الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطنى المثال -- توثيق

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-22-2024, 11:45 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-21-2021, 04:57 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� (Re: الكيك)


    --------------------------
    عبد الكريم الكابلي: سُلَّمٌ تعليميٌّ متكامل (3)

    بقلم: د. النور حمد

    لم يتحرك مطرب سوداني في مساحةٍ بعرض المساحة التي تحرك فيها عبد الكريم الكابلي، من حيث فئة الأغنية، ولونيتها، وإيقاعها، ولحنها. استخدم الكابلي إيقاعاتٍ متنوعةً جدا. وطرق مواضيع مختلفة، وألف ألحانًا متباينة في طابعها. غير أنها جميعها حملت بصمته الخاصة، التي ميزته، بوضوح شديد، عن غيره. كان الكابلي أكثر جيل العمالقة تلحينا للأغاني المكتوبة باللغة الفصحى. ولو أخذنا من فئة العمالقة الكبار ثلاثةً، مثال: عثمان حسين، ومحمد وردي، ومحمد الأمين، لوجدنا أن الكابلي هو صاحب القدر الأكبر في تلحين وغناء شعر الفصحى. لحَّن الكابلي، من قصائد الشعراء السودانيين، مما أذكر، “إني أعتذر”، للحسين الحسن، ولحَّن له أيضا، “طائر الهوى”. ولحَّن لشقيق الشاعر، الحسين الحسن، تاج السر الحسن، “آسيا وإفريقيا”. ولحَّن لعبد المجيد حاج الأمين، نشيد الجامعة، الذي يقول مطلعه، “هبت الخرطوم في جنح الدجى”. ولحَّن لحسن عباس صبحي “ماذا يكون حبيبتي”. ولحن رثاء “سلمى”، التي يقول مطلعها، “أنا أبكيك للذكرى”، ولا يحضرني شاعر هذه الأغنية. ولحَّن لصديق مدثر، “ضنين الوعد”. كما أنشد للناصر قريب الله درته المميزة، “أم بادر”، وللعباسي، “أرقت من طول هم بات يعروني”. وهذا فقط مما علق بذهني من قصائد الفصحى السودانية التي انتقاها، ولحنها، وقام بأدائها.
    أما في الشعر العربي القديم، فقد لحَّن لأبي فراس الحمداني، “أراك عصيَّ الدمع شيمتك الصبر”، وللمتنبي، “مالنا كلنا جَوِيٍ يا رسولُ”. كما لحن ليزيد بن معاوية، “نالت على يدها ما لم تنله يدي”. ولحَّن في الشعر العربي الحديث، لعلي محمود طه المهندس، “الجندول وكليوباترا”، ولحَّن لعباس محمود العقاد، “شذى زهر ولا زهر”. ولو تأملنا اختياره لقصائد شعر الفصحى؛ السوداني، والآخر العربي، مما جرت كتابته خارج السودان، في القديم، وفي الحديث، لدلَّنا ذلك على ذائقته الشعرية الرفيعة. لا يُلحِّن الكابلي غثَّ الكلام، ولا مُعتادَه، وبُدَهِيَّه، وفَجَّه، سواءً جرت كتابته بالعامية، أو بالفصحى. لقد كان ينتقى أجوده وأكثره تأثيرًا في “دوزنة” وتنغيم وجدان مستمعه. وعلى ذات النسق يسير الكابلي حين يكتب الشعر الغنائي العامي بنفسه، ليلحِّنه، ويغنيه. وهذا باب فريد أشار إليه فيه، الدكتور، عبد الله علي إبراهيم، في كلمته عنه، التي نشرها عنه قبل أسبوع، تقريبا. ولسوف تكون لي وقفهٌ قصيرةٌ مع الطابع الفريد للشعر الغنائي الذي نظمه الكابلي بنفسه، وهو كثير. فهو ذو نَفَسٍ، ونكهةٍ، ونمطٍ فريد.
    تميز الكابلي، أيضًا، على أقرانه، من جيل العمالقة، بغناء شعر الحماسة الشعبي، على إيقاع الدلوكة. فقد غني، “فرتيقة أم لُبوس لُوِّيْعَة الفرسان”، وغني “خالد ما ليك تنين”، وغنى “خال فاطنة”، كما تغنى ب “الزول السمح فات الكبار والقدرو”، وغنَّى مختلف مسادير البادية، مما لا يحضرني الآن. ولا غرابة، فقد كان الكابلي باحثًا واسع الإلمام بالتراث. وأهم من ذلك، كان ذوَّاقةً، رفيع الذوق، يعرف كيف ينتقي من التراث السوداني، الريفي والبدوي، الثر، أفضل ما فيه. وهذه من ميزات الكابلي الغريبة؛ فهو من أبناء الموظفين ساكني المدن، ولربما يصح أن نصف نشأته وحال أسرته، وتجربة عيشه المدينية بـ “الإفرنجية”. غير أنه، مع ذلك، يتذوق شعر التراث البدوي، ويعرف غميس كلماته، وخفي ترميزاته وإيحاءاته. كما يعرف سير شعرائه، والثقافته الشعبية الساندة، التي تقف وراءه، وكأنه من أبناء البادية، الذين رعوا السوائم في رباها وسهولها، وصالوا، وجالوا، في ############اتها.
    غني الكابلي لعدد من كبار شعراء الأغنية العاطفية، السودانية، المكتوبة بالعامية، مثال: عوض أحمد خليفة، وعبد العزيز جمال الدين، وإسحق الحلنقي، والتجاني حاج موسى، وعبد الوهاب هلاوي، وغيرهم. غير أن بصمته الحقيقة، إنما تتجلى فيما قام بنظمه، هو، من شعر غنائي عامي. لقد أسس الكابلي، منذ بداياته الأولى، مدرسته الخاصة في نظم الشعر الغنائي. ويصعب جدًا أن يموضع المرء نظم الكابلي في شعر العامية الغنائي، فيما هو مألوف من ثيمات وأنماط التعبير، التي تتشاركها كثير من قصائد الأغنية السودانية. فأفكاره، وموضوعاته ورؤاه الشعرية، مختلفةٌ كثيرًا عن غيرها. كما أن للكابلي قاموسه الشعري، الذي يمتاز بفرادةٍ وأناقةٍ بَيِّنَتَيْن، وبتراكيب تعبيرية مبتكرة. لقد تطورت كتابة الشعر الغنائي لدى الكابلي، بصورة لافتة، عبر عقود تجربته الابداعية، التي امتدت لخمسين عاما تقريبا. فحين نتفحص نصوصًا مثل “أوبريت مروي”، و”سكر سكر”، و”الكل يوم معانا”، و”يا جار” و”زينة وعاجباني” وغيرها من نصوصه المبكرة، على جمالها ورقتها، ونقارنها بما جدَّ له في مجال الموضوع الشعري، وفي الأسلوب، تتضح لنا قفزاته المتتالية. فقد فصلت بين تلك النصوص الأولى، والنصوص اللاحقة، مسافةٌ كبيرة، من حيث ابتكار الموضوع الشعري، وقوة الشاعرية، وجودة النظم، ورقة مفردات القاموس، وجِدَّة نمط التعبير. فقصائد من شاكلة: “يا ستار علي من دورتك”، و”الليل عاد والشوق زاد”، و”مشاعر”، التي مطلعها “حسنك فاح مشاعر وعم الطيب فريقنا”، و”زمان الناس هداوة بال، وانت زمانك الترحال”، و”تاني ريدة وكمان جديدة”، و”حبك للناس”، و”شمعة”، و”يا شوق يا نغم”، وغيرهن، مما لا يحضرنني الآن، تتضح هذه القفزة الكبيرة. فهذه الفئة من نصوصه تمثل، بكل المقاييس، حالةً خاصة، قائمة بذاتها. فقد كان مبدعًا فذا، لا ينفك يتخطى نفسه، باضطراد. وما من شك لديَّ، أن تنميته الدؤوبة لقدراته، وتحديه المضطرد لنفسه، وتوسيعه المستمر لإمكاناته، أثر في ذائقة كل من عشق فنه. فقد ظللنا نَكْبُرُ معه، ثقافةً، وأدبًا، وذائقةً موسيقيةً. لقد كان الكابلي، لمن أحبه، وتعلَّق به، وتتبَّع مساره الصاعد، باستمرار، سُلَّمًا تعليميًا، متكاملاً، شديد الغنى، مبذولا للجميع، لوجه الله.
    يتسم نظم الكابلي بصورٍ شعريةٍ، فريدة، فيها، أحيانًا، من الطرافة، ما يجعلك تبتسم لدى سماعها. يقول المتصوفة: “المرء مَطْوِيٌّ تحت لسانه، فتحدَّثوا، تُعرفوا”. أعني بذلك، أن قصائد الكابلي الغنائية، تعكس تكوينًا وجدانيًا متميزًا، ذا منحى صوفيا. وهو في صوفيته التي دسَّها في احترافه الغناء، متجاوز للصوفية التقليدية. فصوفية الكابلي ممتزجةٌ بثقافةٍ عصريةٍ واسعة، وبإلمامٍ ثرٍّ بمدارس الفنون، والآداب الحديثة. فأنت تجد فيها من التعبير، ما هو واقعي، وما هو انطباعي، وما هو رمزي، بل، وما هو سريالي. فمَنْ مِنْ ناظمي شعر الأغنية، خاطب المرآة الحائطية متسائلا، على هذا النحو:
    كلميني يا مراية
    شايفك طربانة
    حكوا ليكي حكاية؟
    ولا كنتي معايا؟
    ولا انتي بتقري، يا ماكرة ظنوني؟
    ولا شفتي الصورة، الشايلاها عيوني؟
    ولا يبقى أكيد، عاداكي غنايا؟

    ثم، مَنْ مِنْ ناظمي شعر الأغنية، كتب عن طلة أنثويةٍ بهيةٍ، عارضةٍ، بحُسْنٍ صاعقٍ، مثل هذا النظم:
    بنور وزهور وعطور، استلم المجالْ
    بصوت منساب، بنُّور، شبهو ناسْ قُلالْ
    بخفة روح عصفورْ
    وإبداعات خيالْ
    خلا قلوبنا طيورْ، وحال أرواحنا حالْ

    ثم، مَنْ مِنْ شعراء الأغنية خاطب شمعةً مشتعلة، بمثل هذا القول؟:

    تسكب من حياتا النورْ
    وترمز للأمل، وتدورْ
    وما عارفة الأمل مسحورْ
    وما قايلة المسافة دهورْ،
    تكمِّل ألف شمعةْ، وشمعةْ
    تسكب روحها مليون دمعةْ.

    ما هذا يا ترى؟ هل هذه رمزية، أم هذه سريالية، أم شيء نسيج وحده، لا بهذا، ولا بذاك؟
    تنقل الكابلي بين الغناء العاطفي الحديث، وغيره من أنماط الغناء. فقد قام، كما سلفت الإشارة، بتلحين نصوص الفصحى، ونصوص العامية. وقد نوَّع في نصوص الفصحى، بين ما أنتجه السودانيون، وما أنتجه الشعراء العرب. كما طرق بالتلحين والأداء، كما ذكرنا، أيضًا، شعر الحماسة الريفي والبدوي. ومع كل ذلك، لم ينس أن يكون له نصيبٌ معتبر في إعادة غناء قصائد شعر الحقيبة. ولقد كان له في هذا الجانب، القدر الأكبر بين مجايليه، من العمالقة، الذين أعادوا إنتاج أغنيةٍ، أو يزيد، قليلا، من أغاني الحقيبة، مثال عثمان حسين، ومحمد وردي، ومحمد الأمين. فقد نوَّع الكابلي انتقاءه من شعر الحقيبة. فقد غني لخليل فرح “ماهو عارف قدمو المفارق”، و”تم دور إدوَّر”، إضافة إلى “نحن، ونحن، الشرف الباذخ”. كما غنى لمصطفى بطران، “دمعة الشوق”. وغني لأبو صلاح، “وصف الخنتيلا”، وكذلك، غنى له، “يا من فاح طيب رياه”، وغنى لسيد عبد العزيز، “بت ملوك النيل”، التي ترنم في مقدمتها بأبيات ود الرضي القائلة: “يعاينن توبتي في كامن ضميري ويمحن”. وغنى الكابلي من شعر الحقيبة غير ذلك، مما لا استحضر الآن. أيضا، تميز الكابلي على رصفائه بغناء أغاني زملائه. وقد بدا لي، مما لمحته في تجربته الغنائية، تعلُّقُه الكبير بمحمد عوض الكريم القرشي، الأمر الذي جعله يكثر من ترديد عددٍ من أغنيات عثمان الشفيع. كما ردد، أيضًا، أغنيات حسن عطية. هذا التشعب، والاشتباك المحمود، مع تجارب الرصفاء، واحدٌ من الأمور الدالة على سعة عقل الكابلي، ورحابة وجدانه، وسلامة نفسه، وسمو روحه. إن من أميز ميز الكابلي، أنه من ذلك العيار العالي من البشر، الذين لا ينافسون رصفاءهم، وإنما ينافسون أنفسهم، وكفى بتلك مَزيَّة.
    الكابلي، وما أنتج في حياته العامرة المثمرة، مثّل، بكل المقاييس، نظامًا تعليميًّا متكامل المنهج، له مراحله المختلفة. وهو نظام يرقى المتعلِّم في مراحله، مرحلةً، مرحلةً، ويجد فيه المتلقي، في كل مرحلة، عمقًا وسعةً أكبر. ولو قيل لي أذكر بعضًا من أهم من كان لهم أقوى التأثير على نموك الروحاني، والوجداني، والفكري، من السودانيين، لوضعت هؤلاء الأربعة على رأس القائمة، وهم: الأستاذ محمود محمد طه، والطيب صالح، ومحمد المكي إبراهيم، وعبد الكريم الكابلي.
    (يتواصل في المقالة الأخيرة)
    ----------------------
    عبد الكريم الكابلي: سُلَّمٌ تعليميٌّ متكامل (4/4) ..

    بقلم: د. النور حمد

    برحيل عبد الكريم الكابلي تنطوي، أو تكاد تنطوي، الحقبة الوسطى من حقب السودان المستقل. هذه الحقبة الوسطى أعقبت سابقتها، التي بدأت بمؤتمر الخريجين، وانتهت بالاستقلال. وقد اتسمت هذه الحقبة الوسطى التي يمكن تسميتها بـ “دولة الأفندية والعسكر”، خاصة فيما يتعلق بالفشل في بناء الدولة، وفي التنمية والاستقرار السياسي، والعجز البنيوي وبالاضطراب، بل، وبالفشل الذريع في تحقيق الوحدة الوطنية. ويوشك فشل “دولة الأفندية والعسكر” هذه، أن يوردنا، في اللحظة المفصلية الراهنة، موارد الحتوف. نسأل الله اللطف والعناية. لكن، مع ذلك، اتسمت هذه الفترة المنقضية، بإشراقٍ كبيرٍ، في مجال فن الغناء، وفي مجال الفن التشكيلي، والشعر، والصحافة، وكرة القدم. أما في مجال الغناء، فقد كان عبد الكريم الكابلي أحد أبرز أعلامها.
    لخصوبة تلك الفترة أسبابها، وعلى رأسها حالة الاستقرار السياسي والاقتصادي، النسبية، التي حققتها الإدارة الاستعمارية، في الفترة الممتدة بين ثورة 1924، وحتى استقلال السودان في يناير 1956. كان هناك أمنٌ شاملٌ واستقرار، وكان هناك أملٌ في المستقبل. ولعل صلاة سير دوقلاس نيوبولد من أجل السودان وأهله، التي حفظها الكابلي عن ظهر قلب، وكررها مراتٍ في لقاءاته وحفلاته، تحمل إشارة إلى فهم الكابلي للأثر الكبير لحالة الاستقرار التي رسخها البريطانيون وأثرت بقوة في مجالات الإبداع. ولقد سبق أن كتبت عن الأثر البريطاني على ازدهار ستينات القرن الماضي، في مقالتي الموسومة، “حقبة الستينات وتبديد ميراث البريطانيين”. وهي مقالة جرى نشرها في الكتاب الذي حمل عنوان: “السودان في ستينيات القرن العشرين”. وهو كتابٌ صدر عن مركز دال الثقافي، في عام 2018.
    بدأ ازدهار فن الغناء عقب أفول الدولة المهدية، وانمحاق نزعتها الطهرانية المتزمتة، وانقضاء حالة الاضطراب الأمنية، الذي سادت نهاياتها. ولقد استمر فن الغناء في التفتُّق والازدهار، بقوة الدفع الأولى تلك، حتى بلغ سبعينات القرن الماضي. ومع إحكام شمولية نميري قبضتها على البلاد والعباد، وبزوغ فجر الهوس الديني، بدأ مؤشر الرسم البياني للإبداع الشعري والغنائي والتشكيلي في الانحدار، متأثرا بما أصاب الدولة. فالفنون، والآداب، وبخاصة فن الغناء، إنما تمثل المولود الشرعي لأحوال الاستقرار السياسي والاقتصادي في حياة الشعوب. ولقد كانت هذه العناصر متوفرة، بقدرٍ معقولٍ، في فترة الإدارة البريطانية للبلاد. بل، إن هذه العناصر هي ما بدأنا نفقده، تدريجيًا، بمجرد خروج المستعمر. ولم يمض عقد ونصف من الزمان، عقب الاستقلال، حتى فقدنا كل ما ورثناه من البريطانيين. وهذا، كما سلفت الإشارة، مبحثٌ بكرٌ، في سوسيولوجيا الغناء، وفي سيسيولوجيا الآداب والفنون، عامةً، في السودان.
    وُلد عبد الكريم الكابلي في عام 1932. وحين نالت البلاد استقلالها، كان عمره 24 عاما. فهو بهذا، ابن تلك الحقبة. وما لبث الكابلي، حين ناهز الثلاثين، أن أضحى أحد أبرز نجومها البازغة. حينها، تناثر الأفندية في عواصم المديريات ومدنها. ونشأت مجاميع السمر، ونشأت العلاقة بين الأفندية والمغنين. فأخذ عدد من أشهر المغنين في التطواف على تلك المجاميع النخبوية، وكذلك، على سائر الجمهور. ومع منتصف القرن الماضي، تراجع شعر الحقيبة؛ بحِسِّيَّتِه التشريحية الغرافيكية لجسد الأنثى، وأخذ نمطه يخلي مكانه، تدريجيًا، لأنماط شعرية حديثة، ولموسيقى أكثر تركيبًا، وثراءً لحنيا. صاحب ذلك انتشار دور السينما التي عكست أساليب الحياة الحديثة فيما وراء الحدود. وبما أن الهوس الديني لم يكن أواره قد استعر بعد، مثلما جرى في نهايات حقبة نميري، إضافةً إلى ما تلا في فترة حكم الإنقاذ، فقد كان المناخ النفسي، السابق لهاتين الفترتين المضطربتين، رائقًا. ومن ثم، سمح بازدهار الفنون والآداب، وسائر الأنشطة التي تعكس ثقافة الشعب وحيوته الوجدانية. وقد شهد عقدا الستينات والسبعينات، من القرن الماضي، قمة الازدهار الغنائي.
    في الستينات، لمع في سماء الشعر، صلاح أحمد إبراهيم، ومحمد المكي إبراهيم، ومحمد عبد الحي، والنور عثمان أبكر، وعلي عبد القيوم، وعبد الرحيم أبو ذكري، وكمال الجزولي، وغيرهم. كما كان محمد المهدي المجذوب، المخضرم حينها، مستمرا في الإنتاج، ولكن بدفق حداثيٍّ جديد، أوجد به لنفسه مقعدًا في المركبة الجديدة، التي حملت من جاءوا بعده. أيضًا، كانت مدرسة الخرطوم في الفن التشكيلي، حينها، ملء السمع والبصر، في النطاقين العالمي والإفريقي. أما في مجال الغناء، فقد كان عقد الستينات هو عقد وصول الكابلي إلى كرسي عرشه المميز. كما شهدت الستينات لمعان نجوم فكرية وأدبية سامقة، مثال: جمال محمد أحمد، ومنصور خالد، والطيب صالح. وهي ذات الفترة التي أصبح فيها اسم الأستاذ محمود محمد طه على كل لسان.
    ساد الحقبة الغنائية الأولى، التي تبلورت نهايات الربع الأول من القرن العشرين، نمط الغناء المسمى “حقيبة الفن”. فتسيَّد تلك الفترة كلٌّ من، كرومة، وسرور، والأمين برهان، وعلي أبو الجود، وإبراهيم عبد الجليل، وفضل المولى زنقار، وغيرهم. وقد مثل الرائد الكبير، إبراهيم الكاشف حلقة وصل، بين تلك الفترة، وما تلاها. فهو قد غنَّى على نمط الحقيبة، ثم ما لبث أن أحدث النقلة اللحنية البائنة، المصحوبة بالأوركسترا، وبالمقدمات الموسيقية التصويرية، واللزمات المبتكرة. ومشى على دربه في ذلك، عبد الحميد يوسف، وأحمد المصطفى، وعثمان حسين، وإبراهيم عوض، والتاج مصطفى، وعبد العزيز داؤود عبر ثنائيته مع برعي محمد دفع الله، والعاقب محمد حسن، وعثمان الشفيع في ثنائيته مع محمد عوض الكريم القرشي، وعائشة الفلاتية، ومهلة العبادية، ومنى الخير، وغيرهم. برزت في تلك المرحلة نقلةٌ أخرى جديدة، مثلها كلٌّ من: محمد وردي، وعبد الكريم الكابلي، ومحمد الأمين، وأحمد الجابري، وصلاح بن البادية، وأبو عركي البخيت، وزيدان إبراهيم، والبلابل، وثنائي العاصمة، وغيرهم. وبطبيعة الحال، هناك نجوم آخرون، مؤثرون، غير هؤلاء، لا يقل إسهامهم وصيتهم عن هؤلاء المبدعين البارزين، لكن لا يتسع الحيز لذكرهم، حصرا.
    أردت أن أخلص مما تقدم إلى القول، إن رحيل عبد الكريم الكابلي يمثل لديَّ، علامةً فارقةً من علامات انقضاء تلك الحقبة السودانية الزاهرة، التي أرى أنها قد كانت “فلتة”، وازدهارًا خارج السياق. ونحن نقف اليوم عند مفترق الطرق، بين حقبتين مائزتين في السياسة وفي الثقافة السودانية. حقبة شملت ثلاث مراحل، انطوت الآن أو تكاد. وحقبة جديدة نستقبلها الآن، لا تزال تُمْتَخَضُ في رحم الغيب. وتمثل ثورة ديسمبر التي لا تزال فصولها تتوالى، فجرها ومخاضها العسير، الذي لا نزال في بداياته. ومشوار هذه الثورة، فيما يبدو لي، حتى تدرك غاياتها، سيكون طويلا. من رماد دولة الأفندية، ومع بزوغ فجر حقبة المليشيات المجوقلة على “التاتشرات”، يخرج طائر الفينيق الشبابي بمليوناته، وقيمه الجديدة الطازجة، وبسالته الأسطورية، التي أخذت بمجامع قلوب العالم. يخرج الفتيان والفتيات بفطرة سليمة أبت أن تتشوه، مستعيدين من تحت ركامٍ كثيف، قيمهم الانسانية الكوشية الصوفية. صادحين بملامح موسيقى جديدةٍ مختلفةٍ، شكلتها ذائقتهم الكوكبية، ليبنوا بوجدانٍ جديدٍ، الحياة السودانية الطليقة، المشتهاة، فوق ركامٍ من الأباطيلِ والترهات البليدة. ولسوف تغرب شمس عصرنا نحن، الذي مثل الكابلي ورصفاؤه من المبدعين، حملة مشاعله، لتشرق شمسٌ جديدة.
    برحيل الكابلي ترحل بقايا تأثيرات الإرث الكلونيالي الممتدة في الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، التي انعكست على حالة الفن، على مدى نصف قرن، امتد منذ عشرينات القرن الماضي، حتى سبعيناته. إننا نودع الآن دولة الأفندية المضطربة، التي أفضت بنا إلى الارتداد إلى الخلف، والوقوع في براثن الهوس الديني، والشوفينية القبلية، والمناطقية، وأفضت بنا، في نهاياتها، إلى حقبة المليشيات المسلحة، وانعدام الأمن الشخصي، وادلهمام صورة المستقبل، وسيطرة اللهث وراء الضروريات، ونشوء مناخٍ نفسي خانق، وانسداد وجداني بليغ.
    يموت الآن، وببطء، موتًا مؤلمًا، عهدٌ مضطربٌ عقيم. في حين يولد بإزائه عهدٌ جديدٌ وضيءٌ، لمَّا تتضح ملامحه بعد. في منطقة الظلال هذه نودع المبدع العظيم، عبد الكريم الكابلي، بكل ما رمز اليه في تجربته الإبداعية الباذخة، وكل ما مثلته حقبته “الفلتة” هذه. قال الأستاذ محمود محمد طه، قبل عقودٍ طوالٍ، وهو يحكي بتفاؤل يقيني، عن مستقبل السودان وأهله، قائلا: “وسيكون يومنا خيرٌ من أمسنا، وسيكون غدُنا ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر”. ولا شك عندي أن الكابلي، صاحب القلب الحي، الثائر، التائق، دوما، للجديد المثمر، قد سُرَّ سرورًا عظيمًا، وهو يشهد في خواتيم حياته الخصيبة العامرة، انطلاق هذه الثورة العظيمة. لقد قدر الله أن يفارق عبد الكريم الكابلي عالمنا هذا، وتجري مواراة رفاته في بلاد بعيدةٍ وبيئةٍ ثقافية غريبة. وهو ما جرى، من قبل، للشاعر الضخم محمد الفيتوري، الذي صور طرفًا من هذه الحالة، حين قال:
    في زمنِ الغربةِ والارتحالْ
    تأخذني منك وتعدو الظلالْ
    وأنت عِشقي، حيث لا عشقَ يا سودانُ، إلا النسور الجبالْ.
    وحين قال، أيضا:
    لا تحفروا لي قبراً !
    سأرقد في كلِّ شبرٍ من الأرض
    أرقد كالماء في جسد النيل
    أرقد كالشمس فوق حقول بلادي
    مثلي أنا، ليس يسكن قبرا
    ألا رحم الله المثقف والشاعر والموسيقار والإنسان الخلوق النبيل، عبد الكريم الكابلي، وتقبله بين الصالحين المُجتبين الأخيار. فقد عاش حياةً خصبةً مثمرةً، تعدت تأثيراتها ذاته وأسرته ومحيط أقاربه ودائرة أصدقائه، لتملس حياة الملايين؛ داخل السودان وخارجه. فسلام على عبد الكريم الكابلي في الخالدين.






                  

العنوان الكاتب Date
الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطنى المثال -- توثيق الكيك12-21-21, 04:56 PM
  Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 04:57 PM
    Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 05:02 PM
      Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 05:13 PM
      Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 05:15 PM
        Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 05:34 PM
    Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 05:18 PM
      Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 05:39 PM
    Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 05:20 PM
      Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 06:10 PM
        Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 06:11 PM
        Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 06:13 PM
          Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-22-21, 06:16 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de