الوغد

الفاتح جبرا .. في ذمة الله
نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب د. الفاتح يوسف جبرا فى رحمه الله
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 09-22-2024, 11:09 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-16-2021, 07:51 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: عبد الحميد البرنس)

    دام وجودكم الجميل في عالمنا هذا أبا جهينة. مداخلتك الأخيرة أضاءت لي شيئا مما أبحث عنه من خلال نشر هذه الفصول من الجزء الثاني من سيرة التقدمي الأخير هنا. كل الود

    .....
    .......

    بدا كما لو أن الصيني أفشى لجمال جعفر شيئاً (ما) مما حدث أثناء قيامه بتوصيلي إلى شقتي بعربته ليلةَ تفاح اللوتس. حدستُ ذلك من وقع نبرة صوت جمال الفاترة وقتها عبر الهاتف. ندمت أنني بدأت أفقد حرصي القديم ذاك حين يتعلق الأمر مباشرة بمسار حياتي. أنت حر إلى أن يعلم الناس ما تخفي عنهم. عندها يمكن حتى لخراء النعام أن يتطاول عليك.
    كان الوقت صباحاً. حوالي التاسعة. كنت وحيداً داخل الشقة. أواصل مشاهدة برنامج ما عن الاحتباس الحراري، وسط غيوم الحنين وصدى الذكريات المتقاطرة على حقل روحي المقفر. فجأة، رنّ جرس الهاتف وتناهى صوت جمال "هذا". كانت أماندا قد خرجت الليلة الماضية مفتعلة الغضب من غير أن تخبرني بوجهتها. عادتْ من بعد مرور ثلاثة أيام. استأنفت حياتها العاديّة معي بقدرٍ بدا زائداً من الحنان. لم أطلب منها تفسيراً لما قد حدث. قال جمال في أثناء تلك المكالمة إنه يريد أن يحدثني عن "أمر هام" على انفراد. حدد لي على غير العادة منطقة محايدة للقائنا عصراً في رحاب مقهى تتناثر موائده في الهواء الطلق عند ملتقى نهري ريدريفر وواسيني بويني. وضعت السماعة في حيرة. شيئاً فشيئاً، وجدتني أغرق ثانية في بِركة الذكريات المتكوِّنة هذه المرة عن مها الخاتم سعيد ناسياً علّة وجودي ذاك قبالة التلفاز. ماتت الرجولة إذن داخلي؟ أم أن ما كنت أشعر به من غيرة على مها الخاتم في أزمنة القاهرة تلاشى من تلقاء ذاته مع أماندا؟
    أغنيات بوب مارلي تنداح من قلب ذلك المقهى على مدار موسم الصيف. ثمة شيء مثير للأسى يتخلل روحي كلما رحت أنصت إليه. "لا تبكي يا امرأة. عند تحققات هذا المستقبل العظيم، لا تنسين ماضيك، لا تحزني يا امرأة، كل شيء سيغدو كما رغبنا له أن يكون". الشمس حانية في مثل ذلك الوقت من شهر يوليو. الأشجار تلقي بظلالها على سطح المياه الهادئة والناس والأشياء بعدالة بدت لي في تلك اللحظة كدعوة صامتة للحبّ والغفران والمضي قدماً دون ضغينة. جمال يجلس على قلق. أراه عبر ذلك البعد بوضوح بينما أقترب منه. لا يتوقف عن التدخين. أمامه بدت زجاجة بيرة. لم تمسّ بعد. أشار لي ملوّحاً. لكأنه يلفت انتباهي إلى وجوده وسط ذوي البشرات البيض حوله على الموائد الأخرى. بدا لي في أي وقت مضى بعد كذبة حادثة انتحار مها الخاتم وديعاً مسالماً، على قدر من الطيبة. أخذت أرتشف بيرتي التي قام بطلبها لي منذ دقائق، متفقداً المكان من آن لآن، وقد بدا إجمالاً أن المقرن يعج بحركة غير عادية!
    كان جمال لا يزال قبالتي على المائدة، يواصل تجرع بيرته بنظرات شاردة، حين أسلمت أذنيَّ ثانيةً لأغنية أخرى لبوب مارلي "لا تقلقين بشأن الأشياء، كل شيء سيغدو كما رمنا له، ثمة ثلاث عصفورات صغيرات، واقفات يغردن قبالة بابكِ، قائلات لكِ بلحن عذبٍ شجي: هذه رسالتي إليك". قال جمال مثيراً دهشتي إن بوب مارلي كانت أغانيه ممنوعة في كندا حتى قبيل نهاية الحرب الباردة. "لماذا"، سألته بتشكك. قال من غير حماس: "يقال إنه يدعو للعنف، كما في أغنية "لقد قتلت الشريف". قلت متخابثاً: "ما الذي تقوله كلمات الأغنية"؟ قال بتهكم مضاد: "مَن قال لك إنني أفهم معنى الغناء بالإنجليزية. لقد أخبرني الصيني بذلك، يا رفيق"؟ قلت جاداً هذه المرة: "لماذا لم تتعلم اللغة الإنجليزيّة حتى الآن، يا جمال جعفر"؟ قال كما لو أنه ينظر في تلك اللحظة إلى حفرة قبره الفاغر: "فات أوان تعلم مثل تلك الأشياء، يا رفيق"!!
    أحزنني رده. أخذت أفكر أثناء صمته الساهم ذاك أن الوطن في حاجة إلى رجال من طراز توماس إديسون. لا يتسلل اليأس إلى قلوبهم أثناء سعيهم ذاك الأكثر مدعاة للأسى لتغيير وجه العالم. قال إديسون يومها يصف صعوبة رحلته الشاقة إلى النور: "إنني لم أفشل لكنني إكتشفت عشرة ألف طريقة لا يعمل بواسطتها المصباح الكهربائي". كانت لحظة خالدة، تقشعر لها الأبدان، لحظة أن رفع يده، وأضاء مدينة نيويورك الغارقة في حلكتها لأول مرة في تاريخ البشرية الطويل. لم تعد الظلمة بعدها سائدة ليلاً. قلت أنتشله من وهدة أحزانه تلك: "محمد شكري، صاحب الخبز الحافي، تعلم أن يقرأ ويكتب بعد سنّ العشرين. انظر إليه الآن، أين هو، يا جمال"؟ تهللتْ أساريره، اتجه نحوي بكلياته، بدا إنساناً مختلفاً تماماً، وهو يعقب على ملاحظتي تلك بشأن شكري، قائلاً والوميض يشع نشوة من داخل عينيه "أعجبني في رواية الخبز الحافي وصفه ذاك لعضو المرأة الحميم: إن فرجها لا يعض. إنه يقبض ويمص لكنه لا يعض. سترى بنفسك. إنه دافيء ولين".
    باغتُه:
    "هل لفرج مها الخاتم نفس المواصفات"؟
    ...
    كان هناك خيمة في قلب الميدان الواسع للرقص الفلكلوري تعاقب عليها راقصون من دول وألوان مختلفة، ثمة داخلون إلى المطاعم والمحلات التجارية المتناثرة حول خيمة الرقص وخارجون منها في آن باحثين عن شيء أو آخر للمتعة، أو الفرجة، إنه "يوم كندا"، بداية الاستقلال القريب عن بريطانيا، شيء آخر ينفصل تلك الأيام عن جسد الإنجليز، يسير مبتعداً مثل كتلة الجليد الضخمة تبحر بعيداً ببطء ولا عودة. الأمر نفسه حدث في أمريكا بقذيفة مدفع، لكنه بدا هنا أقرب إلى تلك الآثار تحدث بفعل الزمن وعوامل الطقس والتعريّة والبكتيرياء على جسد قديم. أو ربما يغير الساحر من جلده فقط. كنت أخرق تماماً لحظة أن جئت وفق ذلك النحو على ذكرى "منتحرة". على الأقل بالنسبة لجمال هذا. وقد صدّق الوغد "الكذبة". كذبة انتحارها في ليلة لعبت الخمر فيها بخرائب رأسه. لا. لن أغفر له. لو كنت لا أزال أحيا في قرية من قرى الوطن، لطلبتُ منه أن يحمل عكازاً، ويخرج لمقاتلتي في "الخلاء". لتصفية الحساب. لا شهود هناك سوى رحمة الله ترعى قتال الأفاعي من أعلى. لقد سلبني الوغد طهر فتاة أحلامي. ما تبقى منها كان سيرة النميمة. كان سعار البهجة حولنا أكثر إغراء على أي حال من الإغراق في بحر الندم أو الانتقام. "ما حدث حدث". هكذا، قالت أماندا وقتها مدركة أنها بتلك الخطوة قد حطمتْ شيئاً ما لا سبيل إلى ترميمه في داخلي. ثم بدأت أستمع وسط تلك المباهج مجدداً إلى جمال. لكن دون أي مبالاة. قال شيئاً يخبرني به بآخر تطورات الصيني. قلت لنفسي "لا بد أنه يمهد لموضوعه الأساس". لا يعقل أن أطوي كل تلك المسافة لسماع أمر رتيب آخر من حكايات هؤلاء المنفيين. وقد كان.
    قال إن اليوناني قام بطرد الصيني من داخل ذلك الملهى الليليّ. "تصوَّر، يا حامد"؟ صاحبك الصيني ظلّ لوقت طويل يوصد عليه باب غرفته، نادراً ما كان يتبادل الكلام "معي"، "إنه مكتئب، يا رجل". حين سألته عن السبب، قال جمال إن الصيني تبين له أن اليوناني كان يعدّه سراً لوظيفة أخرى، "غير أخلاقية والعياذ بالله"، كان وقع المفاجأة على الصيني "صاحب البنيان العظيم" عظيماً. فكرت خطفاً في نفسي: كيف لرجل مفتول العضلات مثل الصيني هذا أن ينطوي داخله على مثل تلك الحساسية الهشّة؟ قال جمال إن اليوناني حسب ترجمة الصيني ظلّ يعدّه للعمل في وظيفة "الحفَّار الذهبي". ذلك ما لم يكن في حسبان الصيني طوال الوقت. وقد "أخذ حرفياً يعدّ نفسه لوظيفة الساقي تلك دون أن يفهم من تلميحات اليوناني المتكررة على مدار نحو العام أن وظيفة الساقي ليست سوى غطاء قانوني شكلي لوظيفة الحفّار الذهبي والعياذ بالله". ترجمت إلى الإنجليزية ترجمة حرفية ما أخبرني به جمال للتو "غولد ديغر". لم أفهم. فجأة، أخذ جمال يتلوى في مقعده من شدة الضحك، وقد سبقني بنحو ثلاث زجاجات من البيرة، قبل أن يخلد إلى صمت آخر حزين. هنا، خطر لي لسبب ما أن جمال يتقدم في العمر. لم تكن واقعة الصيني إذا تمعنا مثيرة لمثل ذلك الضحك. كان أكثر ما لفت انتباهي إلى الواقعة أنني أنتبه إلى وجود معارف أخرى في هذا العالم لم ألتفت إليها من قبل. هناك الكثير الذي لم يُلمس بعد. قال جمال موضحاً أبعاد ما حدث للصيني أن هناك نسوة "كنديات" متقدمات نوعاً ما في السنّ، يذهبن إلى ملهى اليوناني بحثاً عن رجال أقوياء "جداً" ليمارسن معهم الجنس لقاء مبلغ كبير من المال. يُطلق "على الواحد من هؤلاء الرجال" لقب "الحفَّار الذهبي حمانا الله، يا رفيق". أخيراً، جاء على سيرة الموضوع الذي دعاني إليه. وقد سألني بينما يشخص ببصره نحوي عما إذا كنت أعتقد أنه هو شخصيّاً السبب المباشر في انتحار "المرحومة مها"؟
    كنا جالسين في تلك اللحظة فوق حائط الأمواج الأسمنتي القصير، أقدامنا متخالّفة معلّقة في الفراغ، أيادينا إلى حافة الحائط الخلفية مبسوطة تسند ثقل ظهورنا. كان واسيني بويني يلوح أمامنا على بعد خطوات قليلة، مياهه راكدة معتكرة تقلقها حركة الزوارق الصاعدة الهابطة من آن لآخر. هناك على ضفته الأخرى تنهض غابة من أشجار الآش على جزيرة ناهضة بينه وبين نهر الريدريفر. ذكرني موقع الجزيرة ذاك بموقع جزيرة توتي في الوطن، وهي تنهض بطيبة ووداعة كونيّة لا تُصدق ما بين النيلين الأبيض والأزرق، قبل أن يلتقيا ويتوحدا، هكذا في مجرى مائي واحد، وتلك بداية نهر النيل ورحلته الألفيّة فيما يشبه المعجزة عبر صحاري وكثبان رملية وأراض صخرية صوب مصبه بعيداً على البحر الأبيض المتوسط في مصر. كنت أعاني من سريان البيرة طفيفاً، عندما بدأت أتخيل بصورة غامضة مشهد هندي أحمر مر عبر ذات المكان قبل ألفي عام. كانت أصوات المحتفلين بعيد "يوم كندا" تتناهى من غير مكان، واسيني بويني لا يزال متكاسلاً في سيره، لكأنه لا يريد بدوره أن يفوِّت عليه بهجة الألعاب النارية عند حلول الظلام الذي غدا وشيكاً، قبل أن يواصل طريقه للقاء نهر ريدريفر المندفع بعنفوان وهيبة. كنت أتشاغل بمرأى أطفال صغار، أخذوا يتطلعون إلينا عبر ذلك الفضول العفوي الخالد، حين ألقى جمال جعفر ذلك السؤال. قلت في نفسي بأسى "لعل الموت آخر ما يذكر في هذا المقام". أطرقت نحو الدقيقة. ثم أدرت رأسي صوب جمال جعفر ببطء وحذر. لم يكن ينظر نحوي وقتها. كان مطرقا يتلاعب بقدميه في الفراغ ومرأى الأرض الرطبة من تحته بدا داكنا. هكذا، أعدت بصري إلى مداره الأول متفقداً من حولي تلك الظاهرة الطبيعية الأكثر وحشة في العالم: الأشياء داخل العتمة "تبدو ولا تبين". أي أسى يبعثه فينا الغروب، تساءلت بيني وبين نفسي، بينما أغالب بلوعة وطأة ذلك الإحساس المزمن بزوال الناس والأشياء. حين التقيت أخيراً بنظرة جمال جعفر، على ضوء المصابيح المتناثرة، والمحتفلون يضيّقون من مساحة اليابسة المنبسطة بيننا وبين النهر انتظاراً لبدء الألعاب النارية، بدا أن نظرته لم تكن نظرة عاشق سابق على أبواب العزاء، كانت نظرة طائر ذبيح.
    قصدت إلى أن أطيل مدى الصمت أكثر.
    قلت في نفسي:
    "لا. أبداً لن أحل تناقضات الوغد العالقة".
    ما لبث أن عاد لتكرار نفس السؤال بإلحاح طفل هذه المرة. طلبت منه بهدوء تأجيل إجابتي. لم أكن أراه والأشكال النارية الجميلة تُزين سماء النهرين. كنت أحسّ بوجوده كلحن جنائزي تسلل خلسة إلى جوقة الفرح. وتلك محنة السياسي السابق وحده.
    كان الناس يخلون ميادين المقرن زرافات ووحدانا سالكين طرقاً مختلفة. وكان جمال قد اقترح عليَّ أن أذهب معه إلى شقته لتكملة ما تبقى من السهرة هناك في صحبة الصيني الذي طرأ عليه تحول غريب أعقاب تجربة اليوناني بفترة طويلة. كفَّ عن تقديم الخدمات للآخرين. صار يتعاطى الخمر بعض الوقت، لا كما يتعاطاها عاجزٌ قبالة مشكلة، بل كما لو أنه يقوم بتصفية حسابات ظلّت عالقة طويلاً بينه وبين الاستقامة والصمت وأشياء أخرى، وحين أراد الإقلاع في لحظة ما، كان له ما أراد. لقد تبدلت الأحوال على نحو درامي داخل شقتهما المشتركة، تلك الأيام. أخذ جمال جعفر بعد كذبة حادثة انتحار مها الخاتم التي صدّق والتي لم يكلّف نفسه قطُّ حتى عناء البحث في تفاصيلها يميل أكثر إلى الصمت. الصيني، في أعقاب صدمة اليوناني تلك، لا يكاد يترك أمراً إلا قتله بحثاً وتعليقاً، حتى أن عضلات وجهه المتكلّسة أخذت تكتسب مرونة فائقة في غضون فترة وجيزة، فصار كعامّة الناس لا تنقصه الأحاسيس. لقد شرع وجه الصيني الشمعي ذاك في الذوبان، حين هدم أسوار سجن الساقي داخله. بدا الأفق مليئاً بالوعود ومخزونه من الخيال بدا كما لو أنه احتفظ به كل هذه المدة ليكون بمثابة جسر يعبر به أخيراً من عالم المنفيين الضيّق إلى الحياة في برّ كندا.
    آنذاك، أخذ الصيني يكتشف لديه مواهب دفينة في التجارة.
    بدأ بجمال جعفر نفسه. كان الأمر أشبه ما يكون بينهما بالتواطوء والاتفاقات الضمنية. كان جمال جعفر يشتري الخمر في مقابل تلك الترجمات التي درج الصيني على تقديمها له بصورة تكاد تشمل أدق تفاصيل معاملاته اليومية والحياتية الأخرى. نظر جمال جعفر إلى الأمر في البداية بنوع من شفقة يشوبها شيء ما من الغموض والرغبة التلقائية في مساعدة الصيني لعبور محنته تلك، ثم تحول موقف جمال جعفر من الصينيّ إلى سخرية خفية، ثم سخرية أخرى معلنة على مقاعد بورتيج بليس، من قبل أن يُغرق الذهول جمال جعفر في بحر من الحيرة، وهو يرقب عن كثب إزدهار تجارة الصيني ورواجها المدهش في تسارعه. كما لو أن نجاحه يتم من دون عثرات. كان الصيني الذي هبطت عليه الطلاقة دفعة واحدة قد أدرك حقيقة هامة: تزايد أعداد المنفيين في المدينة. لا يكاد يمر نصف العام حتى يتم بقذف أعداد جديدة منهم في طرقات المدينة وأحيائها ومساربها المختلفة. كانوا دائماً منهكين بتعب تلك المنافي الوسيطة ومرضى بداء مزمن عضال يدعى "الحنين". كان بعضهم، في أحيان قليلة نادرة، يتحسس مظروف خطاب ما قَدِمَ من الوطن، يتمعن فيه من وراء ستارة الدموع الخفيفة، كما لو أنه يشهد وقوع معجزة سماوية في زمن كثر فيه عدد الملحدين. أما الذين أُخبروا منهم أن ما يمضغونه الآن تمرة من نخيل الوطن فتمنوا لو أن الزمن يتوقف بهم عند تلك اللحظة ولا يغادرها، البتة.
    شيئاً فشيئاً، أخذت شقة جمال جعفر والصيني تتحول إلى محل تجارية صغيرة لبيع "مضادات الحنين". بدأ الصيني بكروت المحادثات الدولية. كان المنفيون بحاجة دائمة إلى وجود مثل تلك السلعة، الحنين لا وقت له، قد يهجم على المرء في أي لحظة. إذا لم يُخمد الحنين في الحال قد يؤدي إلى اعتلالات صحية خطيرة. قد تكون السوق موصدة حين تقرع أجراس الثانية بعد منتصف الليل. قد يكون البرد في عنفوانه عند السادسة صباحاً. قد يخلو جيب المنفيّ الغريب في تلك اللحظة من دولار واحد. لكن الصينيّ كان دائماً هناك، يُملي عليك شفرات ما تطلب من كروت عبر الهاتف، لا يهم متى يتم بعدها دفع قيمة ما خفَّ من ثقل وطأة ذاك الحنين من ذرات طالما يتم الدفع في نهاية المطاف. وطموح الصيني أبداً لا يتوقف هناك. كان لا بدّ من تغذية أرواح المنفيين الغرباء بألبومات غنائية لمطربين من الوطن وأخرى دينية وثالثة تذكرهم أن العالم الذي تركوه وراءهم لا يزال به مَن يلقي النكات ويُضحِك. كانت السلع تتكدس داخل الشقة المشتركة وحتى الحمّام وصلت إلى أحد أركانه كومة من المسابيح الحجازية المضيئة وقد تم وضعها داخل شنطة بلاستيكية محكمة الإغلاق. لكنّ النقلة الحاسمة في سيرة تاجر "مضادات الحنين"، تحققت حين شرع الصيني في سد حاجة المنفيات من مستلزمات تقاليد الزينة الضاربة في رُحم التاريخ، جلب حتى الودك والحنّة وبخور الصندل والخُمرة وفركة القرمصيص وشعر الجورسي المستعار والخُمرة الزيتية والمحلبية والسرتية و"فرير دمور" و"الزمام أبو رمشة" والكُحل والمراويد وحلاوة شيل الجسم في عُلب بلاستيكية سمنية صغيرة بلا تواريخ صلاحية وأثواب السهرة الهندية البرّاقة، أو "الساري"، ناهيك عن سدّه لحاجة العجائز من أدوية عُشبية وتمائم مانعة للسحر وشر الأعين الخائنة و"قرن الخروب". حتى غرفة جمال جعفر اكتظت بثياب الرجال التراثية مثل الجلاليب والعمائم المختلفة والعراريق وسراويل التِكَة. الحال، لم يعد أمام الصيني، الذي لم يفت عليه أن يسد حاجة المنفيين من أطعمة الحنين، سوى الزحف إلى محل تجارية داخل مجمع "بورتيج بليس" الفخم ذاك نفسه، وقد أضاف الصيني هذا إمكانية تحويل الدولارات إلى الوطن إلى قوائم تجارته المزدهرة. باختصار، أعطى المدعو الصيني للمنفيين ما أرادوا: الشعور بأنهم لم يغادروا موطن أجدادهم لحظة.
    ....
    .......
    أخيراً، وصلنا أنا وجمال إلى شقته المشتركة مع الصيني. الأخير لم يكن موجوداً هناك. أحضر جمال زجاجة فودكا من داخل المطبخ وكأسين. كان الوغد قد أعد لنا مجلساً في البلكونة على عجل. لم أشأ أن أسأله جلب زجاجة لي من الماء. كذلك استغرق أكثر في البوح. وبينما أواصل الإصغاء هكذا، أخذت تراودني بقوة فكرة أن جمال عاد إلى عادته القديمة تلك في القاهرة، وهو يفلسف وقائع ما جرى بينهما هو ومها الخاتم "على ذلك النحو". كان يحاول جاهداً الارتقاء بمواقف وضيعة بروافع فكرية وجمالية مكثَّفة. كنت أراقب ذلك بكثير من عدم الارتياح. لو أن جمال هذا تصالح فقط مع جوانبه الوضيعة تلك بمثل ما فعلت أنا لجنبني مشقة مواجهة أكثر الأشياء احتقاراً بالنسبة لي في هذا العالم: جلد الذات.
    كان الوقت على مشارف الغروب، حين غادرنا المطعم اللبناني، وبدأنا السير، كعاشقيين أبديين، على الرصيف، أسفل أشجار البونسوانا المتعاقبة. تسند رأسها على كتفي وتلف يدها اليسرى حولي بتراخ، بينما أحتويها من خصرها بيدي. نتوغل هكذا في مدارج ما بدا قرارها بين جفن العالم ودهشته الكبرى. أتدري، يا حامد، ماذا حدث بعد ذلك؟ كان ذلك الجزء مطموساً من حكايات مها الخاتم وروايتها للأحداث. قلت أجيبه عند منتصف زجاجة الفودكا الكبيرة دونما تفكير "هربتَ أنت يا جمال إلى كندا من غير أن تعلم مها بموعد سفرك". قال مقرِّباً وجهه من وجهي كما لو أنه يتفحص ملامحه هو عبر عتمة البلكونة منعكسة على مرآة "هذا أمر لم أقله لأحد من قبل، كيف عرفت بالضبط ما حدث، يا حامد"؟






                  

العنوان الكاتب Date
الوغد عبد الحميد البرنس04-06-21, 10:19 AM
  Re: الوغد عبد الحميد البرنس04-06-21, 10:22 AM
    Re: الوغد ابو جهينة04-07-21, 11:46 AM
      Re: الوغد Osman Musa04-07-21, 12:28 PM
      Re: الوغد عبد الحميد البرنس04-07-21, 08:01 PM
        Re: الوغد elsharief04-08-21, 01:37 AM
          Re: الوغد خضر الطيب04-08-21, 01:50 AM
            Re: الوغد osama elkhawad04-08-21, 05:04 AM
              Re: الوغد عبد الحميد البرنس04-08-21, 10:52 AM
              Re: الوغد عبد الحميد البرنس04-09-21, 07:09 PM
  Re: الوغد أبوذر بابكر04-08-21, 11:39 AM
    Re: الوغد عبد الحميد البرنس04-08-21, 06:28 PM
    Re: الوغد عبد الحميد البرنس04-10-21, 11:04 AM
      Re: الوغد Ahmed Yassin04-10-21, 11:15 AM
        Re: الوغد خضر الطيب04-10-21, 02:35 PM
          Re: الوغد Ahmed Yassin04-10-21, 03:34 PM
            Re: الوغد صديق مهدى على04-10-21, 05:21 PM
              Re: الوغد عبد الحميد البرنس04-10-21, 08:15 PM
                Re: الوغد osama elkhawad04-11-21, 04:23 AM
                  Re: الوغد عبد الحميد البرنس04-11-21, 05:04 PM
                    Re: الوغد عبد الحميد البرنس04-12-21, 07:56 PM
                      Re: الوغد osama elkhawad04-12-21, 11:45 PM
                        Re: الوغد عبد الحميد البرنس04-13-21, 08:08 PM
                          Re: الوغد عبد الحميد البرنس04-14-21, 07:52 PM
                            Re: الوغد Osman Musa04-15-21, 07:42 PM
                              Re: الوغد ابو جهينة04-15-21, 09:41 PM
                              Re: الوغد عبد الحميد البرنس04-16-21, 01:27 AM
                                Re: الوغد عبد الحميد البرنس04-16-21, 07:51 PM
                                  Re: الوغد عبد الحميد البرنس04-17-21, 08:23 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de