أتذكر جيّداً أنني سمعت نُتفاً من قصص مدهشة عن الشيخ فرح ودتكتوك، حكتها لي جدتي في زمان غابر. وكانت -رحمها الله وطيّب ثراها- تروي بطريقتها المشوّقة العجيبة وصوتها الدافئ. وممّا أذكره جيداً أن تلك الأقاصيص والحُجا قد تركت أثراً حسناً في نفسي، لما تحمله من طرفة ومفارقة وسخرية. كانت تغريني وأنا بعد طفل، ولا زالت.
الشيخ فرح ودتكتوك بن محمد بن عيسي، من قبيلة البطاحين، ومن مشايخها المعروفين. من المرجح أنه ولد في منتصف القرن الحادي عشر الهجري أثناء ازدهار سلطنة الفونج. الشيخ موسوعة معارف، وأحد المشايخ الذين لا يشق لهم غبار. رجل ساخر، حاذق، عميق الدروس، لا يتورّع عن انتقاد القيم الإجتماعية السالبة في مجتمعه. وها نحن الآن بعد قرون مديدة، لا زلنا نتسقّط أخباره بين ضباب الماضي، علّ بعض حكمته تصيبنا.
كان الشيخ فرح يقف مع حقوق المرأة، ويعلّي من شأنها. يُروى أن هنالك ملك إسمه "تيرا" أنجب بنتاً حسناء نادرة المثال فهمّ بزواجها. وصل الخبر إلى الشيخ فرح فقال:
قل للملك تيرا..
ود الخادم العويرا...
زوّجناك بنتك الكبيرا..
بي سنة البغال والحميرا...
في هذه الأبيات الخفيفة المسجوعة، نتلمس طريقة الشيخ فرح الساخرة اللاذعة في النصح والإرشاد. ومن سنن الشيخ حتى آخر أيامه العمل بيده. وكان فيه القائد والرائد. حيث يعد أوّل شيخ في المجتمع السّناري آنذاك يخرج عن جمهرة المشايخ بفلسفة العمل. وكان هدفه من ذلك توخّي الحلال من الرزق، ثم ابتكار دروب جديدة لكسب العيش لم يعهدها المجتمع الذي يسخر من العمل اليدوي والحِرفي. و كان الشيخ "ود أب زهّانة" معروفاً بترفعه عن العمل، وقال في ذلك حكم وأمثال لا تزال تسري بين الناس إلى اليوم. مثل قوله:
_ إدّين وإتبيّن.
_ الدَين فوق الكتوف والأصل معروف.
_ أكل عجبك، وألبس عجب الناس.
_ كان كترت الهموم أرقد نوم.
_ رزق الليل ضيق.
تابع الشيخ فرح هذه الأقوال وفنّدها علميّاً وعمليّاً، فكان عندما يسمعها ينشد:
الإستراح راح..
الشِّقا لِقا...
ومن كدّ وجد..
وهذا الإزدراء بالعمل يرجع لتأثير أعراف البداوة والفروسية على سلوك الشبان. فهم يتصورون أن الذي يعمل بيديه هو الخائر الجبان، ويرون أن الكمال في قطع الطريق والسلب واغتصاب السائمة، هذا هو العمل عندهم، أما ما دونه فهو هوان. وكان الشعر النسائي الذي تنظمه المرأة يشير إشارات واضحة إلى هذا الأمر. فالفتى المثالي هو الذي لا يعمل كما تشير كثير من النماذج الشعرية.
والمعروف أن الشيخ فرح كان يسعي دوماً لنشر العقيدة السليمة، وما أحوجنا اليوم إلى ذلك، الخالية من الغلو والشطط. لأن مجتمع تلك الحقبة كان صوفياً بامتياز، تكثر فيه الخرافات والشطحات. وذات مرة وجده أفراد من طريقة الزبالعة يرقد على سرير قرب النهر وناوشوه فلم يجارهم، ثم حملوا السرير وهمّوا بإلقائه في النهر فعثروا وخافوا، وكانوا يردّدون إسم شيخهم "كرين" مستغيثين به، فالتفت إليهم الشيخ فرح وقال:
يا أبّان طريقة مضلّة..
يا أبّان عملاً ماهو لي الله...
وكت العنقريب فوقهن إنبلّ..
ما بنفعكم كرين ودعبدالله...
والزبالعة هم فئة معروفة بالضلال. حتى أن الكلمة انتشرت كدلالة ورمز على الخطأ والجهل. مثل قولهم: "يا ولد ما تزبْلع"،"خلّي الزبْلعة"،"واحد زبْلعي ما تسمعوا كلامه".
استمد الشيخ تجاربه وفلسفته العميقة في الحياة من الواقع المتقلب الذي لا يبقى على شيء، وربما كان الفضل في أن يذيع صيته لأسلوبه السهل العفوي الذي يأتي في قالب سجعي محكم العبارة. أورثته حياته الطويلة بصيرة خاصة، وفراسة استثنائية، ورؤية لا تخيب في قراءة المستقبل، حيث قال واصفاً آخر الزمان:
السفر بالبيوت..
والكلام بالخيوط...
والبيوت هي المقطورات التي تكوّن القطار، والكلام بالخيوط قصد به الهاتف. والراجح أن الشيخ فرح ناهز المئة سنة، وعاصر عدداً من سلاطين الفونج. وكان يمقت التذلّل والتزلّف للسلاطين، حيث قال في قصيدته الشهيرة:
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة