|
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)
|
29 عاد سالم لمستورة. راياتها تخفق. عرقها يُذهب بالبصيرة. قطار قادم من أقصى لحظات الشوق. ينتظره سالم، نصف واعٍ. غائب نصفي. حدقتاه متسعتان. لسان ثقيل عالق بلهاة. يقعِّر اسمها حين ينطقه. (يا التاية، القطر واقف لسه في المحطة ولا اتخارج)؟ كان حينها سعيد المسنوح، غائب في حالة سُكر شديد، بين جالس متكيء، واقف وجالس، حائر ومندهش، لكنه بالتأكيد كان في برور بعيدة. أبعد من المسافة التي يتخيلها هو الآن. يجلس قريباً من سالم. كنت حينها أجيل بصري بين وجوه غاصت في مدار بعيد. تهششت لها الرؤية. زارتها شفافة عابرة. أمام سعيد جرة فخار كبيرة، متسعة الفوهة. بداخلها كأس خشبي، من نبات قرع مجوف. يرفع الكأس إلى فمه، يمتليء شاربيه بالمريسه، يترك مكانه سريعاً، يلتف حول المنزل، يفك إزاره، يتبول واقفاً، يمسح شاربيه بكم جلبابه، ويعود لمكانه. سالم ما زال طريحاً ينتظر إجابة من مستورة. فقبل المرة الأخيرة التي اختفى فيها جدي فضل الأزرق، كان يذهب يومياً إلى زرعه، ممتطيا حصانه الأبيض. علاقة جدي بحصانه لجد غريبة، يحمحم حين يسمع جدي يتكلم في مجلسه، كأنه يؤكد صدق كلامه ويستحسنه، ويتبين صوته بين عشرات الأشخاص المتكلمين داخل مجلس العمدة، يصهل، يضرب الأرض بحوافره. يقفز، يتمايل. يرفع قائمتيه الأماميتين. تبين حدوتيه المعدنيتين. كأنه يصلي حين يرفعهما. يجمح. حصان بسر غريب، مثل جدي تماماً، كانا متماثلان في الغرابة والانسجام، واختفيا معاً، ولم يعثر لهما على أثر. وحسبما قالت جدتي، إنه حمل بندقيته الخرطوش من نوع (رومنجتون) انجليزية الصنع، بماسورتين، ومضى، أهداها له الحاكم الانجليزي. يناوله إبنه حامد الدخري أجزاؤها بعد أن يعتلي ظهر حصانه. ففي إحدى المرات وهو يتأهب للخروج بعد أن امتطى حصانه، وجلس على السرج، لملم أطراف جلبابه المتسع، اقترب منه طائر حبارة، حلق على ارتفاع أمتار فوقه، فسرعان ما تناول الماسورتان ووصلهما بكعب البندقية، ووضع خرطوشة واحدة، وأطلقها نحو الحبارة، فأصابها، فهبطت على الأرض باسطة جناحيها، ممددة داخل حوش جدي الوسيع، وأمر خالي حامد بحملها لجدتي، وجبة الغداء، ثم واصل مسيره نحو الزرع. كان حين يمتطى حصانه، يهزهز رأسه يمنة ويسرة، هزة خفيفة، قلت أول الأمر إنه رجل ذاكر، فأظن أنه يتلو أوردة في سره، والاهتزاز بفعل الاستغراق في تلاوة الأوراد. نعم إنه غارق في أوراده، لكن الهزهزة حدثت بصورتها الواضحة، حين ذهب يوما إلى الزرع، كالعادة متمنطقاً بندقيته. فمن عادته أنه في أول الزرع، يخرج من بين الأجمات ثعبان من نوع كوبرا، مستدير الوجه، وذو حواجب كثة، وله عرف في رأسه مثل الديك الرومي، وتتدلى من تحت رقبته قلادتان. فعندما يرى جدي قادماً، يقف الثعبان، رافعاً رأسه، ويصيح بصوت كالديك، ويتقدم نحوه، يثب على قدم جدى اليمنى، ويرتقى ظهر الحصان، ويبلغ صدر جدي، ويستدير حوله، ويبقى معلقاً بجسده برهة من الوقت، ثم ينزل بقدمه اليسرى. من عادة الثعبان أن يمارس هذا الفعل يومياً مع جدي ومتى ما وصل الحقل. الحصان لم يكن يجفل كعادة الحيوانات من الكوبرا، بل يسعد تقريباً بزحف الحية على ضهره. يحرس أكوام الذرة والفول السوداني، والسمسم، يتكور أمام الكوم حتى يبلغه جدي والعمال، ويحصدونه، ثم ينتقل بعدها لكوم جديد، وهكذا حتى ينتهي الحصاد. يوصي عماله بأن دعوا الثعبان في حاله، لا تحاولوا أن تؤذوه فيصيبكم مكروه. وهكذا استمر الحال عاماً بعد عام، حتى اختفى جدي اختفاءته الأخيرة. ففي إحدى المرات وهو في طريقه نحو زرعه، لمح أرنبا يتقافز حول شجرة هجليج، فسرعان ما جهز بندقيته، فأصابه. دار الأرنب حول نفسه، واختفى في الدغل بين حشائش كبيرة، كان ذلك عقب الخريف. بوسط الغابة، أسرع إليه بسكينه وذبحه، ولما حاول الخروج من تحت شجرة الهجليج، إلتفت الأغصان، وبلغت الأرض فما استطاع الخروج، وضع بندقيته بين رجليه وتدحرج مثلما يفعل الجنود، تلى أوراده. كان متوضئا قبل بلوغ الحقل. تدحرجت حتى خرجت من تحت شجرة الهجليج. اتجهت ببصري نحو قمة الشجرة، رأيت منظراً مرعباً، كدت أن أفقد إيماني لولا ما حباني الله به من أذكار وأدعية، تلوتها، مع ما كنت أقوم به من تحصين وتلاوة قرآن. كنت موحداً على ذات النبي الأواب محمد (ص)، ومتمسكا ببيعتي للطريقة التجانية، لما كنت نجوت. كان رأس الثعبان في قمة شجرة الهجليج، وذيله ملتف حول الشجرة حتى أسفلها. كانت حية بوجه بشري، وذقن مستديرة، وحواجب كثة، ومن يومها صرت أهزهز رأسي على الشيء الذي رأيته، ثم جاء عربان كانوا يعبرون الطريق، سحبناه من أعلى الشجرة، وحفرنا له حفرة واسعة ودفناه، ولما انقضى الدفن، اختفى الأرنب الذبيح، وحينها قالوا، إنه هو..إنه هو.
(تمّت) *شرح مفردات *ساري الليل، شيطان يظهر ليلاً ويضلل القوافل، يكون على هيئة ضوء يتحول من مكان إلى مكان. *موت بهنسي:محمد حسين بهنس، كاتب سوداني وفنان شامل، توفى في القاهرة قبل عامين من البرد والجوع، وُجِدّ ميتاً جوار مسجد في القاهرة، في عِزّ الشتاء.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 12-27-20, 01:03 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 12-27-20, 01:45 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 12-27-20, 04:04 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 12-28-20, 03:49 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 12-30-20, 01:01 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | Osman Musa | 12-31-20, 05:48 AM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-03-21, 04:56 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-03-21, 05:06 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-05-21, 09:12 AM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-07-21, 10:32 AM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-09-21, 03:30 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-13-21, 03:35 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-17-21, 11:08 AM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | النذير بيرو | 01-17-21, 12:29 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-19-21, 05:28 PM |
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار | mustafa bashar | 01-23-21, 02:42 PM |
|
|
|