|
Re: الوغد (Re: عبد الحميد البرنس)
|
بالعودة إلى مداخلة العزيز عثمان موسى الأخيرة، أفادتني السينما كسارد حد أن أكون ممتناً لها على مستويات حاسمة، مثل تفتيت الزمن ومن ثم المزج بين الأزمنة في سياق روائي ما، مما يعطي الانطباع (على الأقل نظريا) بثراء وتعقد واتساع التجربة الإنسانية. وإذا أشرت في سياق سايق، إلى تجربتي أخيراً على وجه الخصوص مع أفلام الغرب الأمريكي، فهذا جزء من طريقتي في الحياة، وقد لاحظت زوجتي إلهام أنّه يأتي عليّ وقت أكون فيه منشغلاُ بشيء واحد بكلياتي، ثم لا أعد الأغلب إليه. أنت تبحث أحياناً عن جوهر تجربة إنسانية ما وتسعى جاهداً كي تلتهم عصارتها، وهذا لا يتأتى في زعمي سوى بالتكرار والنظر عبر مختلف الزوايا إلى هذه التجربة أو تلك.
.... .........
كانت تشير إلى حوالي الثانية من بعد منتصف ظهر يوم خريفيّ لا شيء يميزه، حين رنَّ جرس الهاتف الأرضيّ، في شقتي. ظننت أن المتصل أحد أولئك المنفيين العاطلين الأغلب عن عمل، سوى معالجة الشوق والحنين بالأُنس والقيام بأشياء أخرى كما النميمة، أو حتى البوح وتفريغ ما تراكم مع مرور السنوات من أسى شالّ. إذا بصوت أماندا ماران بون الأليف ذاك نفسه يتناهى، كذلك على غير توقع، بعد مرور فترة طويلة أخرى ممتدة من الغياب؛ ما إن رفعتُ سماعة الهاتف، قائلاً: "آلو"؟ كنت لا أزال حانقاً عليها، بسبب تلك المواقف "المتكررة". آخر مرة، غيَّرتُ فيها جلدي. صرت طواعية إلى ما أرادت هي لي أن أكون. كنت آكل أكلها. أتنفس هواءها. أشتم بأنفها. لم أكن أتورع تلك الأيام إذا أرادتْ هي حتى عن! تخلّصتُ في إحدى تلك المرات إلى الأبد من زيّ صحفيٍّ محترم بمقاييس القاهرة، إلى أن غدوت بين ليلة وضحاها مسخاً، موضوعاً للتندر في مجالس أولئك المنفيين على مقاهي بورتيج بليس. قالوا: "أصابَ جنونُ المراهقة حامد عثمان". لم يشفع لي عندها كل ما قد تقدم. كذلك، رفعتُ السماعة وكان صوتها ذاك آخر ما كنت أتوقع سماعه واليأس أخذ يترسخ منذ مدة. قلت بفتور: "مرحبا". لم يكن ذلك صوتها المعتاد. كان صوتها الآخر المُذيب لبأسِ الحديد نفسه. خفق قلبي. قالت إنها تريد أن تراني "الآن الآن". وبغتة: "ألا تفتقدني يا وليم"؟ أخذتْ حصوني سريعاً في التصدع. كمن يتأهب لملاقاة إهانة أخرى، قلت: "بلى، أفتقدك، يا أماندا". قالت بحنان غريب "ما مقدار هذا الفقد"؟ وجدتُّني كالمنوَّم، أقول: "كثيراً". قالت كما لو أن الله استجاب لدعاء قديم: "سأحضر إذن في الحال، أحبك. يا إلهي كم أحبك"! كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع منها تلك الكلمة منذ أن غزت وحدة حياتي المزمنة خلال احتفالي في ذلك المساء بعيد ميلادي الخامس والثلاثين في شقة جمال جعفر المشتركة مع الصيني: "أحبك". مع تسارع وجيب قلبي هذا، واستسلامي ذاك، آثرت أن أفر من هذا الحبّ، فقلت بصوت أوهنته فترات الصمت المتفاقمة في حياتي خلال تلك الأيام: "ولكن" قطعتْ ترددي متسائلة كمن يمسك بخيوط لعبة تمرَّس عليها طويلاً، قائلةً "ولكن.. ماذا، يا وليم"؟ قلت محتمياً بذكرى مرارة مقالبها الكثيرة التي لا تنفد: "أنا مشغول الآن، يا أماندا". أي لوعة حملها ردها "أفي الأمر فتاة أخرى"؟ فسارعتُ بالقول: "أنا متعب فقط". وبعناد وتصميم: "لا. سأحضر"!! وكذلك، أردفتْ: كن في انتظاري". قلت: "سأنهي المكالمة، حالاً". وبدا صوتها أكثر حزناً ولوعةً: "إذن هو الوداع، وليمَ حبيبي"!! وافقتْ مكالمتها تلك (لا أزال أذكر ذلك بجلاء تامّ) ما بعد منتصف ظهيرة اليوم الثالث من عطلة سنوية دامت عشرة أيام. منذ اليوم الأول، أخذ البعد عن مشاقّ العمل يسمم حياتي بذكريات الماضي البعيد والقريب على حد سواء. لم يكن ثمة من معين إلى جانبي، سوى النوم لساعات قليلة، القراءة أحياناً، تجرع ما لا يحصى من أكواب القهوة السوداء المرة خلال النهار. التجرع أبداً لا يتوقف من زجاجة ويسكي ماركة "ريد ليبل"، على مدى المساء والليل وحتى الساعات الأولى من الصباح. بدأت الشقة في الأثناء في التحول شيئاً بعد شيء إلى مقلب لا يحتمل للقمامة: رائحة السجائر المحبوسة، أواني الطعام المتسخة وصلت حتى إلى داخل الحمام، بينما ظللت أطفيء أعقاب السجائر المتعاقبة على باطن حذائي البيتي السميك وأقذف بها هنا وهناك دون اكتراث. كانت قشور البصل متناثرة على أرضية الصّالة إلى جانب قشور خضروات أخرى، والملابس المؤجلة للغسيل منذ نحو ثلاثة أسابيع تلوح أينما وقع البصر. لقد بدا المشهد داخل الشقة من قبل أن يرن جرس الهاتف حاملاً صوت أماندا ذاك أشبه ما يكون بمعمل ملائم لتحضير روح شيطانٍ ما تملَّكه السأم. هكذا، عندما وطنتُ نفسي أخيراً على نسيان أماندا ماران بون، هداها الشيطان أن تعاود اتصالها بي مطالبة برؤيتي "حالاً"، في اليوم الذي وصلتُ فيه إلى نقطة اللا رغبة في كل شيء. لقد كنت باختصار ميتاً في عالم ميت. حين شارفت على الثامنة مساء، كانت أماندا ماران بون هاتفتني بإلحاح أكثر من تسع مرات. لم أرد على مكالمة واحدة. كنت أترك الجرس يواصل الرنين، إلى أن أسمع صوتها، بينما تترك رسائلها المتتابعة القلقة على جهاز الرد الآلي. كنت أدرك قلة حيلتي وضعفي وهواني المقيم حيال صوتها. كانت تقول عند بداية كل رسالة، متسائلة بنبرة يشوبها شيء من خذلان لا مبرر له: "أعلم أنك هناك، أجبني؟ لن أيأس. ألا ترغب فيَّ؟ أنا أماندا"! بعد التاسعة، أخذتْ تهب رياح عاتية. كما لو أن السماء غاضبة. كان البرق يومض. المطر يتساقط بغزارة، يتوقف فجأة. لم ينفك الندم يعاودني كلما توقف الرنين. لكنَّ المحظور وقع بالضبط في حوالي التاسعة والنصف. كانت طرقات أماندا ماران بون على باب الشقة تحمل في تتابعها الحاد تصميماً غريباً. لا مفر إذن من فتح الباب. بدت مبتلة. في يدها لاحت حقيبة ملابس صغيرة. هناك من داخل عينيها أخذ يومض لدهشتي حبّ أموميّ غامض أقرب إلى حنان لا يتناسب أبداً ورعشة متصلة ظلت تصدر لقرنٍ ربما من بين شفتيها المكتنزتين. لقد بدت في هيئتها العامة تلك أشبه بقارب إنقاذ صغير في يوم عاصف.
|
|
![URL](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif) ![Edit](https://sudaneseonline.com/db/icon_edit.gif)
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
الوغد | عبد الحميد البرنس | 04-06-21, 10:19 AM |
Re: الوغد | عبد الحميد البرنس | 04-06-21, 10:22 AM |
Re: الوغد | ابو جهينة | 04-07-21, 11:46 AM |
Re: الوغد | Osman Musa | 04-07-21, 12:28 PM |
Re: الوغد | عبد الحميد البرنس | 04-07-21, 08:01 PM |
Re: الوغد | elsharief | 04-08-21, 01:37 AM |
Re: الوغد | خضر الطيب | 04-08-21, 01:50 AM |
Re: الوغد | osama elkhawad | 04-08-21, 05:04 AM |
Re: الوغد | عبد الحميد البرنس | 04-08-21, 10:52 AM |
Re: الوغد | عبد الحميد البرنس | 04-09-21, 07:09 PM |
Re: الوغد | أبوذر بابكر | 04-08-21, 11:39 AM |
Re: الوغد | عبد الحميد البرنس | 04-08-21, 06:28 PM |
Re: الوغد | عبد الحميد البرنس | 04-10-21, 11:04 AM |
Re: الوغد | Ahmed Yassin | 04-10-21, 11:15 AM |
Re: الوغد | خضر الطيب | 04-10-21, 02:35 PM |
Re: الوغد | Ahmed Yassin | 04-10-21, 03:34 PM |
Re: الوغد | صديق مهدى على | 04-10-21, 05:21 PM |
Re: الوغد | عبد الحميد البرنس | 04-10-21, 08:15 PM |
Re: الوغد | osama elkhawad | 04-11-21, 04:23 AM |
Re: الوغد | عبد الحميد البرنس | 04-11-21, 05:04 PM |
Re: الوغد | عبد الحميد البرنس | 04-12-21, 07:56 PM |
Re: الوغد | osama elkhawad | 04-12-21, 11:45 PM |
Re: الوغد | عبد الحميد البرنس | 04-13-21, 08:08 PM |
Re: الوغد | عبد الحميد البرنس | 04-14-21, 07:52 PM |
Re: الوغد | Osman Musa | 04-15-21, 07:42 PM |
Re: الوغد | ابو جهينة | 04-15-21, 09:41 PM |
Re: الوغد | عبد الحميد البرنس | 04-16-21, 01:27 AM |
Re: الوغد | عبد الحميد البرنس | 04-16-21, 07:51 PM |
Re: الوغد | عبد الحميد البرنس | 04-17-21, 08:23 PM |
|
|
|