|
Re: دَرْبْ التُرُكْ (Re: كمال حسن)
|
كنت أعلم مدى حب الشوره بت العوض (للتُمباك) المجلوب من دكان (الفَكِي) في سوق (مَرَوِي)، ولأنني كنت قد عزمت على زيارتها صباح ذلك اليوم، فإنني إغتنمت سانحة وجودي في سوق (مَرَوِي) واشتريت لها منه كيسا كبيرا يغنيها إسبوعاً كاملاً عن التمباك الذي يُشتَرى لها من دكان (الأزرق) بالأركي. كانت الشوره بت العوض عندما دخلت عليها غرفتها الصغيرة تلك، في نفس ذلك الوضع الذي وجدتها عليه مرات ومرات من قبل، وسأجدها عليه ـ فيما بعد ـ كذلك، ترقد على عنقريبها الصغير، مغطاة بالفرده التي بهت لونها وصار مائلاً للصفرة، يظهر منها وجهها ويداها، تحمل في اليمنى سبحة ذات حبات خضراء، وتنقض بالأخرى إحدى (ضفيرتي) شعرها الأبيض والذي تتخلله شعيرات سوداء. على عكس بت ود الشريف كانت الشوره شديدة بياض البشرة، حتى أنك تكاد ترى دمائها بلون أخضر قاتم، من خلال بشرتها الملتصقة بعظام يديها الدقيقتين. كانت عيناها نصف مغلقتين عندما دخلت الغرفة، تردّدتُ للحظة صغيرة معتقداً بأنها نائمة… هممت بالخروج ... سمعتها - منو؟الماحي ؟ كان الماحي هو إبن أختها الذي يعمل معلماً بمدرسة (مَرَوِي) الثانوية، وكان يأتي لزيارتها كل ما سنح له ذلك. - هاشم … هاشم ود المحجوب، إزيّك يمّه الشوره بقدر ما كان محبوب لي أن أناديها كذلك، كانت هي الأخرى أكثر ما تحب أن تُنادى بأمي الشوره، فهي لم تلد - وكما تحكي لي حبوبتي - أن عريسها الطاهر في ليلة زفافهما نزل هو وأصدقائه إلى (البحر) ، وكما يحكي الناس أنه بعد أن خرج وارتدى جلبابه، سمع أعز أصدقائه (علي التمساح) يستنجد به، لم يجد متسعاً لخلع جلبابه، وجدهما الناس فيما بعد متعانقين، وتم دفنهما كذلك. - هاشم ؟ هاشم الحنين ود الحنينة ؟ تعال قرّب يا ولدي إنحنيت عليها، قبلتني، رائحتها، رائحة غرفتها، رائحة زمن قديم، جميل بقدر ما سمعنا عنه، عشنا معالمه من خلال ما رواه لنا الكبار، كانت هناك تفاصيل يؤكد الكبار أنها إندثرت قبل ولادة أُمّي، إلا أنني ومن كثرة ما سمعتها إنحفرت داخل مخيلتي، صرت أراها رأي العين، ثم أسهب في وصفها لهؤلاء الكبار،يندهشون، كان الماحي يصفني بالعائد من الزمن القديم. لذلك كنت كلما تنسمت هذه الرائحة التي تملأ غرفة أمي الشوره، كلما ملأت رئتي عن آخرهما منها، وأطلقت نفسي في تعاريج تلك الأزمنة القديمة - أمك النعمه كيفنها كانت الوحيدة التي تذكرني بإسم حبوبتي. - بي خير وبتسلم عليك … وديتها مروي لي بتها الزينه، قالت طولّتْ منها …أمّي الشوره ( قلتها وأنا أمد لها يدي وعليها التمباك) جبتو ليك من مروي معاي. - عافيه منك وراضيه عليك يا ولدي، إنت والماحي إياكم ولادي، ربنا يخليكم لي. كانت أمي الشوره كثيراً ما جاءها أهل الأركي، يطلبون دعواتها وبركتها، وكثير ما تداووا بفضل قراءتها لآيات من القرآن، ثم تتفل على يدها وتضعها على موضع الألم. كانت تقوم بذلك رغماً عن أنها لم تكن تحفظ كثيراً من القرآن..بل كانت في بعض الأحايين تخلط بين آيات القرآن وبين دعاء قديم قد سمعته بدورها من حبوبتها .. تتلوه كما تتلو آيات القرآن، حتى أنني عندما كنت صغيرا كنت أعتقد جازما بأنه قرآن وقد حفظته على ذلك الأساس… ( آية الكُرسي تمشي وتكسِي .. البعيد يِكْسَى والقريب يِكْسَى لا إيدًا تِتمدَّ لا كُرَاعًا تِتعدَّ … لا جانْ ولا إنسَ ). لم تكن أمي الشوره كثيرة التثاؤب بل أنني نادرا ما كنت أراها تتثاءب ، لكن أغرب ما في الأمر أنها كانت أثناء ذلك الدعاء تتملّكها نوبة تثاؤب لم أجد لها أي تفسير علمي ،غير أن هناك تفسير منطقي أكيد وهو رغبتي المتنامية للتثاؤب في هذه اللحظات بالذات.
|
|
|
|
|
|
|
|
|