عَاش “باولو” حياته كُلها وحيداً حتى عندما كانت الحياة تمتلئ صخباً حوله كان وحيداً، لقد أدمَنْ الرجُل شعور الوحدة كما أدمَنْ تماماً تناول الخمر حتى بِحانة توماس التي لا تبتعد كثيراً عن غُرفة مَعيشته حتى الثُمالة ..
رجل مسن قضى حياته كلها عاملاً بمحطة قطارات كنج كروس Kingś Cross بوسط لندن ..
لم يتزوج “باولو” وإن كَان ذات يوم أخبرتهُ إمرأة رافقها بضعة أشهر بأنها حامل منه لكنها إختفت ولم يعد لها أثر ولا يدري حتى الآن ما إذا كانت تلك المرأة صادقة أم كانت تحتال عليه من أجل حفنة من النقود ..
المُهم أن الرجل بقي وحيداً إلا من زُجاجة الخمر التي كانت تُرافقَهُ دائماً ..
كان يَقطن حُجرة صغيرة لا ترهقه قيمة إيجارها الذي يتناسب مع قيمة المعاش الذي يتقاضاه من عَملهُ السابق ..
كان جاره القسيس فرانسيس رجل غامض بعض الشيء صمته أكثر من كلماته حاد العينين لا ترى منه رقة إلا نادراً وكانت مفارقة كبرى أن يكون الرجُل الذي يصعد بالناس إلى السماء بمثل هذه الصفات ..
ورغم أن باولو غالباً ما كان يتجنب الحديث معه إلا أن فرانسيس دائماً ما كان يَحتقره، فهو ليس في نظره سوى السكير المُلحد الذي لم تطأ قدماه الكنسية منذ أحد عشر عاماً ..
كان بَاولو يعلم عن فرانسيس ما لا يعلمه غيره من جيرانه، فقد رآه مجرد خادماً بالكنيسة لا يقوم سوى ببعض الأعمال اليدوية ثم جاءت الحرب وأصبحت تلك الكنيسة الصغيرة مجرد منزل لإيواء الجرحى والمُهاجرين من بيوتهم التي دمرتها طائرات الألمان لكنه بعد إنتهاء الحرب أصبح قسيساً يلقي العظات ويعترف الناس له بكل خطاياهم من وراء ستار قاتم اللون ويتلقى التبرعات !!
ومن هنا يأتي سر الكراهية المتبادلة بين رجل أصبح في غفلة من الزمن قسيساً وبين سكير مُلحد بحث عن الله كثيراً ولم يجده !!
والحقيقة أن “باولو” كان رجل طيب القلب مسالماً إلى أبعد درجة فقد شوهد كثيراً وهو يطعم الكلاب الضالة من طعامه بل شوهد وهو يأوي كلب ضال في حجرته عدة أيام من برد الشتاء وقسوة الثلوج والمطر والحقيقة أيضاً أنه بحث عن الله عدة سنوات بين جدران كنيسة سانت نيقولا وبين عظات القساوسة وبين حكمة الرهبان وزهدهم لكنه لم يستطع ..
كانت عظات القسيس تبعده أكثر عن الطريق الذي يقربه إلى الله لكنه كان يشعر بأن مُعجزة ذات يوم ستضعه على الطريق بعيداً عن إحتقار فرانسيس له ونعته دائما بالسكير المُلحد ..
وذات ليلة بينما كان عائداً من الحانة وهو بنصف وعي قابل إبنة جاره توماس المريض بالربو، كانت الفتاة تبكي فقد إمتنع مالك الصيدلية اليهودي راؤول عن إعطائها الدواء الذي يأخذه أباها قبل أن تدفع الثمن المؤجل بينما يشتد المرض عليه وعند ذاك إصطحبها باولو إلى اليهودي وكان يحمل معه زجاجة نبيذ معتق كان قد إشتراها لتوه لليلة الميلاد التي قرب موعدها وعرض على راؤول أن يقايضه بها وأن يعطي للفتاة دواء يكفي والدها شهراً كاملاً، وهنا وافق اليهودي على الفور فقد كانت زجاجة النبيذ تعود إلى عام 1930 أي أنها قدّ عُتقت لمدة عشرون عاماً كاملة ..
وعاد “باولو” إلى غُرفته دون زجاجة النبيذ المعتقة لكنه عاد بشيء أثمن بكثير كان يبحث عنه طويلاً، لقد عاد برجفة قلب لم يشعر بها بين جدران الكنيسة أو من عظات الكهان أو من شفاعة القديسين والرهبان ..
كانت رجفة القلب هذه من السماء ويالها من معجزة !!
لم يشرب الخمر بعدها وعندما مات وجدوا أسفل وسادته خطاباً بسيطاً يقول فيه : "إبحثوا عن الله في إسعاد البشر .."
لقد مات مُؤمناً دون وعظ من قسيس أو شفاعة من راهب ..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة