العزاء للاستاذ ابوبكر القاضي

Quote: السودانيون‚‚ وثقافة الود الذي لا يفسده الاختلاف! الاختلاف لا يفسد للود قضية‚ تلك مقولة شائعة (لفظيا)‚ غير انني اكاد أجزم بأنها ليست شائعة (على الارض) بين كل الاجناس الا بين السودانيين‚ المجتمع السوداني لا يزال مجتمعا قبليا وما بين القوسين هنا‚ لا اعني بها (القبلية) في معنى عصبيتها الضيقة‚ وانما اعني بها ذلك الوجه الآخر الذي فيه ذلكم التراحم والتوادد البديع‚ كل أجنبي حتى (الخواجات) الذين خبروا المجتمع السوداني خبروا فيه ان الاختلافات السياسية لم تفسد يوما بين اي اثنين (قضية الود) تلك التي تتعدى الود الذي يمكن ان ينشأ (شخصيا) بين اي اثنين‚ الى ذلك الود الذي ينشأ (تلقائيا) بين اي سودانيين فقط لانهما سودانيان!؟ أنتم شعب‚ غريب‚ تلك جُملة ترددت وتردد على لسان كل اجنبي رأى في السودانيين ما لم يره حتى بين (ناسه) هو‚‚ وما يمكن أن يراه مثلا ان يلتقي أي اثنين مختلفين سياسيا‚ في الافراح أو الاتراح‚ يتقاسمان الضحكة‚ أو الدمعة‚ تلك حقيقة‚ فأنت في أفراح الشيوعي‚ وأتراحه يمكن ان تلقى الاسلامي المتشدد‚ والعكس صحيح‚‚ كما يمكن ان تجد في افراح من هو في طائفة الانصار‚‚ وفي أتراحه‚ مَنْ هو من طائفة الختمية‚‚ ويمكن ان ترى بين كل أولئك‚ مَنْ هو من حزب البشير أو الترابي‚ ومن هو من حركة قرنق‚ ومن هو من «متمردي» الشرق أو دارفور‚ أو جبال النوبة‚ ثقافة الاختلاف الذي لا يفسد للود قضية‚ ثقافة عميقة الجذور في السودان‚ وهي ثقافة البيت الواحد‚‚ ذلك البيت الذي يتوزع فيه أفراده بين مختلف الولاءات السياسية‚ والرياضية وحتى الولاءات الغنائية‚ ويجمعهم ــ في النهاية ــ هذا البيت الواحد‚ ويجمعهم «الصحن» الواحد‚هذه الثقافة المذهلة‚ العميقة الجذور‚ غرسها بين السودانيين الكبار بمختلف ألوانهم وألسنتهم واحزابهم‚ وطرقهم الدينية‚‚ وشب عليها السودانيون قاطبة‚ منذ أن شب السودانيون لأول مرة‚ في ذلك البلد المختلف جغرافيا وعرقيا ومناخيا وثقافيا‚ والممتد بمساحة المليون ميل مربع‚هذه الثقافة‚ في تقديري‚ هي التي حمت السودان حتى الآن‚ من مخاطر التشرذم المهلك‚ والتفتت‚ والانفصال‚ وهي الثقافة التي ستحميه ـ في ظني ـ من كل هذه الشرور‚ برغم أن من بين السودانيين‚ من حاول ولايزال يحاول لهذه الثقافة أن تندثر‚ وتموت! مناسبة هذا الحديث كله‚ مناسبة حزينة جدا: فقد الصديق المثير للاختلاف أبوبكر القاضي لزوجته الكريمة‚ وشقيقها‚ في حادث مأساوي قبل أيام‚ في أتراح‚ أبوبكر القاضي‚ احتشد جملة السودانيين أولئك الذين ينعتهم في كتاباته أبوبكر بـ «النخبة النيلية الاستعمارية المستعربة»‚ وأولئك الذين هم عنده المهشمون‚ ولا تهميش في السودان ـ بحسب كتابات القاضي ـ إلا الزرقة‚ أو الزنوج‚ أو «الحاميين» في شرق السودان! أنتم شعب غريب‚ تلك جملة‚ سمعتهما كثيرا‚ في يوم تشييع جملة السودانيين‚ للفقيدين‚ من غير السودانيين‚ أولئك الذين يتابعون مقالات القاضي في |‚ ومقالات «النيليين المستعربين الاستعماريين»! هذا هو السودان‚ الذي تعرفه‚ هذا ما كنت أقوله لأولئك‚ قبل أن أزيد وإذا لم نكن‚ نحن السودانيين‚ بهذه الغرابة‚ لكنتم قد سمعتم منذ وقت طويل بأكثر من سودان واحد! المجد للاختلاف‚ ذلك الذي لا يفسد للود قضية!