طبعاً كما تعلمون أنا مازلت موقوف، لدي مداخلة واحدة .. ثم أنني جئت لغرض محدد .. ويبدو مددت أقامتي .. وعليه أسألكم الصبر حتى أرد علي كل واحد منكم .. ف معذرة ..
أولاً: أنتم جميعاً ذهبتم مذهب غير ما ينبغي، فأنا لم أقل محجوباً أدعي نبوءةً .. فقط أتساءل: إن زخم الذين ينقلون عنه .. سوي أنهم يدركون أو لا يدركون .. أنهم يضعونه في مصاف نبي .. ويظهر أن كل ما اختطته يداه في نظرهم، قرآن يتلي!! لا يأتيه الباطل ما بين يديه ولا من خلفه .. ولم أجد أحداً منهم يقدم نقد لتجربة محجوب شريف، وأظن هذا لأسباب، أولها هي الخوف من الزخم الأسطوري الذي أحاط به الشيوعيون وأتباعهم وأشياعهم محجوب شريف ..
وهنا في هذا البوست سترون .. سوف أقدم لكم وجهاً أخر لمحجوب شريف .. .... وأول الغيث أن محجوباً، لم يكن شاعراً جمالياً في نصوصه، ولم ير، حسب أشعاره، شيئاً جميلاً في هذا الوجود الجميل حد الإدهاش في جماله .. ويحق لي أن أذهب أكثر، لأقول أنه شاعراً "سوداوياً" .. لا يري في الوجود إلا ما هو أسودا .. ويتراءي لي أن تلك "السوداوية" لمحجوب .. وقد وثقها في جميع أشعاره ولم تعد قصيدة من قصائده إلا تبذر سواداً فوق سواد حياة الشعب السوداني .. الذي أصبحت حياته سواداً علي سواد من وجهة نظر محجوب ومحجوب شريف لم يفتح الله له أن يضيئ كوة للجمال والأمل في نفوس مستمعيه إلا لماماً .. بل حملهم إلي التوشح بالسواد والنواح .. وهذا كله يرجع إلي شيئين أساسيين في حياة محجوب شريف، الحزب .. والإجتماع ....
وتحية لول أبا المستنير، الوحيد الذي ينشر نفاج الأمل في حياة الناس في البورد بريمة ****
قلت أن محجوب شريف لم يفتح كوة للجمال والأمل في نفوس مستمعيه .. بل حملهم للتوشح بالسواد والنواح .. ولعلي هنا أضيف، أن السوداوية التي يراها محجوب .. ليس هي ذات السوداوية التي يراها الشعب السوداني ..
فالسوداوية التي يراها محجوب هي سوداوية ذاتية .. نابعة من شعور ذاتي بسبب التناقض الذي يعيشه محجوب شريف ما بين واقعه الذي وجد فيه نفسه لاحقاً .. وما بين منشأه .. الذي نشأ فيه .. وهذا ما أسميه بدور الإجتماع في حياة محجوب .. دور الحزب هنا هو فتح عيني محجوب شريف .. علي التناقض في حياته قبل أن يفتح عينيه علي مأسي البروليتاريا .. وصراع الطبقات الذي يتراءي في أشعاره .. والذي في حقيقته إلا انعكاسا لمرآة ذاته وحياته .. رغم ما يتراءي بأن الحزب فتح بصيرة محجوب علي الوجود والصراع في الحياة من أجل البقاء .. إلا أن إيديولوجية الحزب والديالكتيك الذي يتغذى عليه الحزب .. هو ذاته الذي "قحم" التفاؤل في حياة محجوب .. ليحوله إلي إنسان أشبه بالسادي الذاتي .. وشتان ما بين الأنسان السادي والسادي الذاتي .. الأخير هو الذي لا يري جميلاً من خلال مرآة ذاته .. ولا يعرف إلي التفاؤل سبيلاً إلا في ومضات كومض البرق ..
وهنا يلزمنا أن نتساءل مرة أخري .. أين الجمال؟ أين حب الحياة؟ أين التفاؤل؟ أين الأمل؟ .. أين كل ذلك في أشعار محجوب شريف كل هذه الأشياء الجميلة موقوفه عند محجوب وفي حقيقة الأمر مرجي أمرها .. إلا بعد سقوط الدكتاتوريات .. هنا في السودان وربما في جميع أنحاء العالم .. وسوف ترون كيف!
ولعمري هذا خطل، لا أري أي حسن بصيرة وتدبر أن يوقف الناس الأمل والتفاؤل والجمال في أنفسهم إلى حين الفوز بالمنال .. ففي كل يوم تشرف فيه الشمس في سماء وطنا المشرق تنجب حواء السودانية طفلاً جميلاً يتطلع إلي الحياة والتعرف عليها وكل يوم مشرق تصحو الطيور وهى تشقشق مع نوره فرحة بيوم جديد .. ويذهب الفلاحون إلي مزارعهم يحملون الأمل بموسم عسي ولعل يسدل ستار الفقر عن حياتهم والرعاة يزفون قطعانهم .. والعاشقون يتغنون بعشق حبيباتهم وحفظة القرآن يحفظون آيات أخري لم يحفظونها من قبل .. ويعود عائد من الغربة .. ليري أهله وأحبابه .. وغيرها كثير .. وكثير .. من مظاهر الجمال والفرح وحب الحياة وفي كل ذلك هناك حياة وأمل وجمال .. لا يجد منه محجوب شيئاً جميلاً ..
والسؤال الضخم الذي يعانق عنان السماء .. هل يكون محجوب جميلاً إذا سقطت جميع أشكال الدكتاتوريات .. ليس في السودان وحده بل و في جميع أنحاء العالم؟
في المداخلة القادم سوف نتلمس ونتأمل الإجابة علي سؤال هل سيكون محجوب جميلاً في غياب الدكتاتوريات ..؟ أيضاً سوف نتأمل: من أين جاء الزخم الجمالي في حياة محجوب شريف .. وهذا شيئ "برادوكسي" رهيب لو تعلمون!
بريمة
*****
وقبل أن نذهب للأجابة عن سؤال هل سيكون محجوب جميلاً في غياب الدكتاتوريات؟ دعونا ننظر إلي الزخم الشعبي .. البرادوكسي في حياة محجوب شريف .. يتمتع محجوب شريف بشعبية كبيرة بين الشعب السوداني .. ويمكن أن نقول إنها شعبية طاغية بين مريديه وأحبابه .. وأنظروا إلي كلمة طاغية .. وهى ذات الكلمة التي يكرهها محجوب .. فالطاغية هو الدكتاتور .. ومنها جاءت الطواغيت .. وهنا من أجل الفنقلة .. هل محجوب طاغية؟ علي وزن أن الراحل محمد وردي فرعوناً في نظر أحبابه ومريديه .. وهنا ترون عجزاً لغوياً .. أن الطواغيت والفرعونات (لا أريد أن أقول فراعنة) .. فيهم الحسن مثل محجوب شريف وفيهم السيئ مثل الرئيس عيدي أمين .. ومثل هذا التخريج اللغوي لم يكن مستساغا في إرثنا الأسلامي .. فالرب هو الرحيم .. والنبي هو الشفوق علي قومة من عذاب أليم .. والطاغية هو من جنس أبليس الذي يفجر في خصومة البشر ليل نهار ..
هذا من جانب نبوة محجوب ..
وفي جانب أخر، فإن نشأة محجوب تجبرنا أن نعيد الكرة مرتين وبل مرات في النظر إلي دور البيئة والمنشأ والمكان في حياة شريف
ولد محجوب شريف في أرياف الأقليم الأوسط بقرية "أب قدوم" ريفي المسلمية وهنا نبذة عن المنطقة من أحد أبناءها، دعونا نتأمل صورة قرية أب قدوم ..
Quote: قرية أب قدوم
تقع في ولاية الجزيرة محلية الحصاحيصا وحدة المسلمية الإدارية تبعد تقريباً حوالي كيلومتر واحد من مدينة المسلمية من جهة الغرب تبعد 20 كيلومترا من الحصاحيصا و 32 كيلومتر من مدينة مدني تحدها مدينة المسلمية من جهة الشرق و من جهة الجنوب حلة حمد و من جهة الشمال قرية فضل الله من جهة الغرب قرية سعد الله و من جهة الجنوب الغربي قرية شاع الدين بها تركيبة سكانية فريدة تحوي عدد من القبائل حيث انصهروا في بوتقة واحدة و كونوا نسيج اجتماعي جميل جداً توجد بها مدرسة اساس مختلطة و روضة أطفال واحدة عدد اتنين من المساجد و اتنين من صهاريج المياه بها نادي رياضي ثقافي إجتماعي بإسم نادي النيل يمتهن اغلب سكانها كجميع أهل الجزيرة مهنة الزراعة فيها نسبة التعليم عالية جداً و الأمية تكاد تكون معدومة خرجت عدد من الأطباء و المهندسين و أساتذة و مدراء جامعات و أخيراً أبوقدوم أنجبت شاعر الشعب و الحرية ناصر الغلابة و المقهورين المناضل و ملهم الثورات الأستاذ محجوب شريف و من اشهر قصائده احبك ملاذ الشعب حبيبي و شرياني يا والدة يا مريم يا شعبا لهبك ثوريتك مساجينك و الكثير من القصائد الثورية
والصور أصدق من آلاف الكلمات .. قرية أب قدوم
***
دعوني، كرجل متخصص في مجال دراسات البيئة والموارد .. أقول أن منطقة الجزيرة برمتها تقع في حزام السافنا الفقيرة .. فهي فقيرة في الموارد الغابية والثروات البرية .. مما يجعل أن الحياة البرية برمتها ضعيفة .. وأن جمال الطبيعة ينحصر في موارد المياه مثل النيل الأزرق الذي تقع قرية أب قدوم في جواره من الناحية الغربية .. وكذلك في المزروعات .. والحيوانات الأليفة ..
وسكان قرية أب قدوم كما ترون من مباني القرية .. ليس هم بحال سيئ .. مقارنةً بقري أخري .. في الجزيرة نفسها .. مما يتيح لأنسان المنطقة العيش الكريم .. ولعدم وجود مدارس في القرية في ذلك الزمان، درس محجوب شريف في قري "المدينة عرب" .. ولعلي فقط لكي أشير لكم لبساطة أهلها نرفق لكم الصورتين التاليتين من المنطقة ..
ثم ماذا حدث .. جاء التحول الكبير في حياة محجوب .. حينما تم قبوله في معهد مريدي للمعلمين .. وكان المعهد يقع في الخرطوم .. فتعرف محجوب علي الحزب الشيوعي عن قرب .. ثم تخرج فيه محجوب .. وعمل معلماً في مدارس أم درمان .. وهناك ألتقي محجوب بشريكة حياته الأستاذة أميرة الجزولي .. وهى ذات أصول أم درمانية مولداً ومنشأ .. (صححوني) .. وهنا، وهنا فقط، دخل محجوب إلي حياة اجتماعية مختلفة .. ودخل صوالين أم درمان الاجتماعية .. وتعرف محجوب علي أهلها وتأريخهم وماضيهم الرغد في العيش في ذلك الحين .. في مقابل الريف الذي يرزخ تحت نير الفقر والأمراض ..
وماذا بعد ..
تلفّت قلب محجوب إلي البيئة التي نشأ فيها .. إلي الغلابة الذي يفلحون الأرض في حر الهجير .. وإلي الرعاة الذين يضربهم مطر الخريف وتلهب جلودهم حرور الصيف .. أين هم؟ .. لم يجدهم محجوب إلي جواره .. فعاد محجوب الأن قلباً ومشاعراً ونفساً وروحاً إلي أهل قريته .. وظل جسداً مع أهل بيئته الجديدة .. هذا التناقض شكل حياة محجوب الشعرية ..
وكما يبدو لي من أشعاره، قد عاش محجوب ومات .. متشرداً ذهنياً في وطنه .. وأكثر من ذلك شارداً شروداً إجتماعياً أشبه برحلة صاحب "موسم الهجرة إلي الشمال" أديبنا الفذ الطيب صالح .. وإن كنت أحمد الله أن محجوب عاد عوداً حميداً في أحد قصائده .. مريم التي يخاطب فيها والدته .. وفي الحقيقة يخاطب ذاته .. أي محجوب عاش وهو ينشد ذاته ويواسيها .. ويحمد له ايضاً أنه عرف قدره في الحياة الدنيا في ربطه بين منشأه ومبتغاه .. فزهد فيها زهد العارفين .. مستلهما الخلاص في "اللاشيئ" .. متوسلا إلي ذلك من خلال قصائده ومنكفئا علي ذاته التي يظل يواسيها في رحلة "اللاشيئ" ..
و"اللاشيئ" هنا لا يعدل عندي العدم .. بل هو أشبه بسراب "بقيعة" يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً .. والسراب ليس عدم فهو لاشيئ .. كما النور ليس شيئاً ولم يكن عدماً .. وكذا الظل والرائحة والحر .. فاللاأشياء كثيرة .. ونحن كبشر نحس بها .. فأنا أحس بالبرد والحر ولا أراهما ولا ألمسهما .. وهنا تظهر ملامح اللاشيئ .. ولو حاولت شرح مفهوم اللاشيئ عند محجوب .. يمكننا أن ننظر إلي حالة الغني .. حيث الرفاه، الجاه والمال ورغد العيش .. أي كل الأشياء متوفرة .. كل الأشياء .. وإذا تدرجنا نزولاً إلي حياة الكفاف .. نجد هناك ما يسد الرمق من العيش .. أي هناك شيئ ما .. بعض الأشياء .. وإذا نزلنا هبوطا سلماً أخر إلي أسفل نصل إلي الفقر المدقع .. الذي ليس معه شيئ .. يعني هو حالة اللاشيئ .. وفي حقيقة الأمر محجوب لم يكن فقيراً .. ولم يكن محجوب محروماً أجتماعياً أو عاطفياً بل موفوراً إن جاز التعبير هنا .. وأقول أن محجوب يمتلك كل شيئ .. ومع ذلك فهو فقيراً مع الفقراء .. ومعدماً مع جموع المعدمين .. وتائهاً مع التائهين .. وهلم جرا .. وهنا يظهر محجوب في أبهي حلله متنكراً لواقعه الذاتي ومنسجماً مع واقعه الأفتراضي .. بل الحقيقي .. الشعب الذي يعاني مر المعاناة ..
وسوف نعود
بريمة ***
ولعلي أعقد لكم مقارنة .. وهى مقارنة لا تستقيم .. بين محجوب شريف وشخصي الضعيف والشاعر حميد .. النسخة الأخرى من محجوب شريف .. مع أختلاف وجداني يفرقهم تفريقاً لا تدانية أي مقاربة .. لكني أقف في المقارنة ما بين محجوب وشخصي في هذه المداخلة .. شخصي ومحجوب خرجنا من عمق الريف السوداني .. ويبدو هذا هو مشتركنا الوحيد .. لقد شكل وجداننا الريف والانتماء إليه ..
أختلافنا .. هو
أن محجوب لم يعتز بالريف، ولم يجد في الريف حسنة تهدوه للعودة إليه .. فالريف عند محجوب معاناة .. وضنك في العيش والحياة .. وفي أبهي صوره، فإن الريف يتلخص عن محجوب شريف في كلمات ومعاني كما قالت صحيفة اليوم التالي: "النص الشعري عند محجوب شريف يحضن اليومي المعاش والإنساني في جزيئات الحياة المتناثرة، اللمة، الونسة، القدلة، الأصحاب، الهمس الحنون، الحكاوى، الحلم الجماعي، ترامس الشاي، الضل الوريف، الموية العذبة، النفاج، حسن الظن وطعم الخبز والسترة، كل ذلك رفعه الى مصاف الغناء البهيج، من جماليات القصيدة عند شريف انغراسها في لغتها في غور شعبها القاصية واستثمارها لعذوبة الشفاهية السودانية" وفي ظني كل هذه كلمات ومعاني في قمتها "نوستالجيا" غائرة في الحنين وليس في جماليات الريف وبئاته الخلابة .. والحريات المتفردة التي ينعم بها إنسانه .. وجمال إنسانه وصفاء حياته .. وفوق ذلك الشوق للعودة إليه.
شخصي الضعيف، "نوستالجك" حتى الوله للعودة للريف وحياة البادية .. وأفخر بعيشنا في البادية وسمو طرائق حيواتنا وتناغمنا مع ما حولنا من بيئة .. كالتمتع بالمناظر الخلابة والغزلان وهى تلهو .. وأسراب طائر الرحو في "زي" ملائكي عند الغروب .. وبالمهرات الصغيرت يركضن بإنهماك في الراوبي الخضراء .. وفي رمية الشبال، ونغمة الدوباي وعطور البادية البلدية التي تفوح من شعور بناتها وهن واردات الرهود وبين الأزهار التي يفوح أريجها ..
الشاعر محجوب شريف قروياً يتطلع إلي تحول الريف إلي حياة الرغد والمدنية .. وشخصي بدوي لا يري في المدن إلا إنها غابات أسمنت صماء .. وأهلها أصابهم رهق الحياة .. وجوهم كالحة .. مكفهرة .. في مقابل إنسان الريف الذي يعيش علي الكفاف ويقنع بالقليل ولكنه كطيور الدوح التي تطرب وتصفق للأغسان حتى تميلا .. ويغنى للطبيعة والجمال والمطر .. ولعل القارئ يتساءل، ما هو السبب في أن شخصين خرجا من الريف ويران المدينة من زوايا متضاربة .. لا أدري كيف تفكرون في هذه النقطة .. بيد أني حتماً أؤول علي شيئ واحد .. هو انتماء محجوب شريق للحزب الشيوعي .. الحزب الشيوعي، حول أبناء شعبنا إلي أشلاء أدمية تمشي بقدميها في روح منهكة ومكبلة بقيود النظريات البلشفية المستوردة ..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
Biraima M Adam
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست