وسياساته الجارية ، وليس امام هذه الفئة سوي الدفاع عن أركان سلطتها وتركيزها ومحاولة توسيع تحالفاتها لضمان بقائها واستمرارها ، وتتعقد صور الوضع الاقتصادي باستمرار حالة الاستقطاب وعدم الاستقرار السياسي واتساع الحرب الاهلية في الجنوب وامتدادها للشمال وتهديد وجود الكيان السوداني في أساسه.
    الحرب الاهلية وتمزيق الوحدة الوطنية :
    بصعود الجبهة الي السلطة وتمكنها من فرض مشروعها السياسي في مواقع القوة ، دخلت الحرب الاهلية في الجنوب طورا جديدا أدي الي تدويلها وتدويل مشكلة السودان ككل ، وذلك بسبب إدخالها للإسلام والعروبة كعامل هام في تعزيز نهجها السياسي الدكتاتوري في البلاد بشكل عام ، والجنوب بشكل خاص ، مما ادخلهما في اطار صراع واستقطاب سياسي عرقي وديني حاد ، حول الحرب بالأهلية الي صراع عربي - أسلامى / أفريقي مسيحي ، كما ادخل العروبة والإسلام في ورطة وتحدي خطير يتعلق بقدرتهما علي التسامح والتعايش والتفاعل السلمي والديموقراطي مع المجموعات والثقافات الوطنية الأخري وتجاوز حالة الاستقطاب الراهنة . ومع ان جذور هذا الموقف ترجع الي مفاهيم بعض دوائر الحركة الوطنية ونظرة وعقلية الجالبة تجاه مسالة الهوية ، القائمة علي التبسيط وتجاهل حقيقة التنوع الثقافي والاثني في السودان ، الا انه اتخذ شكلا اكثر تحديدا وعمقا في ظل حكم حزب الجبهة من خلال التعبئة السياسية والدينية لمواجهة الحرب الاهلية وكتطور طبيعي لموقف الدوائر الاكثر تخلفا وسط القوي المهيمنة في البلاد. فقد واجه الحزب الحاكم هذه المسالة ، منذ البداية ، بخطين متوازيين ، هما الحل العسكري في الداخل والحل السياسي السلمي في الخارج .. في الداخل اعتمد الحل العسكري علي تعبئة دينية وقومية واضحة ،ارتكزت علي شعارات الجهاد والدفاع عن العقيدة والوطن في اطار مشروع الدولة الاسلامية ، ولدحر القوة الجنوبية المتمردة وفرض الوحدة الوطنية كأمر واقع وأدت هذه الشعارات الي خلق حالة استقطاب ديني وعرقي خطير، وحولت الصراع من صراع سياسي حول قضايا محددة الي صراع بين الثقافة العربية الاسلامية في الشمال والثقافات الافريقية والمسيحية في الجنوب، وذلك في توافق كامل مع السياسة الاستعمارية القديمة القائمة علي الفصل بين افريقيا شمال الصحراء وأفريقيا جنوبها ، وبين حركة التحرر القومي العربي وحركة التحرر الوطني الافريقية ، وادي ذلك الي تشجيع القوي الغربية الكنسية علي دخول ساحة الصراع بكل إمكانياتها لتحقيق أهدافها المعروفة ، والي فتح شهية قوي الهيمنة الدولية ، الغربية والصهيونية ، للتدخل في شئون بلادنا وتدويل مشكلة الحرب الاهلية والمشكلة السودانية بشكل عام . ومع ان مفهوم الجهاد بمعناه الاسلامي الحقيقي ، لا ينطبق علي حالة الحرب الاهلية الجارية في الجنوب ، بحكم تاريخها ودوافعها وقضاياها المحددة ، فان إدخاله من قبل سلطة الجبهة لا يعني سوي استخدامه كأداة تعبئة سياسية ودينية ، لذلك فانه من الناحية العملية يؤدي الي تعميق حالة الصراع ويضم إقرارا بإمكانية فصل الجنوب عن الشمال في حالة فشل الحل العسكري وسياسات الأسلمة والتعريب المرتبطة به ، او حالة نجاح القوي الجنوبية المسلحة في السيطرة علي الجنوب ، او نتيجة لليأس من الحل العسكري واستمرار الحرب بمآسيها في الأوساط الشمالية والجنوبية علي السواء . وهكذا بدات دعوات الانفصال ترتفع في أوساط الحركة الجنوبية المسلحة وفي أوساط شمالية ودوائر مؤثرة في مركز السلطة نفسها، خاص بعد اتساع نطاق العمليات العسكرية دون امل في انتصار حاسم ووصول التعبئة العسكرية الي تويج طلاب الشهادة السودانية وإجبار الشباب الشماليين علي التجنيد والالتحاق بالقوات المسلحة ، ووصلت هذه الدعوات الي اعتراف الطبقة الحاكمة بحق الجنوب في تقرير مصيره وتكوين دولته المستقلة وتبرير ذلك ( بمنطق ديني ) يتناقض تماماً مع شعارات الجهاد التي ظلت ترفعها طوال السنوات السابقة ، ويبدو ان التراجع الخطير يتماشي مع قناعاتها الفعلية ونظرتهم الي مشكلة الجنوب كعقدة أساسية في طريق مشروعها لإقامة دولة دينية في السودان...وفي الخارج واصلت مفاوضاتها مع القوي الجنوبية المسلحة ، من خلال وسطاء لفرقة وأجانب ، وفي مفاوضات أبوجا الأولي والثانية رفضت خيارات الكونفدرالية والانفصال والدولة المدنية الديموقراطية الموحدة ، وتمسكت بخيار الدولة الدينية ، وفي عام ١٩٩٤ رفضت اعلان مبادئ دول الإيقاد، والذي تضمن خيارات الولة العلمانية الديموقراطية الموحدة او حق تقرير المصير للجنوب ، وأقطعت المفاوضات لفترة طويلة تعبيرا عن رفضها للإعلان ، وفي منتصف ١٩٩٥ قامت بإجراء تغيير جذري في موقفها في اتجاه الاقتراب من مقررات مؤتمر قوي التجمع الوطني في اسمرا وإعلان مبادئ الإيقاد وذلك بالتحالف مع مجموعة رأيك مشار ومجموعات جنوبية اخري .
    وهكذا وصلت الفئة الحاكمة الي طريق مسدود، فالحل العسكري لم يمكنها من تحقيق أهدافها ، رغم شعارات الجهاد والتعبئة الدينية والسياسية ، ومفاوضات الخارج وصلت الي نفس النقطة ، ومع اشتداد عزلتها الداخلية والخارجية وتفاقم عزلتها السياسية والاقتصادية ، اندفعت في اتجاه التراجع في اتفاقية الخرطوم للسلام ١٩٩٧.
    في هذه الاتفاقية تراجعت السلطة الحاكمة عن مواقفها المتشددة السابقة، وقدمت تنازلات كثيرة في اتجاه مقررات مؤتمر اسمرا وإعلان مبادئ الإيقاد، وتمثلت اهم هذه التنازلات في اعتبار المواطنة اساس الحقوق والواجبات ، الاعتراف بالتنوع العرقي والثقافي علي مستوي الدولة مع الإقرار بحق الولايات في اصدار تشريعات متمشية مع خصوصياتها، منح الجنوب حق تقرير المصير وتكوين دولته بعد فترة انتقالية محددة ، وبذلك تراجعت السلطة عن اهم محاور برنامجها ، بما في ذلك مشروع الدولة الدينية نفسه، فقد تخلت عن الموقع المهيمن للشريعة الاسلامية وحصرتها في مستوي الولايات ، وتخلت عن الحل العسكري لمشكلة الحرب الاهلية واعتمدت الحل السياسي ، وعن الدولة الدينية الي الدولة المدنية القائمة علي المواطنة، وعن فرض الوحدة الوطنية بالقوة الي منح الجنوب حق الانفصال الخ.. وهذه التراجعات تمثل تطورا هاما له تأثيره في مجري حركة الصراع السياسي في البلاد في الفترة اللاحقة وتتلخص مشكلتها الاساسية في ارتباطها باتفاقية مليئة بالسحلبيات وب مناورات النظام بحثا عن مخرج لازمتها وعزلتها - ويمكن حصر اهم هذه السلبيات في لاتي: انها موقعة مع مجموعة ضعيفة وصديقة للحكومة، ولا وجود لها في ميدان الصراع العسكري ، وأنها تجاهلت الفصيل المسلح الرئيسي، واعتمدت علي مجموعات انفصالية في توجهاتها ، وأنها منحت الجنوب تنازلات كثيرة كمقدمة لانفصال وشيك شملت وجود جيش مستقل وصلاحيات كونفدرالية لمجلس تنسيق الجنوب ، وأنها تجاهلت القوي السياسية الشمالية والقوي الإقليمية المؤثرة ، ولكل ذلك لم تقدم الاتفاقية اي فرصة جدية لإنهاء الحرب الاهلية ، رغم تراجعاتها الهامة ، فهي من جهة لم تجد قبول القوي السياسية الشمالية ممثلة في التجمع الوطني ، وذلك لان اقترابها من مقررات اسمرا كان شكليا فقط، لان الاخيرة ركزت علي أولوية الوحدة الوطنية القائمة علي اساس الدولة المدنية الديمقراطية واحترام التنوع الاثني والثقافي والديني ، وربطت تقرير المصير بفترة انتقالية محددة ومؤتمر دستوري وطني ، وارتكزت علي قاعدة سياسية واسعة ومظلة دولية مؤثرة ، اما الاتفاقية فقد ارتكزت علي الفئة الحاكمة ومجموعات جنوبية ضعيفة ، وارتبطت باستمرار النظام الدكتاتوري القائم ، وطرحت مسالة تقرير المصير بهدف المناورة والتخلص من أعباء الحرب الاهلية وتداعياتها ، ووضعت خياراتها بين استمرار الوضع القائم او انفصال الجنوب ، ومن جهة اخري ، فهي لم تجد قبول الفصيل المسلح الرئيسي ودول الإيقاد والقوي الإقليمية والدولية المؤثرة ، بل وجدت المعارضة داخل صفوف السلطة ومجلسها الوطني واثارات نزعات انفصالية واسعة في كردفان ودارفور والشرق، وأطلقت مخاوف قبائل التماس علي طول خط بحر العرب ونهر السوباط وجعلتها تشعر ان الدولة تخلت عنها وتركتها لمواجهة مشاكلها مع دولة الجنوب القادمة بإمكانياتها الذاتية الضعيفة والمحدودة.
    نتيجة لكل ذلك لم تقدم الاتفاقية فرصة جدية لإنهاء الحرب الاهلية وإحلال السلام في البلاد ، بل أدت الي تدويلها والي تدويل المشكلة السودانية ، بشكل عام ، من خلال مبادرة الإيقاد وشركائها من قوي الهيمنة الدولية ، ووضعت الجنوب امام انفصال وشيك يهدد البلاد بالتمزق والتفكك - واذا كانت المجموعة الحاكمة اصبحت تبشر بانفصال الجنوب بهدف التخلص من أعباء الحرب وضغوطها الداخلية والخارجية والانفراد بحكم الشمال ، فهي واهمة ، وذلك لان الجنوب ليس ارتريا ، وارتباط الاخيرة بإثيوبيا ليس كمثل ارتباط الجنوب بالشمال ، ومشاكل الانفصال وأعباءه تفوق مشاكل وأعباء المحافظة علي الوحدة الوطنية ، وفي مقدمتها مشاكل الحدود والموارد والتداخل سكاني ومصالح قبائل التماس وامتداد النزعة الانفصالية الي الشمال نفسه واحتمالات تفجر الصراعات القبلية المسلحة في الجنوب والشمال وبين الشمال والجنوب ، ومن جهة اخري فان هذا التوجه يفتح شهية قوي الهيمنة الدولية للتدخل في شئون البلاد وتخريب علاقات الشمال والجنوب والعلاقات العربية والأفريقية ، ويضع العروبة والإسلام في ورطة العجز عن التعايش والساكت مع المجموعات الوطنية الأخري ، ولكل ذلك فان الاتفاقية تؤدي الي ادخال الازمة الوطنية الجارية الي البلاد في طور جديد يضعها وجها لوجه امام احتمالات الصولية والأفغنة والتدويل.
    ان مشكلة الحرب الاهلية ليست في الخيار بين استمرار الوضع السياسي القائم علي انفصال الجنوب لتفكيك السودان الي دولتين او اكثر كما تصوره الفئة الحاكمة ، هذا خيارها هي وحلفائها وليس خيار الشمال والجنوب ممثلا في قواه السياسية والاجتماعية الحية -وذلك لانه يمكن الوصول الي خيار ثالث بناء يحافظ علي سيادة البلاد وتماسك وحدتها الوطنية وعلي هويتها الوطنية والقومية المزدوجة والمتداخلة ، ويمكنها من مواصلة دورها العربي والإفريقي المتميز ، من خلال مؤتمر دستوري وطني جامع تشارك فيه كل القوي السياسية والاجتماعية ، الجنوبية والشمالية . ان تدهور علاقة الجنوب والشمال الي حالتها الاستثنائية الراهنة هو نتاج ضيق افق القوي المهيمنة والمسيطرة ، لانها رفضت الوضع الخاص للجنوب كما طرحه الجنوبيون في مؤتمر جوبا ، وأضافت فرصة مؤتمر المائدة المستديرة في ١٩٦٥ ، وفشلت في المحافظة علي اتفاقية ١٩٧٢ ، وتلكأت في عقد المؤتمر الدستوري بعد ١٩٨٥ - وجاء حكم الجبهة ليوصل حالة الاستقطاب الي نهاياتها المنطقية ، وذلك بسبب تخلفها ونظرتها الشوفينية وبنيتها الفكرية المعادية للديمقراطية ، ونتيجة لذلك جاء رد المجموعات الجنوبية بشوفينية مماثلة وتبسيط مماثل لقضايا الهوية والتنوع ، يتجاهل بشكل عام واقع العروبة والإسلام ودورهما في بناء الكيان السوداني ويخلط بتعمد واضح بين القوي الشمالية المهيمنة منذ الاستقلال والهوية العربية الاسلامية الغالبة في الشمال . ان العروبة واقع تاريخي وجغرافي وساكني لا يمكن تجاهله ، ووجوده لا يلغي وجود المجموعات الوطنية الأخري سواء في الجنوب او الشمال نفسه كما ان ضيق افق وتخلف هذه القوي يرتبط بتركيبها الاجتماعي وتوجهاتها الفكرية والسياسية وليس بالهوية العربية والإسلامية الشمالية .
    والخلاصة هي اتفاقية الخرطوم للسلام لم تساعد في وضع حد للحرب الاهلية وإحلال السلام في البلاد بل أضافت تعقيدات جديدة بتدويل مشكلة الحرب والمشكلة السودانية بشكل عام ، وتزداد هذه التعقيدات بتعسر المفاوضات مع فصيل الحركة الشعبية وتدخلات قوي الهيمنة الدولية ومناورات النظام ودخول قوي المعارضة الشمالية ميدان العمل المسلح في الشرق وفي جنوب النيل الأزرق.
    وكل ذلك يؤكد اهمية وضرورة إيقاف الحرب وإحلال السلام في البلاد ، عن طريق عقد مؤتمر دستوري وطني جامع ، بمشاركة كل القوي السياسية والاجتماعية الشمالية والجنوبية ، لمناقشة القضايا الوطنية الكبري فتحا للآفات نحو سودان المستقبل وسطا للطريق امام اي صفقة ، ثنائية كانت او متعددة الأطراف مع النظام خارج التجمع وبرنامجه لن تؤدي الا الي تقويته مهما قدم فيها من تنازلات بداية، لانها تتم في غياب الثقل الكامل للإجماع الوطني وبرنامجه ممثلا في الإرادة الموحدة للتجمع الوطني الديمقراطي .
    ويعني هذا ان التصعيد المستمر لمختلف انواع الضغوط علي السلطة جزء لا يتجزأ من عملية الوصول الي انعقاد المؤتمر الدستوري . علي النطاق الخارجي، المطلوب اضافة للنجاحات في تشديد الخناق الدبلوماسي والسياسي علي السلطة ، ايجاد قفزة نوعية اداء في مستوي اداء التجمع لن تحقق الا بابتداع الوسائل اللازمة لإشراك قاعدة المغتربين السودانيين في نشاطاته بتنويعها وإثارة اهتمامهم بها وبتوسيع عضويته الحزبية وغير الحزبية في مستوياته القيادية المختلفة . وكذلك استخدام كافة الوسائل المتاحة في ظروف الخارج لإضعاف آلة النظام القمعية والعسكرية .كما ان احد الشروط الرئيسية لنجاح المؤتمر ضعف الدستوري توفر الضمانات اللازمة لتنفيذ مقرراته بإيجاد الصيغة السلمية لدور إقليمي في المؤتمر لان ضعف النظام وحده ليس ضمانا كافيا . اما علي الصعيد الداخلي فان تصعيد عمليات التوعية والتعبئة هو في آن واحد تحضير للانتفاضة الشعبية وتوفير للشق الاخر من الضغوط المطلوبة لإرغام قيادات النظام ، علي القبول بفكرة المؤتمر الدستوري . وبالإضافة الي تحسين الهيكليات القاعدية لتجمع الداخل ، يعتبر الدعم المادي من تجمع الخارج وكذلك التخطيط المنهجي لعودة اكبر عدد ممكن من كوادر الاحزاب عنصرا أساسيا في تصعيد الضغوط الداخلية . ان آلت فاقم غير المسبوق لمهددات الوحدة الوطنية بفعل العوامل الموروثة وتلك التي خلقها النظام الراهن تجعل انعقاد المؤتمر الدستوري مسئولية كبيرة وخطيرة تتطلب إجراءات ديمقراطية حقيقة وليس مناورات باسم التوالي وغيره وتضاف كل القوي الوطنية الخيرة في المجتمع وتحديد كيفية الاستفادة من الدعم الإقليمي والدولي .
    الديموقراطية والوحدة الوطنية مدخلان لمواجهة الازمة الراهنة :
    لقد أدخلت سياسات حكم الجبهة ، في المجالات السياسية والاقتصادية ومجالات الحرب الاهلية والعلاقات مع دول الجوار ، بلادنا في أزمة وطنية شاملة ، هددت وحدة ترابها بالتمزق والتفكك ، وتخرب نسيجها الاقتصادي والاجتماعي ، وعمقا الازمة الاقتصادية وحولتها اللي أزمة تضخم ركودي وخراب اقتصادي واجتماعي واسع ، وخربت علاقات السودان مع دول الجوار العربي والإفريقي حتي أوصلتها الي. مرحلة الصدام المسلح والقطيعة الكاملة ، وفتحت شهية قوي الهيمنة الدولية الغربية والصهيونية للتدخل في شئون البلاد الداخلية بحجة انتهاكات حقوق الانسان وسياسات الحرب الاهلية .. وصلت هذه الازمة ذروتها بتدويل مشكلة الحرب الاهلية خاصة ، والمشكلة السودانية بشكل عام . وهذا الواقع المؤسف لم يعد مجرد توقعات محتملة ، بل اصبح بندا ثابتا في اجهزة الاعلام المحلية والدولية ، وهما يؤرق كل الشرفاء من أبناء وبنات السودان وأشقائه وأصدقائه في المنطقة ، كما يبدو من مبادرات الوفاق والمصالحة التي تقودها دوائر سودانية وعربية وإفريقية عديدة تشمل دول الإيقاد وجنوب افريقيا ودولة الامارات العربية ومصر وليبيا وغيرها ، وتشمل أيضاً بعض دوائر الفئة الحاكمة وأركان حزب الجبهة نفسه .
    وفي مواجهة هذا الواقع واتساع حالة الاستقطاب الداخلي والتوتر مع دول الجوار لا تفعل السلطة شيئا سوي الإصرار علي بقائها وتامين النظام غير آبهة بتمدد الازمة الوطنية الشاملة، لتشمل كل جوانب حياة المواطن . ان النظام الحاكم يتحمل المسئولية الكاملة في تدهور اوضاع البلاد ووصولها الي هذا المستوي ، واستمرار هذا النظام وسياساته سيقود البلاد الي كارثة محققة. ففي ظل سيطرة حزب الجبهة القومية الاسلامية طوال السنوات السابقة ، تحولت الدولة الي سمسار كبير وحارس ليلي هدفه حفظ الأمن والنظام العام وجباية الضرائب والرسوم وخدمة ألفئات الطفيلية المرتبطة بها وتامين وجودها في كراسي الحكم. وبحكم عمق واتساع هذه الازمة فانه فانه لا مخرج منها الا باستعادة الديموقراطية ومشاركة كل القوي السياسية في مناقشة قضايا البلاد الكبري والتقرير بشانها . بغير ذلك فان السياسات الجارية وتعقيدات الوضع السياسي القائم تضع بلادنا امام كافة الاحتمالات ، وفي مقدمتها احتمالات الصوملة والأفغنة .
    وفي مواجهة هذا الواقع المأساوي طرحت الطبقة الحاكمة في الفترة الاخيرة ، اتفاقية الخرطوم للسلام ومسودة الدستور الدائم ، كمحاولة للخروج من مازق الشرعية المفقودة والطريق المسدود الذي وصلت اليه سياساتها العملية ، وذلك بهدف توسيع قاعدة الحكم وإطالة عمر النظام ، عن طريق بناء تحالفات داخلية وخارجية تحت شعارات مختلفة ومتناقضة وتركز، بشكل خاص ، علي ترميم علاقاتها الخارجية مع دول الجوار والبلدان الغربية وعلي تفكيك وحدة قوي المعارضة السياسية والاجتماعية وجذب أطراف منها الي جانبها تحت شعارات الدفاع عن العروبة والإسلام وتوسيع الحريات العامة والالتزام بمواثق حقوق الانسان الخ..وهي في ذلك تكرار تجارب الانظمة الدكتاتورية العسكرية السابقة بحذافيرها . ولكن كل هذه التراجعات التكتيكية لن تخرجها من أزمتها السياسية والاقتصادية وعزلتها الداخلية والخارجية ، ولن تخرج بلادنا من أزمتها الوطنية الشاملة بل ستعمقها اكثر فاكثر . لقد ظلت المجموعة الحاكمة ، طوال السنوات السابقة ، تحاول المتاجرة بالشعارات القومية والموقف من القضية الفلسطينية ومن الحصار اللانساني المفروض علي العراق وربك بهدف كسب تأييد القوي الديمقراطية المعادية للهيمنة الغربية والصهيونية والأنظمة القمعية الاستبدادية في المنطقة ، ولكن هذه المتاجرة للقضايا القومية تكشفت منذ الايام الأولي ، وذلك نتيجة لموقف حزب الجبهة تجاه العدوان الامريكي المتكرر علي العراق حتي بعد قبوله بقرارات الامم المتحدة ، كان نتيجة ضغوط الحركة الشعبية استمرارا لتراث القوي الوطنية والديمقراطية وكجزء من الموقف العربي الرسمي ، إفرازه توازن القوي داخل وفي عموم المنطقة من المغرب العربي حتي الهند وباكستان . لهذا السبب بالتحديد عجزت سلطة حزب الجبهة عن ربط موقفها الإيجابي ظاهريا من العدوان والقضايا القومية الأخري بإجراءات ديمقراطية ومواقف عملية تمكن جماهير الشعب من المشاركة في المعركة القومية ، ففي تلك الفترة كانت سجونها تمتلئ بالمعتقلين وفي مقدمتهم البعثيون والقوميون والوطنيين المعروفون لمواقفهم الثابتة من العدوان والقضايا القومية الأخري . بذلك ينكشف الجوهر اللفظي لموقفها الذي تتحكم فيه بدرجة كبيرة ، ظروف عزلتها العربية والإقليمية . والمفارقة الكبري انها ظلت تتاجر بأزمة الديمقراطية في الجزائر دون حياء او خجل من قيامها بتقويض الديمقراطية في بلادها - وظلت أيضاً تحتضن مجموعات من الأفغان العرب والتنظيمات الأخري وتتجاهل دورها في تخريب الاوضاع في افغانستان ومناطق اخري ، ودور المخابرات الامريكية في تنمية هذه التنظيمات واستخدامها لفترات طويلة لخدمة مخططاتها في المنطقة ، وظلت أيضاً تقوم بتنفيذ كامل توجهات مركز الاستعمار الغربي والرأسمالية الغربية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية رغم ارتفاع حملاتها الإعلامية ضد (قوي الاستكبار الغربي والصهيوني ) ، ونتيجة لانكشاف هذه الحقائق ، في فترة وجيزة ، بدات تتنصل حتي عن مواقفها اللفظية ، وذلك بتجميد المؤتمر العربي الاسلامي وطرد مجموعات من الأفغان العرب والتراجع عن الشعارات القومية والبحث عن مداخل للوفاق والمصالحة مع قوي العدوان الغربية نفسها . وفي نفس الوقت ظلت السلطة تحاول استغلال هذا الموقف لتشويه موقف حزب البعث من نظامها الاستبدادي وتخريب علاقاته مع قوي المعارضة السياسية والاجتماعية وذلك من خلال تشويه موقف العراق وتضخيم علاقاتها معه واستمرأرها في التضليل الإعلامي حول موقفها من القضايا القومية العربية الكبري وهي بذلك تكرر نفس تكتيكات النظام المايوي عندما حاول استخدام بعض مواقفه القومية وتأييده ودعمه للعراق في الحرب العراقية ضد ايران لتحقيق نفس الاهداف تقريبا ، ومثلما فشلت الدكتاتورية المايوية ، فقد فشلت أيضاً دكتاتورية الجبهة لان موقف العراق وقيادته السياسية من قضايا شعب السودان واضحة وثابتة رغم تغير أنظمته السياسية وأيا كانت توجهاتها ، ولان موقف حزب البعث من النظام الحاكم في السودان تحدده اساسا مواقفه من قضايا الديمقراطية والوحدة الوطنية وحقوق الجماهير الاقتصادية والاجتماعية ويرتبط بمجمل موقف الحركة الوطنية في البلاد ، ولذلك ظلت مواقفه من النظام الدكتاتوري الاستبدادي ثابتة ، وظل البعثيون يمسكون براياتهم رغم مواصلة حملات الاعتقال والمطاردة وكافة اشكال العنف والقمع الموجه ضدهم، وظلت علاقاتهم مع قوي المعارضة الأخري حية ومستمرة في مواقع العمل والسكن ومجالات العمل المشتركة وسط النقابات والتنظيمات الطلابية والانتفاضات الشعبية وغيرها، وذلك رغم خلافاتهم معها في الفترة السابقة حول بعض قضايا العمل المشترك في التجمع الوطني ، ولكن الفئة الحاكمة لا تتورع عن استغلال كل شئ لخدمة أهدافها بما في ذلك المقدسات الدينية والقومية والوطنية لجماهير الشعب ، وذلك دون جدوى او امل في تجاوز أزمتها السياسية والاقتصادية والأزمة الوطنية الشاملة الجارية في البلاد.
    انطلاقا من كل ذلك فان حزب البعث يدعو كافة قوي المعارضة السياسية والاجتماعية الشمالية والجنوبية للعمل علي تمتين وحدتها وتماسكها في اطار التجمع الوطني الديمقراطي وبناء مركز قيادي موحد وفعال لقوي المعارضة الداخلية ، وذلك بهدف تقوية صمودها وتصعيد نشاطها وسط قطاعات الشعب ، خاصة النقابات والطلاب والشباب وربات البيوت ، وبالتركيز علي القضايا السياسية الخاصة بالحقوق الاساسية للإنسان والحريات العامة ، وقضايا الأجور والمعيشة ، وايقاف الحرب الاهلية وتحقيق السلام وتعزيز الوحدة الوطنية وبناء صندوق وطني لدعم اسر الشهداء والمعتقلين السياسيين والمشردين والمسجونين ونظيف مراكز المعارضة الخارجية لدعم حركة المعارضة الداخلية ، وصولا الي العصيان المدني والإضراب السياسي في اطار الانتفاضة الشعبية الشاملة بكافة مقوماتها المتناسبة مع طبيعة النظام . فإذا اصبحت هذه المقومات واقعا ملموس تضحي التنازلات من قبل النظام احدي الخيارات المفروضة عليه وطريقا لتصفية ركائزه من خلال المؤتمر الدستوري .
    لقد كان حزبنا - حزب البعث العربي الاشتراكي - في مقدمة القوي السياسية التي شاركت بفاعلية وجدية في تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي وفي صياغة ميثاقه وبرنامجه وإعلانه في اكتوبر ١٩٨٩- ومنذ ذلك الوقت ظل التجمع يمثل إطارا شاملا لكل قوي المعارضة السياسية ، وأساسا متينا لبناء جبهة وطنية عريضة تستهدف بناء سودان ديمقراطي موحد ومستقل ومتفاعل مع محيطه العربي والإفريقي، ومقارنة بالتجارب المتعددة خلال الانظمة الدكتاتورية السابقة،تميز التجمع في هذا الإطار بتوحيد قوي المعارضة السياسية منذ الايام الأولي لانقلاب ٣٠ يونيو بمشاركة فعالة من الحركة النقابية ، جنبا الي جنب مع القوي السياسية ، حيث دورها يتحدد في النشاط العملي ولا تشارك في مركز القيادة والتقرير وتميز ثالثا بمشاركة القوي السياسية الجنوبية وأطرافها المسلحة لاحقا لاول مرة في تاريخها في جبهة موحدة مع القوي السياسية الشمالية في اطار برنامج محدد ، وذلك يمثل تقليدا جديدا سيكون له تأثيره الكبير في تطوير التفاعل الإيجابي بين أطراف الحركة السياسية الشمالية وخلق مرتكزات مشتركة تساعد علي توحيدها حول القضايا الوطنية الكبري والتخلي عن النظرات والنزعات الضيقة السائدة وسط بعض الأطراف جميعها ... وفي منتصف ١٩٩٥ دخلت قوي المعارضة في منعطف هام ،بانعقاد مؤتمر اسمرا وإعلان مقرراته حول القضايا الاساسية ، ودخول بعض أطراف المعارضة الشمالية ميدان العمل المسلح نتيجة لتعنت السلطة الحاكمة واستمرارها في سياسات الاستقطاب ونهج العنف والقمع ، ودخول الحركة الجنوبية المسلحة مجال العمل السياسي والعسكري مع القوي الشمالية الخ.. وبذلك تجددت فعالية التجمع وتصاعد نشاطه بعد جمود طويل ، وتماسكت وحدة قواه حول القضايا الاساسية بعد خلافات ممتدة ، ورغم إيجابيات هذه التطورات وتأثيرها في مجمل حركة المقاومة في الداخل والخارج ، فان حصيلة التجربة ، خلال السنوات القليلة السابقة تؤكد استمرار اختلالات أساسية وضرورة مواجهتها ومعالجتها ويتمثل في الآتي : التركيز علي عمل المعارضة الخارجية وإهمال المعارضة الداخلية ، وعلي حساب الضغوط الإقليمية والدولية علي حساب التعبئة السياسية وسط جماهير الشعب ، وعلي العمل العسكري والإعلامي علي حساب العمل الفكري والسياسي ، وعلي الحكومات والمنابر الرسمية علي حساب العمل مع تنظيمات المجتمع المدني في البلدان العربية والأفريقية وبقية بلدان العالم وغيرها الخ.. بصورة اكثر تحديدا يردي الحزب ان هناك حاجة ماسة لتطوير مسيرة التجمع ميثاقا واستراتيجة سياسية علي اساس تحليل أعمق لجذور النظام الراهن في معضلات تاريخ التطور السياسي الحديث وانعكاسها علي المجتمع السوداني نفسه . فإستيلاء حزب الجبهة الاسلامية علي السلطة سبقه انتشار نفوذها السياسي بأكثر مما كان عليه في اي مرحلة من حياتها لاستناده الي قاعدة قوية مادتها سلبيات الفكر والعمل السياسي السوداني وتراكمها طوال فترة ما بعد الاستقلال ولا سيما تأثيرات الانظمة الدكتاتورية المتتالية التي انتهت الي تخفيض سقف الوعي العام وتخريب تركيبة المجتمع في صميمها . والعلامة الدالة في الانكفاء الاثني والجهوي ، كل ذلك مصحوبا بعملية حراك اجتماعي وبشري لا نظير لها تتحلل فيها الروابط الاجتماعية والأخلاقية وبزحف فيها الريف نحو المدينة . وفي نطاق التأثير المحتوم لهاتين الظاهرتين علي استراتيجة البديل الديمقراطي السوداني فان اكثر مكوناتها حاجة لإعادة النظر المستمر ، هي اسلوب العمل المسلح سواء كان مطروحا كأحد عناصر الانتفاضة الشعبية او من الريف وذلك بسبب الإجماع القائم علي كونه سلاح ذو حدين حتي لو كان مفروضا علي المعارضة . كما ان العمل المسلح يشكل المدخل الرئيسي الي الشان السوداني للبعد السلبي في العوامل الإقليمية والدولية الذي لا يعطي الأولوية للمصلحة السودانية ، او يتناقض معها كلية كما هو الحال مع المخططات الصهيونية .
    كذلك فان تعميق التحليل الفكري كأساس للعمل السياسي علي النحو المطلوب وثيق الصلة بإمكانية تطوير البند الخاص بتقرير المصير في ميثاق التجمع لصيانته من التحول الي عكس المراد منه كوسيلة لتجديد عقد الوحدة الوطنية وتقويتها. ويهتم حزبنا بصورة خاصة بهذا البند لاقتناعه بان توجهاته الفكرية تؤهله للمساهمة في تجسير الفجوة الشمالية - الجنوبية التي هي المصدر الاول لازمة الوحدة الوطنية ، بخبرته العلمية والنظرية في تحديث مفهوم العروبة وحقيقة صلتها بالإسلام .
    ان حزب البعث يجدد تمسكه بالعمل المشترك مع كل قوي المعارضة السياسية والاجتماعية الشمالية والجنوبية ، في اطار التجمع الوطني الديمقراطي وميثاقه وبرنامجه ، ويؤكد هنا ان العمل المشترك لا يلغي العمل المستقل ولا يتناقض معه ، بل يكمله ويطوره ، ويؤكد أيضاً ان طرح هذه الاختلالات وغيرها من أوجه القصور لا تستهدف التقليل من شانه كإطار شامل لقوي المعارضة ولا التقليل من شان القوي الأخري ، لان الخلافات يمكن حسمها بالمناقشة العامة والحوار الديمقراطي وفق اللوائح المعتمدة وصولا الي تطوير فاعليته ونشاطه ، ووجود مركز قيادي موحد وفعال لقوي المعارضة في الداخل يمثل حجر الزاوية في هذا الاتجاه وضمان لمراكمة خبراتها وتجاربها ولانتصارها المحتوم علي قوي الطفيلية واستبدادها المتستر بغطاء الاسلام زورا وبهتانا، ومع كل ذلك يظل التمسك بأهداف الديموقراطية وتعزيز الوحدة الوطنية سلاحنا الرئيسي لمواجهة الازمة الوطنية الشاملة الجارية في البلاد بكل احتمالاتها المتوقعة ، ولخلق أرضية للعمل المشترك في كافة المجالات ، بدء بالخطوات البسيطة ، حسب القدرات والإمكانيات والأساليب المتوفرة وصولا الي تصفية دولة الحزب الواحد الدكتاتورية وبناء سودان موحد ومستقل وفاعل في محيطه العربي والإفريقي والدولي .
    حزب البعث العربي الاشتراكي السوداني
    المكتب السياسي
    الخرطوم يناير ١٩٩٩






                  

العنوان الكاتب Date
حزب البعث السوداني : البرنامج السياسي ملاحظات ومراجعات حول الوثائق الأساسية حزب البعث السوداني09-25-22, 08:21 AM
  Re: حزب البعث السوداني : البرنامج السياسي مل� Abdelrahim Mohmed Salih09-25-22, 08:39 AM
  حزب البعث السوداني : في البرنامج السياسي. حزب البعث السوداني09-25-22, 08:52 AM
    Re: حزب البعث السوداني : في البرنامج السياسي. عوض محمد احمد09-25-22, 03:07 PM
      Re: حزب البعث السوداني : في البرنامج السياسي. Abureesh09-25-22, 05:10 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de