الزار في السودان ..

Quote: على عبدالقيوم السينمائى والشاعر ( 1 ) *عبد الرحمن نجدي* سأكون حيث عشت حياتى متوازن الذات أمام الطارئات لأواجه الليل والعواصف ، والجوع والسخف ، والحوادث والإخفاقات ، كما تفعل الأشجار والحيوانات ( والت وايتمان ) ( 2 ) نسافر كالناس ، لكننا لا نعود إلي شيء ، كأن السفر.. طريق الٌغيوم ، دفنا أحبتنا في ظلال الغٌيوم وبين جذوع الشجر ، وقلنا لزوجاتنا لدن منا مئات السنين لنكمل هذا الرحيل ، إلي ساعة من بلاد ، ومتر من مستحيل ، لنا بلد من كلام .. تكلم.. تكلم لأسند دربي علي حجر من حجر ، لنا بلد من كلام تكلم .. تكلم ، لنعرف حد السفر ( محمود درويش ) لم تكن السينما فى السودان بالنسبة للكثيرين منا أكثر من حُلم ، جاء وقت كاد بعضنا أن يصدقه ، ولكن سرعان ما انطفأت الديمقراطية لتطفئه معها ، آخرون كانوا أكثر واقعية فاعتبروه عالما بلا ملامح أو - على الأقل - لا يمكن التعرف على ملامح خصوصية له ، ففضلوا الابتعاد أو الهجرة إلى بلاد الله الواسعة ، وقليلون انسحبوا (قرفا) ومن هؤلاء كان الشاعر والسينمائى على عبدالقيـوم ( 1943 – 1998 ) والذين يعرفون ( علي ) يدركون مغزى هذا الكلام ، فهو لم يستطع أن ينسجم مع ذلك الجو الخانق الذى كان يسود الحياة الثقافية والفكرية فى حقبة الثمانينات ففضل الرحيل إلي عوالم أكثر أريحية تحترم كرامة الإنسان وحقه في الحرية رغم أن بقاءه فى السودان لم يتواصل لأكثر من ثلاثة أعوام سعي فيها لوضع بصمته كسينمائى سودانى بعد سنوات مضنية قضاها فى دراسة فنون وعلوم السينما في بولندا ، فحقق فيلمه القصير ( اربعة أيام في جزيرة سعاد ) - 16 مم 26 دقيقة ، والذى صور فيه تجربة الزار فى السودان . ( فى هذا الفيلم تتحرك الكاميرا وسط عالم من المهمشين والمخدوعين ، يقاومون بشدة ظروف حياتهم البائسة وكأنهم ضحايا سفينة تغرق وسط إيقاعات الزار المجنونة لتتحول تلك الايقاعات إلى مناخ درامى تتحقق فيه وحدة الجو النفسى ، المكان هنا مجرد من أية هوية ، وأنماط من بشر لا يجمعهم سوى الوهم المشترك ، يتحركون بديناميكية داخلية عنيفة مليئة بشجون خفية ، الصورة الإجمالية التي نخرج بها من الفيلم أقرب إلي التجريد رغم تقليدية السرد وتعبر عن إنسانية ضائعة ، وقد شارك الفيلم فى مهرجان ( وقادوقو ) ببوركينا فاسو عام 1982م . عاش على عبدالقيوم حياته متنقلا ، لم تكن حريته تلك أكثر من شبح يطوف به العالم متحرراً من أى قيود ، فقيرا بصورة شبه دائمة ، وكان يمتلك وراء مظهره المكتئب روحا متمردة ومتماسكة ، وميلا واضحا للدعابة وكرما لا تخطئه العين . ولد علي عبدالقيوم فى عام 1943 م ، وهو شاعر معروف ، وكاتب ، متمرد ، وثوري حتى النخاع ، كان من مؤسسى حركة المسرح الجامعى في ستينات القرن الماضي ، واحد رواد الجيل الثاني في السينما السودانية ، نشأ في السنوات الأولي للاستقلال وأرتبط بأحلام تلك الحقبة وتوهجها كما عاني من انكساراتها ، وعاش معظم فترات حياته المهنية في بلاد غريبة عنه ، وبعيدة عن السودان الذي عشقه وكتب عنه العديد من أشعاره ، درس بكلية الآداب بجامعة الخرطوم وتخرج منها عام 1970 ،وذهب إلي أكاديمية الدولة العليا للسينما ( لودز ) في بولندا وتخرج منها عام 1978 ، عمل بالترجمة وكتب تمثيلية للإذاعة بعنوان ( عشرون عاما علي محاكمة صديق ) بثت عام 1970 ، بدأ النشر منذ عام 1964 م ومثل السودان كمندوب عن اتحاد الأدباء والفنانين السودانيين بمؤتمر الكتاب الآسيويين والأفارقة فى نيودلهى عام 1970 ، كما مثل السودان أيضا في لجنة الثقافة السينمائية المنعقدة بالكويت بإشراف لجنة التخطيط الشامل للثقافة العربية التابعة لمنظمة الإيسسكو ، بدأ حياته العملية متأخرا بالعمل رئيسا لوحدة الإنتاج بمؤسسة الدولة للسينما فى الفترة من ( 81-1983) حقق فيها فيلمه القصير ( اربعة أيام فى جزيرة سعاد ) وأشرف وساهم فى انتاج عشرة أفلام دعائية لشركة بيطار المحدودة بالخرطوم نفذتها مؤسسة الدولة للسينما وعرضت في التلفزيون القومي ، كما أشرف على تدريب كوادر سينمائية فى الدورة التى نظمتها المؤسسة مع ( الأوديكام ) الفرنسية ، خلال تلك الفترة تعاون مع شُعبة الإعلام بمعهد الدراسات الإضافية بجامعة الخرطوم ، وأشرف على بحوث مجموعة من الطلاب ، كما قام بتدريس تاريخ نظرية السينما ومادة النقد التطبيقى بالمعهد العالى للموسيقى والمسرح . هاجر إلي دولة الكويت فى مطلع عام 1984 للعمل فى وظيفة باحث ثقافى بالمجلس الوطنى للثقافة والفنون ثم مترجما بمعهد الكويت للأبحاث العلمية ورئيسا لقسم الإعلام والمعلومات فى الفترة من ( 86-1990 م) وهناك كتب السيناريو الخاص بالفيلم الوثائقى الإعلامى ( معهد الكويت للأبحاث العلمية - 30 دقيقة ) بعد حرب الخليج أنتقل لمدينة الدوحة وعمل موظفا في منظمة الخليج للاستشارات الصناعية ، وفى عام 1997 م غادر لقبرص ثم بولندا لتكون محطته الأخيرة - كما خطط لها - ليعود بعدها للسودان حيث مثواه الاخير رحم الله على عبدالقيوم الذى زاملته عندما ضمَنا مكتب واحد بمؤسسة الدولة للسينما في مطلع حقبة ثمانينات القرن الماضي ، كما جاورته فى مدينة الدوحة ردحا من الزمن . نسأل الله أن يتقبله قبولا حسنا ، وأن يرحمه رحمة واسعة ، عبدالرحمن نجدي