القصة الثانية باسم (الأخرس) وهي من ستة فصول ننقلها في ثلاثة أجزاء.. (١) جدي (على ود جوده) رحمة الله عليه كان رجلا مزواجا، عرس ليه قرابة العشرين من مرة لأنثي، وكان مرحالا لا يلقى عصا السفر عن عاتقه، يتاجر بالبصل والجمال والسمسم والدقيق، وفي كل مدينة عنده اولاد أو (حلة) باسمه، وفى إحدى رحلاته - أو قل نزواته- في القضارف، نزل عند صديق له قبطي، ومتزوج من امراة جنوبية تدعي (الشول)؛ تعود جذورها لمنطقة (أبيي) ، وتصادف ان شاهد ابنتها البيضاء الطويلة فاعجبته وتزوجها. (بت الشول) أنجبت له ولدا وسيما فارعا، سماه ( بله) ، ولكنه للأسف تأخر في النطق، ولم يسعف لسانه الكلام الا يوم وفاة أمه وهو في الخامسة من عمره، وكان نطقه وكلامه (تمتمة) وهطرقة؛ وكان اول مانطق به: - الدو.. الدو.. الدوووتة في ثنو ياد.. د.. دماعة ؟ ب.. ب.. بت السول م.. م.. مث.. مثت وين؟ فسرها المعزون (الجوطة في شنو يا جماعة، امي مشت وين)، و كانت فرحتهم بنطق الصغير أعظم من حزنهم لوفاة أمه.. خال امي واسمه (الفكي) الله يرحمه، كان رجلا حكيما ومثقفا واستاذا للغة العربية، وكان يعالج بالجبيرة و(المحاية) كما يطبب بالكي و(الطاب) ، وعندما سمع بحكاية (بله) قال لعمه ود جوده: - جيب لي البلولة ده هنا، وكان مانطق عندي واتكلم دغري انا بتبناه وبتكفل به ليوم الدين.. استخدم (الفكي) المرواد و (تش) البلولة في لسانه، إلا أن الصغير (كضم) واصبح لا يودي ولا يجيب في الكلام.. ولذلك سماه الناس بالأخرس، غير أن كفيله الجديد برر صمته وقال هذه مجرد (غلفة لسان) ، وأرجع الناس لقواميس اللغة ليفسر كلمة (الاغلف) بمعنى (قليل الإدراك) ، والكي ب(المواد) يزيل غلفة العقل واللسان ولكن بعد حين، وقام اتوكل و(اتوكح) بتربية البلولة .. وسار عليه اسم (الاغلف) حتى نسي الناس اسمه ونسبه الحقيقي..
(٢) مرت السنوات والاغلف صامت، وفي يوم (الرجبية) الذي يصادف السابع والعشرين من رجب، أخذه الفكي لشيوخ (طابت)، و(عزم) له الشيخ في لسانه ورفع له الفاتحه، ثم فتح له الكتاب وقال للفكي:
- (البلوله) حاينطق ان شاء، لكن لازمه صدمة كصدمة الموت، أو دخول مرحلة جديدة كالمدرسة أو (العرس) حتى تتحرك (غلفة) لسانه.
شب البلولة في وهاد القضارف الواسعة ومزارعها، وترعرع على لبن ابقار مزارع الفكي الوافرة، وصار فتى قويا يشار له بالبنان، حاول الفكي إدخاله المدرسة الا انه فشل في التأقلم عليها، بيد أنه كان يحب اللعب و يشارك في كل نفير زراعة أو حصاد في الحي، وكان خدوما مجاملا حتى أصبح الذراع الأيمن للفكي، وكان يخاطب الناس بلغة إشارة واضحة يفهمها الجميع ويتجاوب معها..
وفي يوم من أيام السنة الخالات وبعد حصاد محصولي الذرة والسمسم، جاء الاغلف يحمل امنياته الكبيرة وقال للفكي:
- أنا يا أبوي عايز أعرس فتحية بت العمدة..
قالها طبعا بلغة اشارة سليمة جعلت الفكي يعيد تفكيره مائة مرة قبل أن يقول له: - خير ي(الاغلف) ، بكرة دي نمشي للعمدة ونخطب ليك بته، وليك على ادفعلك مهرها مائة فدان من حواشة الفشقة..
وقبل ان تشرق شمس الصباح قام الفكي على مخازنه وشحن ثلاثة بكاسي بالبضاعة، ومشي طوالي على جاره المحامي وعمل تنازل لمزرعة الفشقة للاغلف، ثم أركبه في بوكس اخر موديل مزينا بالبدرة والحرير معطرا بفلير الدمور، ودخلا دار العمدة.. العمدة مما شاف الفكي والعربات وراه جري مرحبا بهما واجلسهما مجلسه الفاخر، الفكي بعد السلام و(حق الله بق الله) دخل في الموضوع على طول، وقال للعمدة : - الاغلف ده ولدي الوحيد ، ومني وفيني، وحقي ياهو حقه ليوم الدين، وبدور اعرس له فتحية بتك، ومهرها مية فدان باسمها، ومية فدان من أرض جدي حقت (الفاو) للعمدة.. اها شن قولك؟. العمده طلب يومين للشورة، وذبح خروفا سمينا اكرم به الفكي والاغلف ثم ودعهما وانصرف لفتحية وبقية الأسرة مفاتحا.. فتحية قالت زول أخرس ما بتتزوجه، وأم فتحية قالت كان ولد الفكي ماعندها مشكلة، لكن هو ولد عمه ( ود جودة)، وود جوده ده معروف زول مشاكل وفتن ومولع الدنيا في اي مكان.. اخو البنت قال: - أنا ما عندي مانع أناسب الاغلف لو بسجل للبت مائة فدان ولابوي مائة فدان، بس عايز اتأكد هل هو اغلف بصح ولا مجرد كلام؟ - اغلف بصح كيفن يا احمد، هو اسمه الاغلف لانه عنده غلفة في لسانه وما بتكلم..
- لا لا.. تحت تحت انا سمعت انه اغلف عديل كده.. كدي ده خليه الكلام اسه، لحدي مانعرفك جبت الكلام ده من وين ونفهم أصله وفصله ؟. (الشول) جدة الاغلف، وبعد وفاة بنتها قررت أن تعود لوطنها ريفي (ابيي) ، وهناك ورثت أراضي وابقار كثيرة من أمها.. وبعد أن كبرت في السن وعجزت عن إدارة أملاكها رسلت لجودة وقالت أنها تريد البلولة يجي ويساعدها في ادارة حقها و(طينها) ، ود جود قال ماعنده مانع ومستعد يرسل لها حفيدها ومعاه خمسمائة قرش يشتري بيها ابيي كلها لو عايز.. ولكن المشكلة في الفكي، البقنعه منو؛ والبرضيه شنو؛ عشان يسيب البلولة؟ الفكي انتظر اليومين ولما ماجاه رد، نادي الاغلف وقال له : - رأيك شنو يا ولدي نشوف ليك بت تانية غير فتحية بنت العمدة؟ - مالهم، رفضوا ولا شنو؟ - هم ما رفضوا الا تاخروا علينا في الرد، ونحن كرامتنا مابتسمح لينا نسألهم تاني. - طيب ما ننتظرهم يومين تاني ممكن شورتهم ماتمت، وبعدين نقرر. - سمح يا ابني، وهو كذلك. في اليوم التالي فاجأهم ( ود جوده) بزيارة خاطفة بعد سنوات عشر ما شافهم فيها، أفهم فيها البلولة بأمر جدته واعطاه خمسمائة قرش وقال له : ده حقك في أمك، لو عايز تكمل هنا في القضارف مع عمك الفكي انت حر، ولو عايز تجيني في شندي مرحب بيك، ولو عايز تمشي لاولاد عمك في كسلا أو في الجزيرة ياهم اهلك، ولو بتدور تمشي لحبوبتك في ابيي انت ورأيك. وفي صباح اليوم الثاني رجع ود جوده لبلده، وترك الاغلف يحزم حقائبه في طريقه لجدته.. وقبل العصر ودع الاغلف الفكي وقال له : - ناس فتحية لو ردوا عليك رسل لي عشان أجي آخدها، وكان ماردوا اديهم التوكيل ده انا كتبت فيه حواشتي لفتحية، وعفيت لابوها المية فدان بتاعتك ليوم الدين.. ثم عانقه وسط موجة من الدموع، وركب (هوستن) صديقه (العوض) متجها للابيض، ومنها لدار جدته (الشول) عبر طريق النهود الغربي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
عمر التاج
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست