مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشباب...

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-30-2024, 02:05 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-18-2020, 11:36 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    ولقد كرمنا بني آدم
    ضاقت بنا الدنيا برغم مداها .. .. وبكت عيون الناس من بلواها
    ربــاه أكرمنـا بيسـر عاجــل .. .. واجعـل سـرور نفوسنا تقواهـا

    يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(الإسراء:70).
    يخبر سبحانه في هذه الآية أنه اختار الإنسان على سائر المخلوقات، وكرمه عليها، وفضله تفضيلا.
    وقد ذكر سبحانه مظاهر هذا التكريم في كتابه.. فكان مما كرمه به:
    ـ أنه خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، في احتفال تعظيم، وموكب تكريم.. ليس عبادة له، ولكنه تكريم وتبجيل وبيان لميزة هذا المخلوق الكريم.

    ـ أكرمه بالعلم، وزينه بالفهم والحلم، وخصه بالإرادة والعلم و النطق و البيان. ووهبه أعظم ميزة ميزه بها على سائر من دونه، وهي العقل: أساس التكليف، ومحور التشريف، يكتسب به المعارف والعلوم، وبه يكون الاختراع والإبداع، يستكشف به الكون ويحل أسراره ويستخرج كنوزه.

    ـ وأسكنه فسيح جناته، قبل أن يخرق هذا التكريم بالأكل من الشجرة، فكانت أول عقوبة بالنزول إلى الأرض.
    ـ فلما أنزله إلى الأرض جعله خليفة فيها ـ والخليفة يستمد شرفه وقدره من منزلة مستخلفه ـ وحمله الأمانة، أمانة التكليف وهو من أعظم مظاهر التكريم والرفعة و التشريف، بعد أن أبت السموات والأرض والجبال واشفقن منها.

    ـ سخر له الكون وما فيه لخدمته فالأفلاك دائرة بما فيه مصالحه. والشمس القمر الكواكب مسخرات جاريات بحساب أزمنته وأوقاته، وإصلاح مراتب أقواته. والعالم الجوي و العالم الأرضي، البر والبحر والجو كلها مسخرات لخدمته {وَهُوَ ٱلَّذِى سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِۦ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

    وحتى الملائكة حملة العرش ومن حوله يستغفرون له، والموكلون به يحفظونه، والموكلون بالقطر يسعون في رزقه. ومنهم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه بأمر الله.

    وبالجملة فإن الله كرم بني آدم، وجعل كرامة الإنسان جوهر إنسانيته، ولب بشريته، وأساس حياته وسر رفعته. خلقه واصطفاه، وفضله واجتباه، وأعده أكمل إعداد وأوفاه، وهيأ له كل ما يحتاجه مما تقوم به حياته ويصلح به أمر دينه ودنياه.. وأكرمه بالفطرة السوية، والعقيدة النقية، وحمله الأمانة الغالية، وكلفه بحمل الرسالة السامية، أنشأه من الأرض ليعمرها، واستخلفه فيها ليصلحها، فينفذ رسالته ويطبق شريعته.

    وهذا التكريم تكريم عام شمل كل بني آدم، ودخل تحته جنس البشر، فدخل فيه الكافرون كما دخل فيه المؤمنون، والعاصون كما الطائعون، والصالحون والطالحون.. فكلهم شملهم تكريم الرب لهم. فهو تكريم عام حصله كل إنسان من جهة ذاته، وروحه، وعقله.
    فمن جهة ذاته: حسن صورته، عدل قامته، وقوم هيئته {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}
    ومن جهة روحه: جعلها قابلة للتحلي بأكمل الصفات، وأطهر الأخلاق، وأزكى السمات.
    ومن جهة عقله: هيئه لإدراك الحقائق، وحصول المعارف، وفهم الدقائق، وربط الأسباب بمسبباتها ووجوه ارتباطها وانفصالها.

    إكرام الإنسان لنفسه:
    فإذا كان الله قد رضي لنا الإكرام ولم يرض لنا المهانة فعلينا أن نعيش كراما.. وإنما يكون ذلك بأمرين:
    أولا: أن نحفظ كرامة أنفسنا:
    فنكرم عقولنا: بالعلم والمعرفة والتفكر والتدبر والتأمل، وتنزيهها عن الأوهام والضلالات.
    ونكرم قلوبنا بالإيمان وحب الله والتوكل عليه وتنظيفها من أوضارها، وتنقيتها من أمراضها، كالحقد والكراهية والحسد والغل، والمكر والخديعة.
    ونكرم أرواحنا: بذكر الله، ومكارم الأخلاق، والسمو بذواتنا وتنزيهها عن الغفلة والدناءة وخوارم المروءة.
    ونكرم جوارحنا بالطاعة، وبتحري أكرم الأقوال والأفعال والأحوال، وتجنب المعاصي والترفع عن الدنايا والمهانة.
    فكن كريم النفس عزيزها، لا تتذلل لبشر فقد جعلك الله كريما. إن من يرزق الطير في السماء، والسمك في الماء، والنمل في الجحور، لن ينساك.

    ثانيا: أن نحفظ كرامة الآخرين
    فقد حفظ الله للناس جميعا كرامتهم، وصان أموالهم ودماءهم وأعراضهم، ووضعت الشريعة الإنسان في أعلى مكانة، وأسمى منزلة، ودعت إلى احترام الجنس البشري عموما وتكريم ذاته، حتى اعتبرت الاعتداء عليه ظلما اعتداء على الإنسانية كلها. {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(المائدة:32).

    وصانت الشريعة الأعراض وصانت الكرامة فلا يجوز أن يؤذى إنسان في حضرته، ولا أن يهان في غيبته، فلا تجرح إنسانا، ولا تهن كرامة أحد كرمه الله مهما كان شأنه. وإياك والهمز واللمز والسخرية والاستهزاء، فرب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره. وأكرم اليتيم والمسكين وابن السبيل، والمحتاج والأرملة. واحفظ كرامة المرأة زوجة أو بنتا أو أما. وأعطها حقوقها لا تستغل ضعفها واصبر عليها واحتسب.

    كرامة أعلى وأجل:
    كان ما سبق نوعا من إكرام الله للإنسان، غير أن هناك نوعا آخر من التكريم أعلى من الأول وأعظم وأجل، وهو أن الله دل الإنسان عليه، وعرفه به، وأرسل له الرسل، وأنزل عليه الكتب، ودعاه إلى الإيمان والعمل الصالح، وفتح له باب التقرب إليه متى شاء وأنى شاء {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(البقرة:186).

    ولم يحوجه إلى وسطاء يتحكمون في ضميره، ويقفون حاجبا بينه وبين ربه: [مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ](رواه مسلم عن أبي هريرة).

    وجعل بابه مفتوحا لكل من دعاه وكل من رجاه وأمل عفوه ومغفرته بعد أن عصاه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}.. فليس هناك لا صكوك غفران، ولا جلسات اعتراف بالذنب، ولا كهنوت ولا وساطات بين الله والعباد.
    فكان هذا الأمر بعبادته أشبه بالتكليف بعد التشريف، وإن كان هو في حد ذاته تشريفا
    وممــا زادني شرفًا وتــيهًــا .. .. وكدت بأخمصي أطأ الثريـا
    دخولي تحت قولك يا عبادي .. .. وأن صيَّرت أحمد لي نبيـا

    فمن أراد كرامة الدارين، وسعادة الحياتين، ورفعة الدنيا والآخرة فليكرم نفسه بطاعة ربه، وعبادة مولاه، ولا يهن نفسه ولا يشنها بالشرك والكفر والإعراض، والبعد عن طاعة من أكرمه بالإيجاد وأحسن إليه بكل أنواع الإحسان.
    فمن أقبل على الله طائعا راضيا فهو المكرم المقرب، ومن أعرض عن الله فهو المبعد المهان {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].

    فاللهم أكرمنا في الدارين، وأسعدنا في الحياتين، واجعلنا نعيش عيش الكرماء، ونحيا حياة الأتقياء، ونكون في الآخرة من السعداء.
    والحمد لله رب العالمين.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    ---------------------------
    فلولا أنه كان من المسبحين
    فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، شعار المؤمنين، ودثار المتقين، ووصية الله تعالى للناس أجمعين.

    فاتقوا الله عباد الله.. واعلموا أن من علامات حسن الإسلام، وكمال الإيمان، وامتلاء القلب بحب الرحمن، أن يلجأ الإنسان إلى الواحد الديان في جميع الأحوال وعلى مدار الأزمان.
    فهو يتعرف إلى ربه ويتقرب إليه ويتودد إليه في سرَّائه وضرَّائه، وشدَّته ورخائه، وعافيته وبلائه، كذلك في صحته وسقمه، وغناه وفقره، وشبابه وهرمه، وفي كل حال.

    واعلموا أيضا ـ حفظكم الله ـ أن مواظبة المسلم على الطاعة في السراء، وملازمته للعبادة عند الرخاء، سبب عظيم لإجابة دعائه عند الشدائد والمصائب والبلاء. كما قال سيد العقلاء وإمام الأنبياء: [من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد، فليكثر الدعاء في الرخاء](رواه الترمذي: وهو حسن).

    وهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم للأمة كلها في شخص ابن عباس، حين قال له وهو يعلمه أصول الإيمان وقواعد الإسلام: " احفظ الله يحفظك.. إلى أن قال: .... [تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة](رواه أحمد والترمذي).

    أي إذا أردت أن يحفظك الله في الشدائد والمحن، ويدفع عنك ما تكره من الرزايا والنقم، ويحفظ عليك دينك من مضلات الفتن، فتعرف عليه في حال رخائك، فإن العبد إذا اتقى الله في حال الرخاء، وحفظ حدوده، وتلمس حقوقه، وأطاع أوامره، واتبع شرعه، صارت له بالله معرفة خاصة، ومحبة ومودة تستدعي أن يحفظه الله في حال شدته كما هو مدلول الحديث القدسي: [وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه](رواه البخاري).

    ولذلك لما قال رجل لأبي الدرداء: أوصني، قال له: "اذكر الله في السراء يذكرك الله عز وجل في الضراء".
    وقال: "ادع الله في يوم سرائك، لعله أن يستجيب لك في يوم ضرائك".
    وقال الضحاك بن يونس: "اذكروا الله في الرخاء، يذكركم في الشدة".

    وقد ذم الله أقواما لا يعرفونه ولا يدعونه إلا حال الشدائد وحلول المصائب، فإذا نجاهم منها وعافاهم وسلمهم نسوه وأعرضوا عنه كأن لم تكن بهم شدة ولا بأس. يقول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كأن لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون}(يونس)، ويقول: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ ۚ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا ۖ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}(الزمر:8). وقال جل قائلا عليما: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}(العنكبوت:65، 66)، ويقول أيضا: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}(لقمان:32)

    وقد ضرب الله تعالى في كتابه مثلا للفريقين ـ أعني بين من يعرف الله في سرائه وضرائه، فهو يتقرب إليه بأنواع القربات، وصنوف العبادات، والأعمال الصالحات، والبر والصلة والإحسان وفعل الخيرات، وبين من يكون حال رخائه ويسره في صدود وإعراض ولهو وغفلة، وخطايا وعصيان ـ فالفريق الأول مثله يونس بن متى، والثاني فرعون عليه اللعنة.
    كلاهما قاسى شدة متشابهة، وعاين أهوالا متقاربة، وكلاهما دعا .. ولكن شتان شتان ما بين الإجابتين والخاتمتين والعاقبتين.

    هذا يونس بن متّى نبي الله يسقط في لجج البحار فيبتلعه الحوت، فهو في ظلمة جوف الحوت، وفي ظلمة جوف البحر، وفي ظلمة الليل.. ظلمات ثلاث، فلا أحد يعلم مكانه، ولا أحد يسمع نداءه وكلامه، إلا من لا تخفى عليه خافية، ولا تغيب عنه غائبة، فدعا ربه ونادى في الظلمات: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}[الأنبياء: 87].
    ماذا كانت النتيجة؟ قالت الملائكة: صوت معروف في أرض غريبة، هذا يونس لم يزل يرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة. وجاء الجواب الرباني: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}[الأنبياء:88].
    لماذا؟ قال تعالى {فلولا أنه كان من المسبحين} أي حال رخائه وقبل بلائه، ولولا ذلك لعاقبناه وتركناه {للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}، فأنجاه سابق عمله وحسن صنيعه {فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون}، فما زالت نعم الله وألطافه تترادف عليه وتتوالى.. قال تعالى: {وكذلك ننجي المؤمنين}.
    قال الحسن البصري: "قدم عملاً صالحًا في حال الرخاء فذكره الله في حال البلاء، وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه فإذا عثر وجد متكأً".

    وأما فرعون فقد وقع فيما وقع فيه يونس، فانطبق عليه البحر، فنادى ولكن شتان ما بين المناديين، قال فرعون: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} [يونس:90]، وكانت الإجابة: {آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين}[يونس: 91].

    كيف نجعل من كان حال رخائه من المسبحين، صلاة ودعاء ودعوة وعملا صالحا، وبين من كان من الكافرين والظالمين والفاسقين والجاحدين والغافلين؟.. لا يستوون.
    هذه قاعدة ثابتة وقانون عام (من تعرف إلى الله في السراء، عرفه الله تعالى في الضراء.. ومن كان مع الله حال رخائه، كان الله معه عند بلائه).

    مواقف عجيبة
    لم تكن استجابة الله لدعوات أنبيائه ورسله فقط هي شواهد هذه القاعدة وهذا القانون الرباني، كما هو الحال في استجابته لأيوب في بلائه، ويونس في ضرائه، وزكريا عند طلب الذرية والولد، ولإبراهيم إذ ألقاه قومه في النار، ولمحمد صلى الله عليه وصاحبه ليلة الهجرة وإذ هما في الغار. وإنما كان المسبحون الصادقون دائما في حفظ الله ورعايته عند الشدائد والابتلاءات.

    لما هرب الحسن البصري من الحجاج دخل بيت حبيب أبي محمد، فقال حبيب: يا أبا سعيد، أليس بينك وبين ربك ما تدعوه به فيسترك من هؤلاء؟ ادخل البيت. فدخل، ودخل وراءه الشرطة، فجعلوا يبحثون عنه، فلم يروه، فذكر ذلك للحجاج فقال: بل كان في البيت، إلا أن الله طمس أعينهم فلم يروه.

    والثلاثة الذين دخلوا الغار فانطبقت عليهم الصخرة فأغلقت عليهم الباب، فدعوا ربهم بسالف صالح الأعمال، فمازال يفرجها عليهم شيئا فشيئا حتى نجاهم وخرجوا يمشون.

    شدائد لابد منها
    لئن كان بعض الشدائد قد يخطئ بعض الناس، فيغتني ولا يفتقر، وربما البعض يعافى ولا يمرض، وربما يجنبه الله كثيرا الابتلاءات والفتن.. غير أن هناك شدائد لن يخطئها أحد من الناس أو يسلم منها: فالموت وكربته، والقبر وظلمته وفتنته، والصراط وزلته، ويوم القيامة وأهواله وشدته.. كلها مواقف وكرب وشدائد ستأتينا حتما وتحتاج منا أن نقدم لها ونعد لها. وإن خير ما نلقى به هذه الشدائد معرفة الله في الرخاء، وعبادته في السراء وقبل نزول هذا البلاء، وفي كل هذه المواقف شتان بين من عرف الله قبل وقوعها ومن غفل عنه وأعرض.

    فعند الموت تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والطاعة والعبادة تطمئنهم وتبشرهم: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون}[فصلت:30].

    وعند نزول القبر ولقاء الملكين يأتي التثبيت من الواحد الأحد لأهل الإيمان: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}(إبراهيم:27).

    وفي القيامة وعلى السراط {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم}، وتكون عاقبتهم الجنات، والسبب: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}(الذاريات)، و أيضا: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}(الطور).

    فالعبد الناصح لنفسه هو الذي يجعل بينه وبين الله عملاً صالحًا صادقًا، أو أعمالاً يدعوه بها إذا أصابه ضر أو نزل به كرب وشر.
    {ومن يتق الله يجعل له مخرجا}.. {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا}.

    فتعرفوا على الله في الرخاء يعرفكم في الشدة.
    ------------------------------
    تأثير وسائل الإعلام
    تأخذ وسائل الإعلام - بما فيها من وسائل بصرية كالتلفزيون والصحافة والكتاب والمسرح والسينما، ووسائل سمعية كالخطابة والإذاعة والشريط وشبكات الإنترنت وغيرها - مكانةً كبيرة في حياة المجتمعات المعاصرة، حيث يُنتظر أن يكون للإعلام أثر فعّال في بناء المفاهيم وغرس القيم، ومواجهة المشكلات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها الناس في واقعهم، وهذا يعكس الحضور الجماهيري الكبير لوسائل الاتصال، وأثرها الواضح في الرأي العام، ومصاحبتها لحياة الناس اليومية، حيث يتفاوت تأثيرها في شرائح المجتمع تفاوتاً واضحاً.

    ومع هذا الأثر الكبير والفعّال لوسائل الإعلام في الجانب السلبي، يبقى أثر الإعلام الإسلامي - وهو قليل - محموداً في المجتمعات الإسلامية، حيث يهدف بشكل عام إلى ما يؤدي إلى الخير للإنسانية، ويُذكر هذا ضمن هدفين:
    1- دعم الإسلام، بالدفاع عنه، وتقديمه واضحاً ناصعاً لجمهور الناس، خاصة بعد قيام أعداء الدين بمحاولات عديدة لعزله عن المجتمع، أو تحديده بحيث لا يتجاوز حدود المسجد، أو عرضه بصورة غير صحيحة على المسلم وغير المسلم.

    2- تعميم الإسلام، بمعنى جعله في متناول الجميع، والدعوة إليه بشكل مستمر، في كل كلمة مرئية أو مسموعة أو مكتوبة، وإبراز القدوات والمثل الإسلامية عبر وسائل الإعلام.

    وتختلف النظرة إلى طبيعة السلوك الإنساني وكيفية حل مشكلاته بين النظم المعاصرة، حيث يتميز النظام الإعلامي الإسلامي بأنه (يعتبر المشكلات الإنسانية انعكاس لما بالنفس الإنسانية من المفاهيم الخاطئة، فإذا تغير ما بنفس الإنسان سواء كان بجهده أم بجهد غيره؛ فإن سلوكه لا محالة يتغير، لذا فإن الإعلام الإسلامي ينظر لعلاج المشكلات من خلال النفس الإنسانية، وليس من خارجها، وهو مع ذلك يرتبط بخصوصية الأمة الإسلامية في نظرتها إلى طبيعة الإنسان وطبيعة الأحداث والوقائع، وطبيعة الحياة الاجتماعية، كما يرتبط بالمنهج الإسلامي الذي يحكم حركة الإنسان في الحياة ويحكم عليها).

    وقد بذل أعداء الإسلام جهوداً كبيرة للسيطرة على وسائل الإعلام منذ وقت مبكر، حرصاً منهم على تغريب الفكر الإسلامي، وتذويب الهوية الإسلامية وطمسها، وهدم العادات الأصيلة وزعزعة القيم الفاضلة، حيث إن كثيراً من الظواهر التي تبدو بالنظرة السطحية العاجلة قليلة الخطر، بيد أنها ذات دلالات عميقة ونتائج خطيرة، فعلى سبيل المثال يشير نابليون إلى أثر المسرح وأهميته في تطوير المجتمع المصري، فيكتب في رسالة لأحد قادته: (لقد عولت على أن أرسل لك فرقة الكوميدي فرانسيز، وتلك فكرة أحرص عليها، أولاً لتسلية جيوشنا، وثانياً: لتغيير عوائد هذه البلاد وإثارة عواطفها).

    وقد قامت القوى المعادية للإسلام باستغلال القوة التأثيرية لوسائل الإعلام، وحاجة الناس إليها - لا سيما المرئية منها لما تتميز به من جذب وإثارة - وتعلقهم بها وتأثرهم بما تمليه وتبثه من أفكار على غفلة كثير منهم، حيث يتعامل بعضهم مع وسائل الإعلام على أنها مجرد أداة للترفيه والاستجمام ليس أكثر، أو مصدر للأخبار فقط، غير أن هذه النظرة ساذجة إلى حد كبير، إذ ليس هناك ترفيه بريء، ولا أخبار محايدة، فكل ما يسمعه الفرد أو يقرؤه لا يخلو من هدف، أو بتعبير آخر: أنه محمل بالقيم، وهذا يعني أن الرسائل الإعلامية سواء كانت في شكل خبر أو دعاية أو فكاهة أو برنامج علمي، فهي تسعى إلى نشر قيم معيّنة وإزالة قيم أخرى، وهذه هي بالضبط التنشئة الاجتماعية في أبسط صورها).

    ومما زاد من خطر الهجمة الإعلامية ظهور الفضائيات وشبكات الإنترنت، وتوافرها بسهولة ورخص للمستهلكين، من حيث صعوبة الانتقاء من جهة، واستحالة الانعزال السلبي من جهة أخرى، فأصبح تأثيره يصل إلى كل متلق أيا كانت ثقافته ومعرفته، ليسهم في تكوين الشخصية الإنسانية العالمية التي يجتمع في فكرها وسلوكها ما تشتت بين الثقافات، ولقد كان لهذا الوضع آثاره السيئة في تشويه الشخصية الإسلامية، لا سيما شخصية الناشئة من شباب الأمة الإسلامية، فقد حازوا النصيب الأكبر من التأثير السلبي للإعلام المعاصر، ولم تكن الفتاة المسلمة بمعزل عن هذا الوسط الثقافي المتفاعل، والتأثير القوي، فخاضت فيما خاض فيه المجتمع، وتأثرت بما تأثر به، حتى غدت فئات كبيرة من الفتيات المسلمات صورة مكررة للمرأة في النموذج الغربي ، نتيجة لما يبرزه الإعلام أمامها من تلك النماذج السيئة كقدوات لامعة، كما (تعتبر مصادر الإعلام بصفة عامة منابع متدفقة بالمعرفة في حياة المراهق، من حيث إنها تعرضه لما يساعده في تقمص الأدوار الاجتماعية العديدة التي يُنتظر منه أن ينهض بها).

    ويزيد أثر الإعلام السلبي على المرأة المسلمة، أن الأجهزة الإعلامية بأنواعها تتوخى أكثر الطرق فاعلية لتغريب المرأة وإشغالها عن مهمتها الأساس، خاصة وأنها تخاطب المرأة الأمية والمتعلمة في آن واحد، فقد (أصبح العالم اليوم يشهد حربًا إعلامية بين دول تمتلك كافة الإمكانات، ودول لا تمتلك شيئًا، الأمر الذي يضع على عاتق التربية مهمة إدراك حقيقة ما تتميز به البرامج الأخرى من جذب وتشويق، والعمل على مواجهتها بشكل فاعل، يسهم في ترسيخ قيمنا الإسلامية، والمحافظة على هوية الأفراد في المجتمع المسلم، وخاصة المرأة التي يتوجه لها الإعلام بكل السبل الممكنة من أجل إلهائها عن حقيقة رسالتها في الحياة).

    ولقد ظهرت بعض السلوكيات الاجتماعية في المجتمع، والتي كانت من قبل أمراً مستنكراً، ثم تسللت على استحياء إلى نسيج ثقافة هذا المجتمع المسلم، ومع تزايد وسائل الإعلام في حياة الناس، وما يبثه من الرسائل الإعلامية المشحونة بقيم دخيلة وبكثافة شديدة؛ أصبحت هذه الظواهر الغريبة تتغلغل في تشكيل المجتمع الثقافي لدى بعض الشرائح الاجتماعية، وأصبحت جزءًا من ثقافة المجتمع لا تُستهجن أو تُستنكر، ومع مرور الوقت ومع سيل الرسائل الإعلامية المروِّجة لهذه القيم ستصبح بل أصبحت ضمن التكوين الثقافي للمجتمع، ويؤكد هذا الأمر نتائج الدراسة التي أجريت على طالبات المرحلة الثانوية، والتي أسفرت عن وجود علاقة بين استقبال البث المباشر، وبين الالتزام بالقيم العقدية والأخلاقية والاجتماعية، حيث ثبت أن الطالبات غير المستقبلات للبث المباشر أكثر التزاما بهذه القيم من زميلاتهنّ المستقبلات للبث، كما أكدت دراسة أخرى وجود العديد من السلبيات التي يتركها البث التلفزيوني الفضائي على أفراد المجتمع، وعلى رأسها أن البث الفضائي وسيلة لمحاربة الإسلام وأنها تغري جميع أفراد العائلة بمشاهدتها باستمرار، وذلك كما يراها أفراد العيّنة وهم من طلبة الجامعة.

    أما العلاقة بين التعرض لوسائل الإعلام ومشاهدة القنوات واستخدام وسائل الاتصال الحديثة، وبين تقبل الفتيات للقيم الحديثة، فقد أشارت إحدى الدراسات إلى أن هذا يجعل الفتاة عرضة أكثر للمؤثرات المبثوثة من خلال وسائل الإعلام، حيث أثر ذلك على بعض القيم، ومنها - مثلاً - القيم الاجتماعية المرتبطة بالحياة الأسرية، كالصفات التي تحبذ الفتاة السعودية توفرها في زوج المستقبل، وعلى العلاقات بين الأقرباء، وعلى سيادة رب الأسرة، حيث أجاب 35.6% من اللواتي يشاهدن القنوات برفض مبدأ سيادة رب الأسرة، في مقابل نسبة 25.3% ممن لا يشاهدن القنوات.

    وفي ضوء ما سبق يتضح أثر الإعلام في سلوك طالبات المرحلة الثانوية، الأمر الذي يتطلب التحصين الإيماني والأخلاقي لحماية الفتاة المسلمة من أثر وسائله، حيث نشرت جريدة المدينة أن سبب الوقوع في الانحرافات الخلقية عند عدد من الشباب المراهق الذين أودعوا دور رعاية جنوح الأحداث، كان متابعة البرامج المثيرة الفاضحة التي تبثها بعض القنوات الأوروبية.
    -----------------------------
    حتى يغيروا ما بأنفسهم
    إن لله تعالى سننا في الكون، وفي المجتمعات، وفي حركة التاريخ.. وهذه السنن تعمل بإحكام متناه، وانتظام تام، وهي لا تتبدل ولا تتغير، كما أنها لا تحابي أحدا على أحد، ولا أمة على أمة؛ إذ هي نظام في الكون وضعه الله بانتظام هائل وإحكام تام، وعلم مطلق.

    وهذه السنن تجعل من يفهمها يستطيع أن يفسر الأحداث ويفهم التحولات فهما دقيقا، ويتوقع حدوثها من خلال مقدماتها التي يعيشها ويدركها

    واجبنا نحو السنن
    ولهذا كان من واجبنا نحو هذه السنن أمور إذا أردنا أن ننتفع بها:
    1 . السعي لاكتشافها ومعرفتها والتدبر في طريقة عملها.

    2. تفسير الأحداث من خلالها: فلو وعى الناس سنن الله في التاريخ والأمم والمجتمعات، وربطوها بالواقع الذي يعيشونه لانفتحت لهم آفاق الفهم واتضحت لهم الرؤية.

    3. الرؤية المستقبلية للأحداث: فمن خلال السنن ومعرفة طريقة عملها يمكن أن نتوقع العواقب من خلال الأسباب.

    4. أن نستثمر هذه السنن وأن نستفيد منها، ونحن نتطلع إلى التغيير في مجتمعاتنا.

    سنة التغيير
    ومن هذه السنن التي وضعها الله في خلقه وبين عباده، سنة التغيير، والحديث عنها مبثوث ومنتشر في آيات القرآن الكريم، وفي سنة النبي الأمين، وقد ورد ذكر التغيير مباشرة في كتاب الله تعالى في آيتين:
    الأولى: في سورة الأنفال، بعد أن ذكر الله قوم فرعون وما فعل بهم قال: {ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وأن الله سميع عليم}[الأنفال: 53].
    والثانية: في سورة الرعد: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له}.

    وفي الآيتين نوعان من التغيير: تغيير من القوم لما بأنفسهم... ثم تغيير من الله لما بالقوم.

    والملاحظ في الآيتين أن تغيير الله لما بالناس، يأتي بعد أن يغير الناس ما بأنفسهم.. سواء كان بالخير أو بالشر.
    يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله: "وطبقاً لهذا القانون الإلهي نجد أن تغير الناس من الإيمان إلى الكفر لابد أن يقابله تغيير من نعمة الله عليهم، وإلا لأصبح منهج الله بلا قيمة".
    ويقول أيضا: "وما دام الإنسان قد غير، لابد أن يغير الحق النعمة إلى نقمة، ومن رحمته سبحانه أنه شاء أن يكون الإنسان هو البادئ، فالحق سبحانه منزّه أن يكون ظالما أو بادئا بالعقوبة، بل بدأ الإنسان بظلم نفسه. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الأنفال: 53].

    ويقول الإمام ابن جرير الطبري عند تفسير هذه الآية أيضا: "يَقُول ـ تَعَالَى ذِكْره: إِنَّ اللَّه لَا يُغَيِّر مَا بِقَوْمٍ مِنْ عَافِيَة وَنِعْمَة فَيُزِيل ذَلِكَ عَنْهُمْ وَيُهْلِكهُمْ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ: بِظُلْمِ بَعْضهمْ بَعْضًا، وَاعْتِدَاء بَعْضهمْ عَلَى بَعْض، فَتَحِلّ بِهِمْ حِينَئِذٍ عُقُوبَته وَتَغْيِيره.

    و أخرج ابن أبي حاتم أثرا عن إبراهيم قال : أوحى اللّه إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة اللّه فيتحولون منها إلى معصية اللّه إلا حوّل اللّه عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون، ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب اللّه: {إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}

    والحديث عن التغيير في الآيتين له دلالتان:
    الأولى: أن التغيير يبدأ من الناس أولا، ثم يغير الله ما بهم. كما سبق ، وعلى رواد الإصلاح ودعاة التغيير أن يفهموا ويفقهوا هذه السنة حتى لا تذهب جهودهم أدراج الرياح.

    والثانية: أن الآيتين أيضا وردتا بصيغة الجمع "لا يغير ما بقوم حتى يغيروا". فلن يكون تغيير حقيقي إلا إذا غلب الأمر على أنفس المجموع، أو على جل الناس، أو على الأقل قطعة معتبرة تتكاتف وتتعاون لتغيير ما بحالها لتستحق نصر الله ففي الحديث الشريف [لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك].

    .. ويمكننا أن نزيد على ذلك أن التغيير لابد أن يكون حقيقيا، لا مجرد ادعاء في الظاهر دون دواخل النفوس، وفي هذا يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله: "إذن لابد أن يدخل الإنسان إلى الإيمان، وأن يكون هذا الإيمان متغلغلاً في أعماقك، وليس أمراً ظاهريا فقط، فلا تدَّع الإصلاح وأنت تفسد، ولا تدع الشرف والأمانة وأنت تسرق، ولا تدع العدل وأنت تظلم الفقير وتحابي الغني؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لا يعطي نعمه الظاهرة والباطنة إلا لمن يتبعون منهجه. وإذا رأيت قوماً عمّ فيهم الفساد فاعلم أن نفوسهم لم تتغير رغم أنهم يتظاهرون باتباع المنهج الإلهي.

    حقائق حول التغيير
    وهذا الذي ذكرته الآيتان حول التغيير يقودنا إلى:
    ـ أننا مسؤولون عن هذا الواقع الذي نعيشه، بمعنى أن الأمة إنما أوتيت من داخلها، {قل هو من عند أنفسكم}.

    ـ لن يتم التغيير إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا من جهل وتخلف وأمية وتمزق وحروب وفساد وظلم، وبعد عن منهج الله.

    ـ كل تغير في الأرض يسبقه تغيير في نفوس الناس، فيعمل الناس وفق ما في نفوسهم فيحصل التغيير إما للأحسن أو للأسوأ.

    ـ التغيير ممكن، وإن ظن البعض أنه لا فائدة، أو أن الواقع يفرض نفسه. بل هذا الواقع يمكن تغييره حين يريد الناس، وحين يغيروا ما بأنفسهم.

    ـ اليأس من التغيير هو استسلام للواقع أو تسويغ لما فيه، وهذا جريمة؛ لأنه تسويغ للانحراف، وحجر عثرة أمام كل إصلاح، وتسويغ الجرائم إنما هو جريمة أشد من جريمة القاعدين الناكثين.

    ـ خطأ يقع فيه الكثير وهو أنهم ينتظرون البطل القادم الذي سيحل مشاكل المسلمين، وإن بقوا على ما هم عليه.
    وغاية الخشونة
    أن تندبوا: قم يا صلاح الدين قم...
    دعوا صلاح الدين في مرقده.. واحترموا سكونه
    فإنه لو قام بيننا.. حقا ستقتلونه

    فالبطل هذا لابد أن يقوم معه الناس ويكون له أعوان وظهير منهم؛ يقول سبحانه عن موسى و هو رسول من أولي العزم من الرسل : { قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين}.

    وفي الختام نقول:
    من أراد أن يبدل الله حاله إلى ما يحب، فعليه أن يغير نفسه ليكون لله على ما يحب.

    الكل يحسن الكلام عن التغيير ولكن قليلون هم الذين يبدؤون بتغيير أنفسهم قبل دعوة الآخرين للتغيير.

    إن التحدي الحقيقي هو أن تغير نفسك قبل أن تطلب من الآخرين تغيير أنفسهم، فتصبح الشخص الذي يريده الله.

    نقول للمنشغلين بالتنظير للتغيير، الغارقين في التحليلات والتوقعات، فكروا في تغيير أنفسكم فإن هذا هو التغيير الأهم والأكبر.

    ونقول لليائسين المحبطين: أيها اليائسون من التغيير لا تيأسوا، فإن فأرا دمر سدا فأغرق قرية، وبعوضة قتلت عاتيا متمردا قويا، وطائرا أنقذ شعبا من الكفر، وطيرا أبابيل حطمت جيش أصحاب الفيل. فلا تحقرن ضعيفا فربما أتى التغيير من طريقه.

    نحن نحتاج إلى شجاعة لكي نغير ما يمكن تغييره، ونحتاج إلى صبر لكي نثبت و نتحمل ما لا يمكن تغييره، ونحتاج إلى حكمة لنعرف الفرق ما بين الإثنين.

    بسم الله الرحمن الرحيم: {ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الأنفال: 53]. صدق الله العظيم.
    ----------------------------------
    منافق معلوم النفاق
    الصلاة أعظم شعائر هذا الدين، وأظهر معالمه، وأنفع ذخائره.
    هي آكد المفروضات، وأعظم الطاعات، وأجل القربات.
    هي قرة العيون، ومفزع المحزون.
    هي سرور المؤمن، وهناءة نفسه، وفرحة فؤاده..
    وهي رأس الأمانة، وعمود الديانة.

    من حافظ عليها فقد أظهر إيمانه وإسلامه، ومن استهان بها وضيعها فقد أبدى عصيانه وكفرانه، فهي الفارق بين المسلمين والكافرين، وهي آخر ما يبقى عند المرء من هذا الدين: [العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر](رواه مسلم).
    وعن أبي أمامة الباهلي: قال سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: [لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة](رواه أحمد وابن حبان بسند جيد).

    أول الطريق ترك الجماعات
    ولئن كان ترك الصلاة والتفريط فيها وإخراجها عن وقتها من أكبر الكبائر، وأبين الجرائر.. فإن أول طريق التفريط والتهاون إنما يبدأ بترك صلاة الجماعة.
    ولعمر الله.. لقد كثر المتخلفون عن الصلوات في المساجد، رجال قادرون أسوياء، وشباب يافعون أقوياء، يسمعون النداء ولكن لا يجيبون ولا هم يذكرون؛ حتى كادت المساجد أن تكون خاوية في الجماعات، وقاطعها الشباب حتى كادت العين تخطئ أي وجود لهم في الصلوات..
    وهذا والله نذير شؤم، وناقوس خطر يدق على مستقبل هذه الأمة ومستقبل أبنائها، وهو علامة على الاستهانة بأمر الله الذي أمر الرجال وذكور المكلفين بصلاة الجماعة حيث ينادى بها في المساجد، قال تعالى: {وأقيموا وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين}، وأين يكون هؤلاء الراكعون؟ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ . رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}(النور:36، 37).

    ولقد جاءت الأدلة الصحية الصريحة متكاثرة ومتضافرة على وجوب صلاة الجماعة على الرجال. كما جاءت تأمر بالجماعة وتحض عليها، وتبين فضلها، وتحذر أشد التحذير من تركها أو التهاون فيها.

    ولقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ما يقطع عذر كل معتذر، وعلة كل متعلل، وتهاون كل متكاسل.
    هذا عبد الله بن أم مكتوم رجل أعمى البصر، بعيد البيت، ليس له من يقوده.. يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! إني قد دبرت سني، ورق عظمي، وذهب بصري، وبيتي بعيد عن المسجد والمدينة مسبعة "كثيرة السباع والهوام"، وليس لي قائد يواتيني أو يقودني إلى المسجد. فهل تجد لي رخصة أن أصلي في البيت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: [أتسمع النداء؟ قال: نعم. قال: أجب.. فإني لا أجد لك رخصة].
    فإذا كان لا يجد رخصة لأعمى، بعيد البيت، لا يجد من يقوده.. فماذا عسى يقول المبصر القوي القادر القريب من المسجد؟

    فلا رخصة لمتخلف عن الجماعة وهو قادر على الذهاب إليها؛ ذلك أنه لا صلاة لمن سمع النداء إلا حيث ينادى بها، ولا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.
    عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر](رواه ابن ماجه وصححه الألباني). وقال صلى الله عليه وسلم: [لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد](رواه البيهقي والدارقطني). وهو وإن كان الأئمة ضعفوا سنده إلا أن معناه صحيح أكدته الأحاديث الأخرى.

    وفي سنن أبي داود قال عليه الصلاة والسلام: [من سمع المناديَ بالصلاة فلم يمنعه من اتِّباعه عذر لم تُقبَل منه الصلاة التي صلّى، قيل: وما العذرُ يا رسول الله؟ قال: خوفٌ أو مرض] أخرجه أبو داود وغيره.
    وروى ابن أبي شيبة عن أبي هريرة قال: "لأن يمتلئ أذنا ابن آدم رصاصا مذابا خير له من أن يسمع النداء ولا يجيب".

    جفاء ونفاق
    إن ترك الجماعات خيبة وشقاء، ونفاق وجفاء..
    روى الإمام أحمد عن معاذ بن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الجفاء والكفر والنفاق من سمع منادي الله ينادي إلى الصلاة فلا يجيبه]. وفي رواية الطبراني قال عليه الصلاة والسلام: [بحسب المؤمن من الشقاء والخيبة أن يسمع المؤذن يثوب بالصلاة فلا يجيبه].

    ومن فعل ذلك استحق لعنة الله؛ لما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة لعنهم الله: ... وذكر منهم: [ورجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب].

    إن التخلف عن الجماعة والتكاسل عنها علامة من علامات النفاق:
    قال تعالى عن المنافقين: [ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى]، فهم يأتونها ولكن في كسل. وقال عنهم أيضا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}(النساء:142).
    وروى أبو داود عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: [صلّى بنا رسول الله يومًا الصبحَ فقال: أشاهدٌ فلان؟ قلنا: نعم، ولم يشهَد الصلاة، ثم قال: أشاهد فلان؟ قلنا: نعم، ولم يشهد الصلاة، فقال: إنّ أثقلَ الصلاة على المنافقين صلاةُ العشاء وصلاة الفجر، ولو تعلمون ما فيهما من الرغائب لأتيتموهما ولو حَبوًا].

    ولقد هم رسول الله أن يحرق على أمثال هؤلاء المتخلفين بيوتهم؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: [لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتُقام، ثمّ آمر رجلاً يصلِّي بالناس، ثمّ أنطلِق معي برجال معهم حُزَم من حَطب إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة، فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار](متفق عليه).

    يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (مَن سرّه أن يلقى الله غدًا مسلِمًا فليحافِظ على هؤلاء الصلواتِ حيث يُنادَى بهنّ، فإنّ الله شرع لنبيكم سُننَ الهدى، وإنّهنّ من سُنن الهدى، ولو أنكم صلّيتم في بيوتكم كما يصلّي هذا المتخلِّف في بيته لتركتم سنّةَ نبيكم، ولو تركتم سنةَ نبيّكم لضللتم، ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عنها إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتَى به يُهادَى بين الرجلين حتى يُقام في الصفّ)(أخرجه مسلم).

    --------------------------
    الاعتبار.. أنواعه وثمراته
    لما سئلت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن أعجب ما رأته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكت ثم قالت: كان كل أمره عجباً، أتاني في ليلتي التي يكون فيها عندي، فاضطجع بجنبي حتى مس جلدي جلده، ثم قال: ياعائشة ألا تأذنين لي أن أتعبد ربي عز وجل؟ فقلت: يارسول الله: والله إني لأحب قربك وأحب هواك- أي وأحب ما يسرك مما تهواه- قالت: فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ، ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي ويتهجد، فبكى في صلاته حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بلّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الفجر، رآه يبكي فقال يارسول الله: ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال له: ويحك يا بلال،وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة هذه الآيات: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب …) فقرأها إلى آخر السورة ثم قال: [ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها].

    التفكر من أعظم العبادات؛ كما قال عمر بن عبد العزيز: "التفكر في نعم الله عز وجل من أعظم العبادة".
    وقال عامر بن عبد قيس: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر".
    قال الحسن: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
    قال ابن القيم: وأحسن ما أنفقت فيه الأنفاس: التفكر في آيات الله وعجائب صنعه.

    وذلك أن التفكر طريق الاعتبار.. وقد امتدح الله المعتبرين فقال بعد أن ذكر نهاية قوم لوط: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. إن في ذلك لآيات للمتوسمين}(الحجر:74، 75).. والمتوسمون: هم المعتبرون الذين يأخذون العبرة وينتفعون بها.

    فما هي العبرة؟ وما أنواعها؟ وما هو أثرها وثمرتها؟
    العبرة لغة: الدرس والعظة.
    واصطلاحا: أحداث ووقائع تجري بأمر الله، وهي شاهد على صدق سنن الله التي بنى عليها الكون وسيره بها.
    قال الكفوي: "الاعتبار هو التدبر وقياس ما غاب على ما ظهر".
    أي قياس ما لم يحدث على ما حدث.. وضد التفكر الإعراض والبلادة والغفلة والتفريط.

    والقرآن مملوء بدعوة العباد إلى التفكر في الآيات والنظر في أحوال المخلوقات، ونظر الإنسان في نفسه، وتفاصيل أحواله، ليتعرف على حقائق الكون وأسس الإيمان، وقواعد الحياة.

    والتفكر والاعتبار من أعظم مقاصد قصص القرآن الكريم: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ}(هود:120).

    المنتفعون والمغبونون
    وينبغي أن تعلم أنه لا ينتفع بالعبرة إلا العقلاء: أصحاب النظر الكريم، والرأي السديد، والعقل الرشيد. من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ومن كان في قلبه خشية من العزيز الحميد {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى}، {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}، {فاعتبروا يا أولي الأبصار}، {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.

    وصنفان من الناس لا ينتفعون بالعبرة أبدا: المتكبرون والغافلون.
    فالمتكبر: يرى الكل حقيرا إذا قاسه بنفسه، فهو أعلى من أن يعتبر بحدث أو يهزه موقف.. وهؤلاء محرومون من الفهم، مصروفون عن الحق مخذولون عن التوفيق: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا}(الأعراف:146).

    ثم الغافلون، وهم المعطلون لأسماعهم وأبصارهم وعقولهم، فهم كالحيوان لا يعتبر بالحدث الذي يجري أمامه.. يرى الخطر بعينه والناس هلكى ثم يعود بعد ذلك فيفعل الفعل نفسه.. وهؤلاء هم المرشحون لنار جهنم: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}(الأعراف:179).

    أنواع العبرة:
    أولها: الاعتبار بخلق الله على قدرته وعظمته:
    وجبروته وقهره وقل ما شئت من أوصاف العظمة والجلال.. وأعظم ما يكون ذلك بالنظر في مصنوعات الله والتفكر في مخلوقاته.. فالصنعة تدل على الصانع، ودقة الخلق تدل على عظمة الخالق.. ورب العزة سبحانه يدعونا لنتأمل في خلقنا، وفي خلق السموات والأرض، وخلق النبات، والبحار، والحيوان. قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}، {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}، {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه}. وقال سبحانه: {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ (66) وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}.
    وقال عن خلق الإنسان {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}(المؤمنون12-14).

    نعم.. "فتبارك الله أحسن الخالقين"، ومن تأمل في خلق الله وتصرفه وجد العجب العجاب، وما خفي عنا فهو أعظم بكثير مما ظهر لنا.
    لـلــه فــي الآفـــاق آيـــات *** لعــل أقلـها هو مـا إليه هـداكا
    ولعل ما في النفس من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناك
    والكون مشحون بأسرار إذا *** حـاولت تفسـيراً لــها أعـياكا
    ....
    والله في كل العجـائب ماثل *** إن لم تكــن لتراه فهـو يراكا؟
    فاعجب لهؤلاء الملحدين، واعجب للمنكرين وجود الله، أو الذين يشركون في عبادته معه غيره.

    ثانيا: الاعتبار بزوال الأمم
    فمن سنن الله في كونه أن أحوال الناس معلقة بإيمانهم فإن هم آمنوا بالله أنزل لهم المطر، وأنبت لهم الزرع، وأحفل لهم الضرع، وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، فإذا غيروا وعصوا وظلموا وكفروا نعمته؛ أهلكهم بذنوبهم وظلمهم.. فأمسك عنهم القطر، وأبدلهم بعد الأمن خوفا، وبدل الرزق جوعا، وبدل النعمة نقمة {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}(النحل:112).

    عصى قوم نوح فأغرقهم الله بالطوفان، كما أغرق قوم فرعون وجنوده، وأهلك عادا بالريح العقيم، وثمود بالصيحة، وخسف بقوم لوط قراهم وأمطر عليهم حجارة من النار، وأهلك مدين بالرجفة.. قال سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(العنكبوت:40).

    لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُصُ فُرِّقَ بَيْنَ أَهْلِهَا فَبَكَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قال جبير بن نفير: رَأَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ جَالِسًا وَحْدَهُ يَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، مَا يُبْكِيكَ فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ؟ قَال: "وَيْحَكَ يَا جُبَيْرُ، مَا أَهْوَنَ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ إِذَا هُمْ تَرَكُوا أَمْرَهُ، بَيْنَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُمُ الْمُلْكُ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى".

    ثالثا: الاعتبار بهلاك الظلمة والطغاة
    فإن للكرسي والجاه شهوة هي أشد من شهوة المال والنساء والولد، والحاكم إن لم يكن عنده من الدين ما يحفظ له توازنه وعقله أصيب بجنون العظمة حتى يرى نفسه فوق مستوى البشر، فربما قال {أنا ربكم الأعلى} كما قال فرعون، أو كما قال النمرود {أنا أحيي وأميت}.
    أو يظن أن عقله يتسع لأن يشرع للبشرية منهجا أحسن من منهج الله أو يساويه أو يدانيه، أو يستورد لهم من قوانين الخلق ما يظنه فوق شريعة الرب، وهذا أعظم الظلم وأبينه كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}(الأنعام:93).

    فتأمل في عاقبتهم واعتبر: فرعون، والنمرود، وأبو جهل، وابنا ربيعة، وأمية بن خلف، وصناديد كفار قريش، وقرونا بعد ذلك كثيرا.. وحتى في زماننا لم يسلم الطغاة الأشرار من عقاب الجبار سبحانه. فكم من طاغية أحاط نفسه بمن يظن أنهم يحمونه، وسور على نفسه بألف سور لتحفظه من أهل الأرض {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}(النحل:26).

    رابعا: ومن العبرة أن العاقبة لمن اتقى وصبر
    وهذا قانون إلهي، وسنة كونية، ووعد لا يتخلف؛ كما قال تعالى: {والعاقبة للتقوى}، وقال: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}، وقال: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}. وقال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(غافر:51ـ52).

    ثمرات التفكر والاعتبار
    أولا: زيادة الإيمان وخشية الرحمن
    فالتفكر في الكون يكشف عن عظمة الخالق في خلقه، ويجعل المرء يقر بوحدانية الله تعالى، ويتواضع لعظمته، ويحاسب نفسه على أخطائها فيزداد إيماناً وصفاء. والتفكر في الكون يورث الحكمة، ويحيي القلوب، ويغرس فيها الخوف والخشية من الله عز وجل. ولو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل
    فيا عجبا كيف يعصي الإله *** أم كيف يجحده الجاحد
    ولله فــي كــل تحــريـــكــة *** وفي كل تسكينة شـاهدُ
    وفـي كــل شــيء لــه آيــة *** تــدل على أنــه واحــدُ

    ثانيا: توسع مدارك المؤمن وتدله على آيات الله تعالى:
    إذا المرء كانت له فكرة .. ففي كل شيء له عبرة
    ولذلك أمر الله عباده بالضرب في الأرض والنظر في آياتها {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(الحج:46).

    ثالثا: وزن الأمور بحقائقها لا بمجرد ظواهرها:
    فلله في كونه سنن جارية، وحقائق ثابتة، وآيات باهرة، وقانون الله هو الحق وإن خالفته قوانين البشر، وسنن الله هي الماضية وإن خالفها الناس ولم يلتفتوا إليها، وموازين الله تختلف كثيرا عن موازين خلقه، خصوصا عندما يبتعدوا عن وحيه وشرعه ودينه، وقد ضرب الله مثال الدنيا والآخرة، ومثال الإخلاص والنفاق، والمؤمن والكافر، والمال الحرام والمال الحلال ليبين للناس الفوارق.. وبين لهم رسول الله الفارق بين موازين الحق وموازين الخلق.

    روى مسلم في صحيحه عن المستورد بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [واللهِ! ما الدُّنيا في الآخرةِ إلَّا مِثْلُ ما يَجعلُ أحدكُمْ إصبعَهُ هذهِ - وأشارَ يحيى بالسبابةِ - في اليمِّ . فلينظرْ بِمَ يَرجِعُ].

    وعند البخاري من حديث سهل بن سعد قال: [مرَّ رجلٌ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريٌّ إن خَطَبَ أن يُنْكَحَ، وإن شَفَعَ أن يُشَفَّعَ، وإن قال أن يُسْمَعَ. قال: ثم سكتَ، فمرَّ رجلٌ من فقراءِ المسلمين، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريٌّ إن خطبَ أن لا يُنْكَحَ، وإن شَفَعَ أن لا يُشَفَّعَ، وإن قال أن لا يُسْمَعَ. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هذا خيرٌ من ملءِ الأرضِ مثلَ هذا].

    رابعا: الحق منصور والباطل مدحور
    ولو قدر أنه كان للباطل جولة فإن للحق جولات، ودولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، والحق أبلج والباطل لجلج.. وقد ذيل الله كثيرا من الآيات بقوله عن الكفار: حبطت أعمالهم، دليلا على أن عواقبها فاسدة ونتيجتها خاسرة، وأن الحق يعلو ولا يعلى عليه ولابد {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}(الأنبياء:18).
    اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام وتعز المسلمين، وأن تعلي كلمة الحق والدين.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    ------------------------------
    أثر الإيمان على السلوك
    إن سلوك الإنسان وأخلاقَه وتصرفاتِه في الحياة مظهرٌ من مظاهر عقيدته في حياته الواقعية وممارساته اليومية، فإن صلَحت العقيدة الإيمانية صلَح السلوك واستقام، وإذا فسَدت فسد واعوجَّ، ومن ثَمَّ كانت عقيدة التوحيد والإيمان بالله ضرورةً، لا يستغني عنها الإنسان؛ ليستكمل شخصيته، ويحقق إنسانيته، وقد كانت الدعوة إلى عقيدة التوحيد أول شيء قام به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتكون حجر الزاوية في بناء الأمة المسلمة.

    فثمرة كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ثمرة طيبة تُؤتِي أُكُلَها في كلِّ حين بإذن ربها، والمؤمن كذلك لا يزال يُرفع له عمله الصالح في كل وقت حتى بعد مماته، وقد قال الله عنها: ( ألم تر كيف ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)[إبراهيم:24-25].

    وإذا سيطرت عقيدة التوحيد على النفس الإنسانية، أثمرت الفضائل الإنسانية العليا، فتسمو النفس عن الماديات الوضيعة، وتتَّجه دائمًا نحو الخير والنبل، والنزاهة والشرف، ويتخلق صاحبُها بالشجاعة والكرم، والسماحة والطمأنينة، والإيثار والتضحية.

    والمسلم إذا تمكنت العقيدة الإيمانية من نفسه تبرَّأ من الكافرين (من يهود، ونصارى، ووثنين، أو ملحدين، أيًّا كان لونهم أو فكرهم)، وما هم عليه من عقائد وأفعال، وسلوك وأخلاق، وانطلق يلتمس قدوته من الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وآخرهم نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن الصحابة الذين ربَّاهم على يديه - صلى الله عليه وسلم - فكانوا هم النموذجَ الفريد من الرَّعيل الأول، والذين قال عنهم: [خير القرون قرني]، فكانوا قممًا شامخة، ارتفعوا فوق جواذب الجاهلية ومفاتن الدنيا وما فيها من مغريات.

    وقد سارت الأجيال المسلمة تنهل من التربية المثلى التي غرسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن الأخلاق الفاضلة التي لم تتغيَّر من فرد إلى فرد، ولا من جيل إلى جيل، ولا من مجتمع إلى آخر، بل هي قيم ثابتة تزداد ثباتًا كلما مرَّت الإنسانية في تجارِبها خلال هذه الحياة، فهي أخلاق متكاملة تحتضن جميع الفضائل والأعمال الخيرة لصالح الفرد والمجتمع وفي جميع الميادين.

    وغاية المسلم الأساسية في أخلاقه، أن يحقق مرضاة ربِّه في الآخرة، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزلزلة: 7، 8]، كما أن المسلم يحقِّق سعادته في الدنيا قبل الآخرة، يقول تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]، فالسرور ثمرة عملية لمن يتحلَّى بالأخلاق الفاضلة، والطمأنينة القلبية والشعور بخيرية الذات وخيرية المصير، وهذه من ثمرات الانسجام بين الإيمان والأخلاق، وذلك نتيجة طبيعية؛ لأن الإنسان عندما يتصرَّف بمقتضى عقيدته يشعرُ بأنه إنسان خيِّر قويُّ الإرادة، يتغلب على نوازعه الشريرة وشهواته، ويرتفع بنفسه إلى ما يُرضِي ربه، هذا في الدنيا، فهو في كل عمل يعمله - سواء كان هذا العمل مع نفسه، أو مع ربه، أو مع الناس - يدرك أن الله معه، ويتذكر دائمًا أن الله مطَّلع عليه، يقول: (الله مطلع علي، الله يراني)، ويتذكر قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، رقابة من الله ومن الملائكة لحظة بلحظة، فهل يمكن أن يفكِّر أن يعصيه، أو يتمرد عليه وهو تحت رقابته؟ وإذا هو استطاع أن يفلت من عقوبة الدنيا ومحاكم الدنيا، فهل يمكنه أن يهرب من عقوبة الله في الآخرة؟ قال - تعالى -: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء:47].

    وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [إن الله ليُملِي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلِته]، والظلم درجاتٌ؛ ظلم المرء لنفسه بمعصية الله ومعصية رسوله، وظلمٌ لغيره من الناس، فأما ظلمه لنفسه، فإن الله يغفره له بالتوبة، أما ظلمه لغيره، فإن الله لا يغفره حتى تُرَدَّ الحقوق والمظالم إلى أصحابها، فإذا أيقن المؤمن ذلك، وعَرَف أن ذلك حق، وأنه لا يمكنه الهرب من الله إلا إليه، وأن عقوبة الآخرة أشدُّ وأعظم من عقوبة الدنيا، وتأكد عنده يقينًا أنه لن يُفلِتَ من العقوبة، فهل سيعصي الله، أو يخالف أوامره، أو يسرق مال غيره، أو يقتل غيره، أو يغش غيره، أو يقطع الطريق لنهب أموال غيره، أو يستولي على أرض غيره بدون وجه حق، أو يغتاب غيره، وغيرها من الذنوب والمعاصي؟!

    وإذا تفحَّصنا العلاقاتِ الاجتماعيةَ في حياتنا المعاصرة نجد أن الاضطراب في السلوك هو الظاهرة السائدة، وأن الابتعاد عن الاستقامة مما تَعِجُّ به أكثرُ المجتمعات الحديثة، فتجعل الإنسان في حيرة من نفسه، غير راضٍ عما هو عليه حتى لو توفرت له جميعُ احتياجات الحياة وملذاتها، فهو بدون عقيدة الإيمان الصحيحة في قلق دائم، قال - تعالى -: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}[طه:124-127].

    فسوء الخُلق دليل على ضعف الإيمان؛ ولذلك فقد ربط الإسلام بين الإيمان والسلوك ربطًا قويًّا، ونلاحظ ذلك في نصوص كثيرة مثبتة في الكتاب والسنة، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: [مَن كان يُؤمِنُ بالله واليوم الآخر فليُكرِمْ ضيفه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَقُلْ خيرًا أو ليصمت]؛ رواه البخاري، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: [أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنُهم أخلاقًا]؛ رواه الترمذي وأبو داود، وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحشًا ولا متفحِّشًا، وكان يقول: [إن من خياركم أحسنَكم أخلاقًا]؛ رواه البخاري.

    إن قرن أو ربط الإيمان بحُسن الخلق والسلوك الرفيع، أمرٌ يَلفِتُ النظر، إلا أن كثيرًا من المسلمين يهملون هذا الجانب في أيامنا هذه مع الأسف الشديد، فبينما كان المسلمون الأوائل إذا سمعوا آية فيها تكليف سارعوا إلى تطبيقه، وإذا نزل تحريم لأمر انتهوا عند ذلك؛ من صدق الإيمان وصلابة العقيدة في أنفسهم، وإذا أمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشيء نفذوه، وإذا نهاهم عن شيء انتهوا عنه، والحقيقة أن دعوى الإيمان شيء، والإيمان الحقيقي شيءٌ آخر؛ إذ إن للإيمان حقيقة، وكل حقيقة لها علامة، وعلامة الإيمان العملُ به، وإذا دخل الإيمان القلوبَ واستقر فيها، نبضت بالحيوية، ودفعت النفوس إلى العمل بموجبها.
    أحمد الشيباني...
    إسلام ويب...






                  

العنوان الكاتب Date
مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشباب... سيف اليزل برعي البدوي07-08-20, 11:52 AM
  Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� عزالدين عباس الفحل07-08-20, 12:03 PM
  Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� عزالدين عباس الفحل07-08-20, 12:05 PM
    Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي07-09-20, 12:13 PM
      Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي07-10-20, 10:42 AM
        Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي07-11-20, 12:23 PM
          Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي07-13-20, 12:32 PM
            Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي07-14-20, 03:42 PM
              Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي07-15-20, 01:05 PM
                Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي07-16-20, 01:46 PM
                  Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي07-17-20, 12:47 PM
                    Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي07-18-20, 03:53 PM
                      Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي07-19-20, 02:58 PM
                        Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي07-20-20, 05:18 PM
                          Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي07-21-20, 03:01 PM
                            Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي07-23-20, 00:52 AM
                              Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي07-24-20, 01:11 AM
                                Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي07-25-20, 01:58 AM
                                  Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-01-20, 01:41 AM
                                    Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-01-20, 12:20 PM
                                      Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-03-20, 03:17 PM
                                        Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-04-20, 02:10 PM
                                          Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-05-20, 02:06 PM
                                            Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-06-20, 02:56 PM
                                              Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-07-20, 12:27 PM
                                                Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-08-20, 01:04 PM
                                                  Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-09-20, 01:12 PM
                                                    Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-10-20, 01:07 PM
                                                      Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-11-20, 03:28 PM
                                                        Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-12-20, 05:15 PM
                                                          Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-13-20, 01:28 PM
                                                            Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-14-20, 01:58 PM
                                                              Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-15-20, 12:34 PM
                                                                Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-16-20, 02:47 PM
                                                                  Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-18-20, 11:36 AM
                                                                    Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-20-20, 01:39 AM
                                                                      Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-22-20, 00:20 AM
                                                                        Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-23-20, 11:50 AM
                                                                          Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-27-20, 03:28 AM
                                                                            Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-28-20, 02:22 AM
                                                                              Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-28-20, 10:21 PM
                                                                                Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-30-20, 04:49 PM
                                                                                  Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي08-31-20, 11:16 PM
                                                                                    Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي09-02-20, 00:30 AM
                                                                                      Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي09-03-20, 06:00 PM
                                                                                        Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي09-05-20, 02:42 PM
                                                                                          Re: مقالات مفيدة تهم المجتمع و الأسرة و الشبا� سيف اليزل برعي البدوي09-28-20, 02:15 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de