|
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)
|
24 أردف جدي فضل الأزرق خلفه محجوب الكفيف، وصل به أول القريةـ أنزله أمام بيت العمدة، وبعدها لم نرى جدي، بحثنا عنه أياما وأياماً، ولم نعثر له على أثر، مشى الناعي بين العربان، والقري المجاورة لقريتنا. لا أثر له، لا هو ولا حصانه. جدتي لم يغلقها الأمر في البداية، قالت أن جدي دخل غاره، كان سابقاً ما يختفي لعدة شهور أو نصف عام، ففي أحدى المرات بقى سنة كاملة، حمل معه ثلاثة عشرة تمرة، وأبريق ماء، تحكي لنا، قبل أن ننام في حجرها أو على الرمل حولها، ثم تأتي أمي، وتضعنا على الفراش. ثملون بحكاياتها. يستغرقني الليل، أنشودة أغريقية. سيمفونية خالصة لحد الإغراق. مطر يسقط بلا هوادة. أحجية صادعة. رماد ماثل أمام عينيّ، أدعكها بأبهامي، لا أبصر شيئاً. أصرخ، أطلب النجدة، لا شخص يأتي ليخرجني من ورطتي الخاصة. لا صوت يخرج من فمي، محض هواء حار، قناديل من اللهب. أتِنِينٌ أنا؟ أمي راقدة أمامي على عنقريب من حبال السعف. وجوه تدنو مني وتسحب غطائي. تَجفّل وتقترب. أمي أفعلي شيئاً. أستحلفك بالله، أنت ترين ولا تستجيبين. أنقلبت أمي على جانبها الأيمن، وقابلت غرفة جدتي. سهد شديد. بدايات يناير. أوغل الوقت. مساء وهزيم رعد. ليس من عادة المطر أن يهطل عندنا في يناير. علامة لشيء سيحدث أول مرة. كنت أرقد على سجادة من السعف، بعد صلاة العشاء. ذهب الناس إلى بيوتهم، وبقيت وحدي. أرقب هاتفاً، أو شيء ما. أحسست أول الأمر كأن ضغط دمي إنخفض، أو نوبة نقص لمستوى السكر في دمي. رغم علمي بعدم إصابتي بشيء. إرتخى تنفسي، صار متباعداً. همد الجسد كلياً. ظلام شديد. نجوم تلمع في الأعلى وحيدة. صمت عميم. حاولت أن أنهض من رقدتي، فخذيَّ ميتتان تماماً. ماعدت أحس بهما. وسطي لأسفل غائب عني كلياً. فقدت الإتصال به. أرى رجليَّ وفخذيَّ دهمتان غاصتان في الدكنّة. بطني ويديَّ وصدري. رأسي وحده يقف على مايجري. لا أفهم وأنا منبسط كحقل أخضّر من نشوة. عابقاً ببخور لا أدري أي ريح هبت وجلبته لأنفي. دار حولي عبق. خلق حولي هالة رمادية أو بيضاء، حسب ماتميزه عين في دهمة شديدة. إنهمر سيل من أُناس يرتدون عمائماً، وجلبابات بيض، داروا حولي كثيراً، حسبتها مئات المرات. كانوا يتبعون توجيهات معمم كبير أول الدائرة، حين إنتظمت. وجه أعرفه تماماً. ظلمة مكدّرة. هالة بيضاء كست من لونها، وجوه الدائرون حولي، فضلوباقي، خالي حامد الدخري، أبي، ود طه، العمدة حاج الخير، حاج البشرى، وجدي فضل الأزرق، فكي عثمان، حتى فتحي شريف، كان حاضراً، يدور وسط الدائرة ببنطال جينز أزرق. ومن فرط دورانهم، كأنهم خلفوا مجالاً ممغنطاً. أشلاء كثيرة عالقة في فراغ. بدأ جسدي يهتز. يرتج مع الأرض، كأنه يحاول أن يقلع عمودياً مثل طائرة مروحية. تخبط الجسد أول الأمر. بين إضطراب وتوازن. كنت ممدداً على الأرض. طفوت. إرتفعت قليلاً قليلا. ذكرني بحالة حمى دماغية سابقة. لايسعني أن أفهم مايجري حولي. إرتفع جسدي حتى صار أعلى هامات الرجال المعممون. تكبيراتهم وتهليلاتهم تعلو رويداً رويدا، إرتقيت فوقهم. تختلط حمحمات بضربات حوافر على أرض صلبة. إتسعت الدائرة برجالها المعممون، وجلباباتهم البيضاء. صلاة إستسقاء في غير أوانها؟ حاولت أن أتبين أعلاهم. أجسام تروح وتجيء. الله، الله. خيول مجنحة تطوي مسافة بين مشرق ومغرب. وأنا مسجى على سجادة سعف. إرتقى بي الجذب إلى أعلى رؤوس معممة. كأنهم وضعوني على شيٍء، ليس مريح تماماً، ولا بقاءوه يزعجني. عاينت على جانبي الأيمن. دائرة تتسع. جعلوني مركزها. أجذبهم إلىَّ دون وعي مني. دائرة متناغمة مع مركزها. صهيل وحمحمة في السماء. أرض مائرة بتهليل متواصل. ظلمة تخنق شهاباً بإصبعين. حصاناً ناشزاً ترده إلى دائرة أعلى. كانت هناك دائرتان متوازيتان تمام التواز. بعضها فوق بعض. معممون على أرضٍ، وأحصنة صاهلة في فضاء. فرحة من تلقاء أفعالها. تتقافز علانية في سرور. بدأت أتحسس الشيء الذي تحتي. شيء خشنٌ. مترابط في جهة، ومتفرق في ناحية أخرى. غير مترابط حين ألصق جسمي به. جسدي والشيء الذي من تحتي، كلنا مرتقيان. أدركت كأني أعرفه. كأن لي معه ذكريات قديمة. ألفته حين مددت يدي وتحسسته. آه .. جدي أو جدتي. سرير داخل غرفة جدتي. هل أنا الآن أحلق في سماء الغرفة الممنوعة؟ ما أدركه الآن، أن فضاء حولي، إنفتحت طاقته إلى ما لانهاية. بالكاد أحصنة مجنحة تحدد سماؤه، ومعممون يلاصقون أرضه. هل سيقدموني قرباناً لإله هنا؟ وحدي مسجى على عنقريب. هل سينصبوني ملكاً على مقاطعة هناك؟ ربما، حانت إلتفاتة من تاريخ سحيق. زمن غير مكرور، أعاد بسطاؤه إلى مقدمة موجة عابرة. مد جديد، وجذر متقادم. خلط أوراق لعب، وقلبها من وراء، فأعادني لطاولة، يحتشد أمامها شعب مغبون. أمة كاملة ولغت في سم زعاف. عميت دون إذن من أحد. تاهت في محيط متلاطم، وعادت في مايشبه غيبوبة كاملة. حزمة من أسئلة. ورتاج مصفح بوعيد. أسعفتني ذاكرة حكيمة، ولغت في شتات لاشعور غاص بأمنيات. مخيلة عادت للوراء. أُسعِفّت لحظة بتّذكر ناصع. ما شأن هذه الجلبة بي؟ أنا شخص عادي بلا أهمية، بالكاد حسناتي تقترب من سيئاتي. لا أدّع أني قمت بعمل أستحق عليه تكريماً. جدي نفسه، لم يظفر من الحاكم العام سوى، ببندقية عتيقة من نوع (رومنتجتون)، رغم أياديه الطويلة في عمل الخير، بل أين جدي الآن ليفسر لي سر هذه الجلبة! أي قدر إختارني في هذه اللحظة بالذات، ليؤرخ لحدث فريد، في بداية عام جديد. هل أنتهز هذه الفرصة لأُعلن نفسي حاكماً عسكرياً، أقرأ بياناً أولاً على الملأ؟ أتلوه من وسط مشانقي. معلقة وسط دائرة. حالة لاتحتاج مذياعاً. الكل سيتسرب إليه الخبر من مجال ممغنط حولي. يتنفسون الصعداء. تتوالى برقيات من حاميات طرفية، تأذت بالنسيان والعسف. مأموريات طويلة، إنزال مظلي خلف خطوط عدو وهمي. أن تنصروا الله ينصركم، أو على شاكلة أضربوا الخونة بأيدي من حديد.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 12-27-20, 01:03 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 12-27-20, 01:45 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 12-27-20, 04:04 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 12-28-20, 03:49 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 12-30-20, 01:01 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | Osman Musa | 12-31-20, 05:48 AM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-03-21, 04:56 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-03-21, 05:06 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-05-21, 09:12 AM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-07-21, 10:32 AM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-09-21, 03:30 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-13-21, 03:35 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-17-21, 11:08 AM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | النذير بيرو | 01-17-21, 12:29 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-19-21, 05:28 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-23-21, 02:42 PM |
|
|
|