|
Re: هناك مَن لا يزال يقيس قيمة الإنسان بمدى نع (Re: عبد الحميد البرنس)
|
المومسات على نواصي سيرجنت علامات لا تخطئها عين.
كنت أرى سمانتا ماران بون بينهن واقفةً هنا أو هناك، ترمي بصنارتها، عبر إيماءة أو أخرى، للمارة أو تلك السيارات العابرة.
على بعد أمتار منها، لم يكن ثمة من أثر قد يدل على وجود صديقها الآسيوي ذي العينين المبتسمتين مثلما جرت عليه العادة قبل نحو العام. لعله مات. "مرضى الإيدز لا يبقون طويلا". لا أدري من أين جئت بهذه المعلومة التي بدت لي "مؤكدة"؟ كان الإيدز يسيطر عليَّ تلك الأيام عند كل حركة وسكنة كهاجس. لم أقوَ أبداً على تحويل ذلك الهاجس إلى معرفة.
أنت لا تدري حقاً ما قد تجد هناك إذا ما قمت برفع الغطاء.
يبدو الجهل خيراً، أحياناً، من معرفة يتبعها ألم لا فكاك منه!
على أي حال لم أشأ سؤالَ أماندا عن صديق سمانتا. أماندا لم تكن تطيق سيرته. كانت على قناعة أن الآسيوي سبب بلوة شقيقتها. لم أتوصل من جانبي تلك الأيام، حتى من قبل أن تفجعني أماندا بمصير شقيقتها، إلى معنى ما قد يحمل بهجة من أي نوع لتلك الابتسامة التي ظلت تطل من داخل عينيه الواسعتين برغم ظلال العتمة عبر مختلف تلك المساءات البعيدة، على سيرجنت. لا أزال أتشمم شعر أماندا الغارقة في نومها لا تزال من كل ذلك القرب، حين أخذت أتذكر أنه في ذروة سعادتنا معا، أنا وأماندا، كان ثمة شعور ما غامض يطفو في داخلي أحياناً، فأحسّ بشيء من الجزع، كما لو أن أمراً لا سبيل لتجنبه سيتهدد مسار علاقتنا في أي لحظة. لعله هاجس الخوف المقيم في داخلي مما يدعونه:
"الحرمان من بعد عطاء"!
...
كذلك بدا كأن سوس الوحدة المزمن قد نخر هناك في عظامي طويلاً، وقد صارت الوحشة توءم روحي، حتى غدا وجود أحدنا شرطاً لازماً لوجود الآخر، أو كما لو أنني والعزلة صنوان، تربط بينهما علاقة أبدية راسخة لا فكاك منها، أو كما لو أنني باختصار لم أعد أصلح لأي رفقة من غير ذلك الحضور الكثيف لسيل هواجس الفقد. كلما فكرت في ذلك، أخذت تخطر في ذهني، تلك الصورة اليومية الساحرة من حياتنا معا: مرأى أماندا، وهي خارجة من الحمام، لا يسترها شيء، سوى قطرات الماء البلورية تنساب منها كما تنساب قطرة ندى على جسد زهرة بُعيد بوابة الشروق. لست واثقا من أن أماندا تستقر منذ فترة داخل وجودي كمبرر حياة. لكنَّ المؤكد أنه لم تعد بي رغبة أخرى في معايشة ذلك الحنين الذي ظلّ يجتاحني في القاهرة من آن لآن إلى وجود مَن ستفتح لي باب بيتي من الداخل. وذلك صوت الشاعر أمل دنقل:
أيدوم لنا البيت المرح نتخاصم فيه ونصطلح دقات الساعة والمجهول تتباعد عني حين أراك وأقول لزهر الصيف.. أقول لو ينمو الورد بلا أشواك ويظل البدر طوال الدهر لا يكبر عن منتصف الشهر آه يا زهر.. لو دمت لنا.. أو دام النهر.
أمل دنقل، في أقصى حدة الألم، قام بتحويل شبح الموت الماثل إلى شعر، لم يجزع من غول السرطان، لم تسكنه لوعة، لكأن الأمر برمته لا يعنيه. قالت زوجته عبلة تتذكر ما قال الطبيب له "المرض منتشر في جسدك منذ أكثر من سنة، وأنت لا تأتي لمتابعة الكشف، تذكَّر أنك مريض بالسرطان، وأن الأمر أكثر خطورة من أن تتعامل معه بمنطق الشاعر، لقد تجاوز المرض الجراحة ولا بد من ذهابك في الغد إلى معهد السرطان". بينما يكابد كازنتزاكي الألم على فراش موته، آثر أن يرحل أعزل من يقين. لحظة أن أقبل القسّ لأخذ اعترافه، أدار وجهه صوب الحائط وقد نأت آماله تلك في الجلوس عند ناصية أحد شوارع أثينا متسولاً من نهر المارة قطرات ما من أعمارهم. عسى أن تمكنه من كتابة أمر آخر. قال:
"لو مِتُّ ستموت كتب كثيرة في داخلي".
فان جوخ، أدرك مبكرا حتمية خلوده الإبداعي، "لن أضع توقيعي، على تلك اللوحة، سيدركون بعد وقت طويل من رحيلي من الأسلوب وحده أنها لوحتي"، وقد سار في طريق لا يطرقها أمثاله عادة. أخذ مسدساً، ذهب إلى حقل قريب، لعله ألقى وقتها نظرةً أخيرة على أحبّ موضوعاته. الوغد، فعلها أخيراً على إحدى قمم سأمه المتصاعد تجاه لعبة الحياة برمتها.
تشيخوف رقيق المشاعر. ساءت حالته. الوقت ليلا. "طلب استدعاء الطبيب، لكنه تمنى عدم إيقاظ الصبي لكي يذهب من أجل أسطوانة الأكسجين. فهو لن يلحق في جميع الأحوال. جاء الطبيب. طلب تشيخوف كأسا من الشمبانيا. قال بالألمانية "ايخ شتيربي" (إني أموت). وبهدوء، دون أي اختناق مبرّح – وهذا نادرا ما يحدث عند وفاة المصابين بالسل – انتقل إلى العالم الآخر". سمانتا ماران بون، حين علمت أنها مصابة بالإيدز، وأنها لا محالة ميتة، تحولت إلى عاهر، وقد أقسمت أن تأخذ معها إلى الجانب الآخر أكبر قدر ممكن من الرجال. كذلك قبل عام واحد فقط من إصابتها تلك، بدت في إحدى تلك الصور عفية، ضاحكة. عيناها مفعمتان بالحياة. ناقشت وقتها أماندا عن "ذنب أولئك" الذين وضعهم القدر وحده بين فخذي سمانتا. قالت ببرود: "ذلك خيارهم، يا وليم". هاتفتني وقتها وهي تجاهد بصوت مختنق، قائلة:
"وليم، سمانتا ماتت".
لم تقل شيئا آخر قبل تلك العبارة أو بعدها.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
هناك مَن لا يزال يقيس قيمة الإنسان بمدى نعومة شعره! | عبد الحميد البرنس | 09-25-20, 08:12 PM |
Re: هناك مَن لا يزال يقيس قيمة الإنسان بمدى نع | عبد الحميد البرنس | 09-25-20, 08:48 PM |
Re: هناك مَن لا يزال يقيس قيمة الإنسان بمدى نع | osama elkhawad | 09-26-20, 03:13 AM |
Re: هناك مَن لا يزال يقيس قيمة الإنسان بمدى نع | عبد الحميد البرنس | 09-26-20, 07:34 AM |
Re: هناك مَن لا يزال يقيس قيمة الإنسان بمدى نع | ابو جهينة | 09-26-20, 11:38 AM |
Re: هناك مَن لا يزال يقيس قيمة الإنسان بمدى نع | عبد الحميد البرنس | 09-26-20, 07:57 PM |
Re: هناك مَن لا يزال يقيس قيمة الإنسان بمدى نع | osama elkhawad | 09-26-20, 08:09 PM |
Re: هناك مَن لا يزال يقيس قيمة الإنسان بمدى نع | عبد الحميد البرنس | 09-26-20, 09:20 PM |
Re: هناك مَن لا يزال يقيس قيمة الإنسان بمدى نع | osama elkhawad | 09-27-20, 00:03 AM |
Re: هناك مَن لا يزال يقيس قيمة الإنسان بمدى نع | عبد الحميد البرنس | 09-27-20, 09:48 AM |
Re: هناك مَن لا يزال يقيس قيمة الإنسان بمدى نع | osama elkhawad | 09-27-20, 01:41 PM |
Re: هناك مَن لا يزال يقيس قيمة الإنسان بمدى نع | عبد الحميد البرنس | 09-28-20, 07:43 PM |
Re: هناك مَن لا يزال يقيس قيمة الإنسان بمدى نع | عبد الحميد البرنس | 10-01-20, 09:19 PM |
|
|
|