♧ من روائعِ (قِلَّة) أدبِ عمِّنا الطيب صالح £

▪أصبحت أُشجِّعها على الكتابة والقراءة، اشتريت لها الكتب،
أهديتها من كتبي، واصلت دراستها وتخرَّجت، أخذتها من يدها
إلى رؤساء تحرير الصحف والمجلات. هذه الفتاة اليوم في الرابعة
والثلاثين من عمرها، أصبحت صحفية معروفة ، أتتبع كتاباتها وأشعر
بالفرح، كمن يرى الشجرة الفارعة تنمو من فسيلةٍ ذابلةٍ غرسها في تربة
طيبةٍ. و أنا في منفاي الاختياري خارج حدود الوطن ، أرسلت إليَّ بالبريد
رسالة مطولة تثني فيها عليَّ بكل امتنان و عرفانو تناشدنى بالله العودة
إلى أحضان الوطن لكون المنفى نوع من الموت البطيء و تذكرني بأن ستة
عشر عامًا مضت منذ التقينا، كان يمكن أن تكون جثةً هامدةً تغرق فلا
تتنفس تحت الماء، يوم أخذتُ بيدها و سِرت بي إلى الحياة لتفتح
عينيها على أشياء لم تكن تدركها والآن تكتبها وتُعطيها أسماءً.

▪لقظ هدأ روعُها ، ذكرباتها القديمة و هواجسها الأليمة باتت
شيئاً من الماضي ، أثراً بعد عين رضا كليلةٍ عن كل عيبٍ ،بعد إذ
كانت مرعبةً دفينةً رهينة محبسين في سراديب عقلها الطفولي
البريء و الآن قد تبدل اليأس «أملاً» براقاً ، و أحزانها القديمة
أصبحت ثروةً أدبيةً ضخمةً و مادة دثمة لسرد ركام من ذكريات
تنقع بما الذهب و مدعاة للتلذذ بطعم المعاناة بعد زوالها.

▪كلما قرأت لها شعرت بالحنين يغمرني، كما يتوق ثدي الناقة
إلى فصيلها، و كحنبن النبع إلى حاملات الجرار يرضع الطفل من
ثدي أمه و بعد أن يشبع يلفظ الحلمة من فمه أو يعضها. تفتح الأم
فم الطفل لترى أسنانه اللبنية، تطلق زغرودة الفرح، وألم العضة
في صدرها، وهكذا ظلت «أمل» الطفلة تعض أمها وتحب عمها.

▪في هكذا حالاتٍ قد لا يكون الشفاء كاملًا، قد تحدث انتكاسة،
تتكرر التجربة، ويتحول عمها إلى رئيسها في العمل، وهذا أمر شائع
بين الرجال إذ ينجذب أحدهم لدى أزمة ما منتصف عمره إلى أطفاله
الإناث يعود الكهل صبياً مراهقاً في عمر أحفاده ، و قد تميل بعض
الصغيرات إلى الكهول ؛ و حطام الذكرى سيُبعث حياً.