ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و البقية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 00:36 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2002م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-20-2003, 02:09 AM

Amjad ibrahim
<aAmjad ibrahim
تاريخ التسجيل: 12-24-2002
مجموع المشاركات: 2933

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال (Re: Amjad ibrahim)


    تكوين الهوية العربية الإسلامية في الشمال :
    السودان الشمالي الحالي هو موطن الثقافة النوبية التي ازدهرت لعدة آلاف من السنين قبل مولد المسيح، وهو موطن الممالك النوبية العظمى. وتقف الأهرامات حتى الآن في أرض النوبة، شاهدة علي عظمة الأمة النوبية. وفي القرن الثامن قبل الميلاد قامت المملكة النوبية باحتلال كل أرض مصر وفرضت سلطانها علي وادي النيل . وكانت مملكة النوبة لاعباً أساسيا في المسرح العالمي في العالم القديم، و أقامت الصلات مع عدة حضارات. وكما أوضح لويدس بنغاي "للسودان الشمالي حضارة قديمة مزدهرة، سابقة لحضارة مصر الفرعونية ولمجيء الإسلام. وكانت النوبة ذات علاقة مع كل حضارة ظهرت في مصر .. الإغريق .. الرومان .. العرب .. الأتراك والبريطانيين" .
    دخلت المسيحية إلي النوبة في القرن السادس، وحولتها إلى مملكة مسيحية، استمرت ألف عام. ومباشرة بعد ظهور الإسلام في القرن السابع، فتح المسلمون مصر، وطرقوا أبواب دنقلا عاصمة النوبة. ومع أن مقاومة النوبيين قد نجحت في إيقاف الزحف الإسلامي، إلا أنها لم تفلح في طرد العرب من الأراضي النوبية . وقد أدت حالة التوازن التي قامت بين الطرفين إلي الوصول إلي تسوية سياسية. وقد أبرمت معاهدة بين النوبيين والعرب عام 651 – 652 ميلادية، وتفسر هذه الاتفاقية تفسيرات مختلفة من قبل الكتاب المعاصرين. وبينما يراها بعض هؤلاء الكتاب في صالح العرب ، فإن آخرين يعتبرونها نصرا للنوبة . ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن مملكة النوبة حققت ما لم تحققه مملكة أخرى في الزمان القديم، وهو إيقاف الزحف الإسلامي الذي كان لا يقاوم. كان المسلمون يقسمون العالم إلي دار الإسلام ودار الحرب. ولما بقيت النوبة وحافظت علي سلامة أراضيها كان علي المسلمين أن يخلقوا فئة ثالثة، لا هي دار إسلام ولا دار حرب، فأطلقوا عليها دار العهد. ومع أن الاتفاقية ضمنت سيادة النوبة لمدة ألف سنة تقريبا، إلا أنها فتحت المجال للعرب ليدخلوا بحرية من أجل التجارة، مما دشن عملية الأسلمة والتعريب، التي قادت في نهاية المطاف إلي انهيار المملكة.
    ومع أن الهوية العربية الإسلامية يمكن إرجاعها إلي دخول العرب السودان، إلا أنها ظاهرة حديثة نسبيا. فالقرنان الرابع عشر والخامس عشر، يعتبران فترة تغيير في السودان النيلي. فالحركات الاجتماعية وخاصة تلك الخاصة بالعرب والفونج، مصحوبة بالتطورات الاقتصادية والثقافية الوافدة من الأقطار المجاورة ، وفرت ظروفا مواتية لعمليات الأسلمة والانتماء إلي العرب. فالرحالة الذين جاءوا إلي مملكة الفونج في الربع الأول من القرن السادس عشر، وصفوا تكوينات أثنية شبيهة بتلك التي نجدها في سودان اليوم. فقد وصفت قبائل الشايقية والجعليين والرباطاب باعتبارهم برابرة، أي نوبيين شماليين، من قبل غيليود الذي زار مملكة الفونج عام 1523 . وقد وجد غيليود أن سكان المملكة ينقسمون إلي ست فئات أثنية وكانت هذه الفئات من الوضوح والتمايز بحيث لم يكن هناك فرد واحد لا يعرف إلي أي منها ينتمي . خمس من هذه الفئات صنفت حسب لون البشرة، بشكل أساسي. كان لون الفونج هو "الأزرق". "كان لونهم لو النحاس". حسب غيليود .. وكان العبدلاب قريبين في ألوانها وملامحهم من الفونج، إذا أستثنينا شعورهم الملتفة، وكان لونهم أخضر، (أي نحاسي غامق إلي أسود). أما البرارة، أي الجعليين والرباطاب والشايقية والدناقلة، فوصفوا بأنهم "خاطف – لونين"، أي خلطة من لونين. يقول غيليود "أفراد هذه الفئة نصف صٌفر ونصف خٌضر .. وفصيلة الدم التي نغلب عليهم هي تلك التي نجدها عند الأثيوبيين" أما لون العرب فوصف بأنه "أصفر" أي "أبيض" وقد قال عنهم مايلي :
    "هؤلاء هم الأقل اختلاطا من حيث الألوان، أنهم ينتمون إلي العرب البدو الرحل. شعورهم مرسلة. ولا يختلطون مع الفئات الأخرى إلا فيما ندر. ويسهل التعرف عليهم، ليس فقط من ملامح وجوههم، بل من نقاء الطريقة التي ما زالوا يتحدثون بها اللغة العربية".
    والمدهش أنه تحدث كذلك عن "العبيد" الذين جلبوا إلي سنار من الجنوب والغرب "أي جبال النوبة" . هذا هو علي وجه التقريب التصنيف اللوني الموجود حاليا.ومن المحتمل أن الفارق الوحيد أن الجعليين والرباطاب والشايقية، كانوا ما يزالون في القرن السادس عشر، يتحدثون لغاتهم النوبية. وقد استمروا يتحدثونها حتى أوائل القرن التاسع عشر .
    هذه الظروف هي التي غرست مكونات الهوية الشمالية في تربة الشمال. هذه المكونات هي اللغة العربية، مزاعم الأصول العربية، الإسلام، وتراث الرق. فسكان هذا الجزء من السودان أظهروا تعلقا خاصا بالعرب. وتدل الشواهد علي أنهم انتهزوا كل فرصة عابرة، سواء كانت هذه رابطة بعيدة، متخيلة، أو حتى ملفقة، للتماهي مع العرب وتبني لغتهم. الفونج يزودوننا بمثال واضح لانقلاب الهوية، الذي ربما يلقي لنا الضوء علي عملية التماهي مع العرب. ففي بداية مملكتهم، كان الفونج وثنيين، من الناحية الدينية، وكانوا يتحدثون لغتهم الخاصة، والتي كانت هي اللغة لرسمية للمملكة حتى القرن الثامن عشر. وكانوا يسيرون العدالة في محاكمهم وفق تقاليدهم الخاصة. وقد اعتنق ملكهم الأول، عماره دنقس، الإسلام اسميا، من أجل أهداف سياسية . وبعد ثلاثة قر ون من ذلك التاريخ، أي خلال القرن الثامن عشر، أقيمت العدالة علي أساس الشرع الإسلامي، وصارت الوثائق الرسمية تحرر باللغة العربية، والتي أصبحت هي اللنغوافرانكا للدولة . ليس ذلك فحسب، بل أعلن بادي الثالث، ملك الفونج، رسميا في خطاب إلى رعيته، أنه وقومه "ينحدرون من العرب، ومن الأمويين علي وجه التحديد" وقد أ صدر ذلك المنشور ردا علي حملة من الإشاعات، صاحبت تمردا في الأقاليم الشمالية، يدمغهم بأنهم "وثنيين من النيل الأبيض". وقد أختتم المنشور، الذي أٌرسل إلي دنقلا، بالعبارة التالية :" وما دمتم قد رأيتم الحقائق فلتخرس الألسنة، وعسي أن يتوخى العبد عزيز فضيلة الحذر في أحاديثه المؤذية" . وكجزء من هذه الأحاديث المؤذية هي "اتهامه" للملك بأنه ليس من أصل عربي فمع زيادة قوة التجار العرب، وانتشار الطرق الصوفية، وتعاظم نفوذ العلماء، سعي الملوك إلي الإبقاء علي نفوذهم القضائي المتداعي بدراسة الشريعة الإسلامية، ليتحولوا إلي "علماء" لهم مكانتهم المستقلة. ويقول سبولدنج أن الطبقة الحاكمة الفونجية "انضمت إلي العائلات الأرثوذكسية للتجار في نشر مزاعم الأصول العربية " بل أنهم" اكتشفوا حقيقة كانت مجهولة حتى ذلك الوقت وهي أنهم أمويون" وهكذا فإن انقلاب الهوية الذي حدث في القرن السادس عشر لخدمة أهداف سياسية، قد أكتمل في القرن التاسع عشر. وكما قال ديفيد ليتين : "ما يعتبره هذا الجيل مسألة عملية محضة، يعتبره الجيل الذي يليه أمرا طبيعيا."
    وإذا كان ملوك الفونج قد صاروا عربا بأمر ملكي، فإن قبائل الشمال النيلي قد ضمنت هذا الأصل المرغوب، لأنفسها، بطرق أخري. فقد كان هؤلاء قادرين علي كتابة أشجار نسبهم الخاصة والتي "كان من المعروف عنها أنه يتم تقفيها، مع القفزات والفجوات، حتى الجزيرة العربية، وفي الحالات التي يكون فيها الأصل السوداني بارزا سياسيا أو دينيا، فأنما تنسب الأصول إلي النبي محمد، وقبيلته قريش؛ وذوي قرباه، وأصحابه الأقربين".
    ومن الواضح أنه بالنسبة للنوبيين، وللفونج بعدهم، لم يعد العالم مستقرا. فالهويات القديمة حامت حولها الشكوك، والناس لم يعد بإمكانهم أن يكونوا أنفسهم .الحوافز لإجراء انقلاب في الهوية كانت قوية وكثيرة. والشروط قد اكتملت. وكانت نتيجة ذلك أن نوعيْ التماهي اللذين تحدث عنهما شيلر قد حدثا في نفس الوقت، ونقصد بهما الايديوباثي و الهيتروباثي.ويمكن ملاحظة حدوث التماهي الأيديوباثي في المناطق التي تلاشت فيها اللغات المحلية، وتم تبني العربية بدلا عنها. كما يمكن ملاحظة التماهي الهتروباثي في المناطق التي صمدت فيها اللغات المحلية.

    الخواص الأكثر وضوحا للثقافة العربية الإسلامية :
    في الفصل الماضي حاولت الإجابة علي ذلك الجزء من السؤال الذي يقول : لماذا تماهى الشماليون مع العرب؟ أو بمعني آخر، ما هي دوافع انقلاب الهوية الذي حدث لهم؟ وأحاول في هذا الفصل أن أجيب علي الكيفية التي تم بها ذلك. أي بمعنى آخر، ما ا لذي يسّر للشماليين، بل لشعوب عديدة عبر العالم الإسلامي، أن تتعلق بالأصل العربي؟ اعتقد أن هناك ثلاث خواص بارزة للثقافة العربية الإسلامية جعلت من الميسور تماما، للأفراد والجماعات، إدعاء الأصول العربية دون أن تواجه بتحدٍ جدي ومعلن من قبل مركز الهوية العربية.
    الخاصية الأولي هي التركيبة الأبوية للقبائل العربية. في هذا النظام ينسب الأطفال لإبائهم، ولا تلعب المرأة دورا يذكر في النسب، وذلك لأنها "حرث" الرجل و"ماعونه". ويترتب علي هذا المفهوم الذي يجعل الزوجة مزرعة لزوجها، أنها وإن حملت بذوره، إلا أن الحصاد حصاده هو، وليس حصادها. وهكذا فإن أي اختلاط للدم العربي، بخط النسب النوبي، يضع حدا لكل الأنساب النوبية قبل هذا الاختلاط، ولا فرق إذا كان هذا الاختلاط حقيقيا، أو متخيلا أو مفتعلا. وهكذا، وبناء علي الاعتقاد الشعبي الشائع في الشمال، كان الجد الذي تحدرت منه المجموعات الجعلية الكبرى في الشمال : أي الشايقية، الرباطاب والجعليين أنفسهم، هو إبراهيم جعل. عن هذا الجد المشترك، تحولت أنساب هذه المجموعات النوبية إلي الجزيرة العربية (إلي قريش) وارتبطت بالعباس عم النبي. ولكن هذا الإدعاء، وبناء علي بحوث مؤرخ كبير ينتمي إلي نفس هذه المجموعة "يصعب إثباته" .
    الخاصية الأخرى للمجتمع العربي الأبوي، هي أن القبائل القوية تكون لها دائما مجموعات تابعة، مثل الحلفاء والمستجيرين والعبيد، وغيرها من أنواع الارتباط. النظام التراتبي للقبيلة يستوعب كل هذه المجموعات في فئات اجتماعية مصنفة تصنيفا دقيقا، ويسمح لها بالانتساب إلى القبيلة رغم أنها تعرف مكانها جيدا. ويمكن للفرد الذي ينتمي إلي هذه الفئات الدنيا، أن يصعد إلي مرتبة أعلي بناء علي فضائله، أو اعترافا بأبوته، أو كليهما، كما يوضح مثال عنترة. هذه الخاصية جعلت من السهل علي العرب قبول الانتساب الشمالي، مع وضع الشماليين في فئة أدني من نظامهم التراتبي.
    الخاصية الثانية هي مفهوم النقاء، أو الطهارة في الإسلام. فالطهارة مفهوم مركزي للإيمان، ومع أنه يمكن تحقيقه من خلال عملية محددة للتطهير ، إلا أنه أيضا هبة من الله للرسول وآل بيته. يقول القرآن : "أنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" . وهكذا، كلما كان المرء قريبا إلي قبيلة النبي كلما كان ذلك أفضل، والأفضل من كل ما عداه هو انحدار المرء مباشرة من فاطمة بنت النبي. ولكن مع ذلك فإن قطرة من الدم العربي تكفي لتطهيرك وذريتك. ويلاحظ المرء أن الثقافة الغربية تقوم علي مفهوم نقيض تماما في هذا الشأن، حيث تكفي قطرة دم واحدة من السود أن تلوثك وتجعلك أسودا، حتى ولو كان لونك غالب البياض.
    الخاصية الثالثة هي العلاقة بين الإسلام واللغة العربية. فحقيقة أن الإسلام نزل علي نبي عربي، وأن الذين نشروه هم العرب، وأن اللغة العربية هي لغة القرآن، كل هذه الحقائق جعلت العرب أفضل الأمم في عيون الشماليين، وجعلت اللغة العربية، ليس فقط أفضل اللغات، بل جعلتها لغة مقدسة. ومع أن غياب العربية لم يمنع غير المتحدثين بها في العالم العربي، مثل تركيا وإيران والباكستان وحتى في السودان، من ادعاء الأصول العربية، إلا أن تحدث العربية كلغة للأم قد ثبّت أسطورة الأصل العربي لدي بعض الشماليين، وأمدهم ببرهان يسمي "لسانُ عربيُ مبين."

    عملية مستمرة :
    ومع ذلك فإن تشكيل هوية عربية إسلامية في الشمال هو عملية مستمرة. فالأتراك دفعها إلي الأمام عملية التعريب، وجاءوا بالإسلام التقليدي المدرسي، وسيروا، مع العرب والأوربيين والشماليين، حملات الاسترقاق، في أراضي القبائل التي لم تستعرب، وخاصة في الجنوب وجبال النوبة. وجاءت الدولة المهدية، وحلت محل الدولة التركية المنهارة، عام 1885، ودفعت بدورها عمليات التعريب والأسلمة. ولم تكن الدولة المهدية مختلفة عن الأتراك فيما يتعلق بحملات الاسترقاق. وعندما أستعمر البريطانيون السودان عام 1898، وضعوا القبائل المستعربة فوق القبائل الأفريقية السوداء. وقد وصف عالم الأجناس ك. سيلجمان، الذي دعمته حكومة الخرطوم الاستعمارية لدراسة الجماعات السكانية بالسودان، وصف القبائل الجنوبية بأنها "متوحشة" وقد تعامل البريطانيون باحترام شديد مع مجموعات الشمال المستعربة، كما عبروا عن احترام عظيم لهويتهم العربية-الإسلامية، وشجعوها. وقد ركزت السياسات التعليمية، بصورة أساسية، علي المجموعات المسلمة، التي تتحدث العربية، من الشمال الأوسط النيلي وقد كان المستفيدون من هذه السياسات التعليمية، من بين هذه الجماعات، أبناء الأسر البارزة : أسرة المهدي، والخليفة، وأسر أمراء المهدية، والأسر العربية "الراقية" . وفي السنوات الأولي من القرن العشرين، بدأت النزعات الوطنية تنشأ وتزدهر وسط الأجيال الشابة المتعلمة لهذه الأسر. "وقد صاروا يفتشون عن "السودانوية" في القصائد العربية، والمقالات، والأشكال الأدبية الأخرى، وصاروا يمجدون اللغة العربية؛ والتراث العربي، والدين الإسلامي، باعتبارها القيم الجوهرية لهذه الوطنية." .
    ونسبة لوعيهم بالتاريخ الطويل لمصطلح "سوداني"، والمعاني السلبية العالقة به، فقد أعطوه معني مزدوجا. فعلي أحد المستويين بقي لفظ سوداني كما كان دائما، أي مرادفا لـ"عبد". وعلي مستوى آخر أستخدم اللفظ "كمجال للانتماء الوطني" أي أنهم تعاملوا معه كإطار خاوٍ، حاولوا أن يملئوه بصورتهم الذاتية. وهكذا أصبح مصطلح "سوداني"، علي هذا المستوى، "علامة علي الهوية الوطنية التي تخصص قيمة عظيمة للثقافة العربية الإسلامية." ولذلك ومن وجهة نظر الجماعات الاثنية الأخرى، أن تكون سودانيا علي هذا المستوي يعنى أن تكون شماليا. يعنى "محاكاة أسلوب" أكثر عروبة "للحياة" واعتناق "أسلوب للحياة ظهر تاريخيا علي ضفاف النيل" وقد اتضح فيما بعد أن هذا التعريف كان محدودا جدا، وضيق الأفق وينطوي علي كثير من المشكلات. فهو استبعادي من جهة، واستيعابي من جهة أخري. فأولئك الذين لا ينطبق عليهم التعريف الجديد للفظ "سوداني"، أما أن يبعدوا من المجال السياسي، ماديا (بالانفصال)، أو سياسيا (بالتهميش)، أو تتم إعادة صياغتهم ليلائموا اللفظ (أي يصيروا شماليين). وكما لاحظت هيذر شاركي عن حق "إذ فشل في الاعتراف بالمساهمات الثقافية للسكان غير العرب وغير المسلمين، فإن برنامجهم الوطني نفر مجموعات كثيرة، بدلا من جذبها وإغرائها، وخاصة في الجنوب. أن الحرب الأهلية، التي ظلت تشتعل علي فترات منذ 1955، هي الثمرة المرة لهذا النوع من الوطنية." والثمرة الأكثر مرارة لهذا التعريف هي الجبهة الإسلامية القومية، التي استولت علي السلطة عام 1989، وشرعت في إزاحة "الخلعاء" عن طريق القوة الغاشمة.

    الثقافة العربية واللون الأسود :
    يقول عبده بدوي في كتابه "الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي" ما يلي:
    "العرب يكرهون اللون الأسود، ويحبون اللون الأبيض. ويصفون كل شئ حسن (ماديا كان أو معنويا) بأنه أبيض. اللون الأبيض مصدر فخر للرجل، وخاصية جمالية بالنسبة للمرأة. البياض بالنسبة لهم علامة علي الشرف. ويمدح الرجل بأنه ابن امرأة بيضاء. والواقع انهم يفخرون بامتلاكهم النساء البيض كجوار لهم. ويطلقون علي الشعراء السود أغربة العرب، في تشبيه لهم بذلك الطائر البغيض الذي يعتبر سواده عادة علامة علي الشؤم."
    كراهية اللون الأسود نشأت من تجارب العرب مع الأفارقة. فالصورة النمطية للأفريقي الأسود، في الثقافة العربية أنه كريه الرائحة. ناقص جسدا وعقلا، ومنحرف عاطفيا. المثل العربي القائل : "الزنجي إذا جاع سرق، وإذا شبع زنا" يلخص هذه الصورة تلخيصا وافيا. وتمثل عبارة "يا ابن السوداء" قمة الإساءة التي يمكن أن توجه للرجل الأسود.

    قبل الإسلام :
    قبل الإسلام، لم يكن أبناء الرجل الأبيض من أم أفريقية يقبلون كأعضاء كاملي العضوية بالقبيلة، حتى ولو كانت القبيلة تعتمد عليهم في الحروب، كما توضح قصة عنترة، ويوضح بدوي كيف كان اللون الأسود عقبة كؤود أمام هؤلاء الشعراء. فدعوة أحدهم بالغراب كانت إساءة. يقول بدوي :
    "كانت هناك حساسية عالية بالألوان وسط الشعراء السود قبل الإسلام. وذلك لأنهم كانوا فئة مضطهدة وتعيسة. وكانوا يستبعدون، بقسوة أحيانا وبلطف أحيانا أخري، من دخول النسيج الاجتماعي للقبيلة. وهكذا عاشوا علي هامش المجتمع كفئة فقيرة وبائسة. ولم يكن يتم الاعتراف بهم إلا في ظروف الضرورة القصوى، كما نعرف من حياة عنترة. فبالرغم من أن هذا الشاعر كان حامي قبيلته، وكان صوتها الشعري السامق، إلا أن الطريقة التي ظلت تعامله بها قبيلته كانت تؤلمه وتثقل علي عقله. وقد علق به اسم "ابن السوداء" حتى عندما يكون عائدا من المعركة منتصرا"

    أثناء حياة النبي :
    مع أن الإسلام دعا لوحدة ومساواة بني البشر، رغم اختلاف ألسنتهم وألوانها "إن أشرفكم عند الله أتقاكم" إلا أن موقف العرب من السود لم يتغير أبدا. وقد قال النبي "لا فضل لعربي علي أعجمي أو لأبيض علي أسود، أو لأحمر علي أصفر، إلا بالتقوى". ولكن ذلك لم يمنع أباذر الغفاري، أحد صحابة النبي البارزين، من أن يدعو أخاه بلال بن رباح الصحابي الآخر الجليل ومؤذن الرسول، "بابن السوداء". وعندما سمع النبي بذلك وبّخ اباذر توبيخا شديدا حتى شعر أبوذر أن مجرد الاعتذار لبلال لا يكفي. ولذلك انطرح أبوذر أرضا، ووضع خده علي التراب، وطلب من بلال أن يطأ خده برجله، كعلامة علي التواضع والصغار .

    القرون الوسطي :
    وإذا كان ذلك هو الوضع إبان حياة النبي، الذي كان يدعو للمساواة بين المؤمنين، فمن الطبيعي أن مسلك العرب نحو السود سيسوء بعد وفاته. ويشير برنارد لويس إلى ذلك في الفقرة التالية:
    في الوقت الذي كان فيه الدعة الدينيون ينادون بالمساواة، وإن بعبارات غامضة، كانت حقائق الحياة تحكم بغير ذلك. فالتوجهات السائدة لم يكن يحددها الوعاظ ورواة التراث، بل كان يحددها المنتصرون ومالكو العبيد، الذين يمثلون النخبة الحاكمة في المجتمع الإسلامي. والاحتقار الذي كان يشعر به هؤلاء، تجاه العناصر غير العربية عموما، وتجاه السود علي وجه الخصوص، يتم التعبير عنه بآلاف الطرق، في الوثائق، والآداب والفنون التي وصلت إلينا من القرون الوسطى. هذه الآداب، وخاصة الشعبية منها، تصور (الرجل الأسود) في صور نمطية عدوانية : كشيطان في الأساطير، وكجنس متوحش في قصص الرحلات والمغامرات، أو كعبد كسول، غبي، كريه الرائحة، أبرص، في الحالات العادية. وشهادة الآداب أكدتها الفنون. ففي الرسومات واللوحات العربية والفارسية والتركية، كثيرا ما يظهر السوء، كشخصيات أسطورية شريرة في بعض الأحيان، أو كبدائيين يقومون بأعمال حقيرة، أو كمخصيين في القصور أو البيوت."
    ابن خلدون يرى أن السود معروفون بالهزل والطيش والعاطفية الزائدة وأنهم "يتصفون بالغباء أينما وجدوا". وهو يفسر هذا الغباء وحب الملذات بإرجاعه إلى "تمدد وشيوع الروح الحيوانية".
    أسطورة العهد القديم القائلة بأن السود هم أبناء حام، تبناها ووسعها بعض الكتاب العرب مثل ابن جرير . ولكن ابن خلدون لم يقبل هذه الحكمة السائدة في زمانه، بل حاول أن يتوصل إلي تفسير "علمي" لسواد الأفارقة يقوم علي حرارة الشمس .
    وفي وصفه لسكان خط الاستواء قال الدمشقي ما يلي:
    "خط الاستواء تسكنه أقوام من السود يمكن اعتبارها من الحيوانات المتوحشة. ألوان أجسادهم وشعورهم محروقة، وهم غير طبيعيين جسديا وروحيا. إن عقولهم تكاد تغلي من حرارة الشمس."
    ويسير ابن الفقيه الهمذاني على نفس المنوال. وقد اعتمد في رأيه علي نظرية يونانية جغرافية قديمة، تقسم الأرض إلى سبعة أقاليم عرضيه، حيث يمثل الإقليم الأول والسابع الحرارة الشديدة والبرودة الشديدة علي التوالي. ويفترض أن هذين النقيضين ينتجان متوحشين، بينما في الإقليم الأوسط، حيث اعتدال المناخ، يوجد الناس المتحضرون. وبالنسبة إليه فإن أهل العراق لهم "عقول راجحة، وعواطف حميدة، وطبيعة متزنة، وإنتاج غزير في كل الفنون، مع أطراف متناسبة متناسقة، ولون أسمر رقيق، هو أنسب الألوان وأصحها." ولكن الزنج الذين يسكنون الإقليم الأول وهم "مفرطون حتى درجة الاحتراق، ولذلك يجئ الطفل منهم أسودا، معتكراً، كريه الرائحة، ومفتول الشعر، بأطراف غير منسجمة، وعقول ناقصة وعواطف منحرفة." ويلاحظ جون هنويك أن تحيز الهمذاني ضد السلاف ينحصر في ألوانهم " البرصاء"، إلا أن عداءه للزنج يتخطى اللون ليصور "أجسادهم الشائهة"، "وعقولهم الضعيفة" و"روائحهم البخرة". وكان ابن خلدون يعتقد أن الأفارقة أقرب إلى الحيوانات منهم إلى البشر، وأنهم يأكلون لحوم البشر. فهو يقول : "خصائص شخصياتهم أقرب إلى الحيوانات البكماء .. أنهم يسكنون الكهوف، ويأكلون الأعشاب، ويعيشون في عزلة وحشية، ولا يجتمعون، ويأكلون بعضهم البعض."

    استجابات السود :
    في وجه هذه العداوة الصارخة، يمكن تصور نوعين من ردود الأفعال : المقاومة واستبطان الاحتقار. ففي الوقت الذي تصدي بعض السود لمواجهة هذه الآراء المتحيزة ضدهم، استسلم آخرون لمصيرهم التعيس، وصاروا يرون أنفسهم من خلال انعكاسها العربي. ولكن المقاومة نفسها أخذت طابعين : أحدهما رفض الصورة النمطية معلنا أن اللون الأسود هو اللون الجميل، والثاني قبل المرأى السائد بأنه قبيح، واعتذر عنه، وتغنى بالخصائص الإنسانية الأخلاقية. ويخبرنا عبده بدوي بما يلي :
    "نظر الشعراء إلى أنفسهم وإلى ذويهم كقوم مضطهدين، ومع أن هذا الشعور بالاضطهاد يختلف من قرن إلى قرن، ومن شاعر، إلا أن الرجل الأسود لم يتردد في أن يكون صوت احتجاج على الحياة من حوله وعلى مأساوية أوضاعه الشخصية. وسنرى فيما بعد (الشعراء السود) وهم ينفجرون في وجوه أولئك الذين يشيرون إلى سواد الوانهم، كما يشهد علي ذلك شعر "الشعراء الثلاثة الغاضبون" وهم الحيقطان، صنيج وعاكم (أوائل القرن الثامن). فبالنسبة لهؤلاء لم يكن يكفى أن يدافعوا عن أنفسهم فحسب. بل تراهم يفخرون بسواد ألوانهم، وبتاريخ قومهم السود والبلدان التي جاءوا منها، بل كانوا يهاجمون العرب بما كان هؤلاء يفخرون به.

    استبطان الاحتقار :
    المثال على استبطان الاحتقار هو نسيب الأكبر، الشاعر ذو الأصول النوبية. إن مسلكه شبيه بمسلك "أنكل توم" في الثقافة الغربية. فقد اختار ألا يواجه المجتمع بل يتواءم معه، ويقبل تحامله. وعندما تقدم ابنه لخطبة فتاة من عائلة مالكيه السابقين، والذين كانوا مستعدين للموافقة عليه، جاء نسيب وأمر بعض عبيده السود بجر ابنه من رجليه وضربه ضربا مبرحا. وقد ضرب العبيد ابنه ضربا شديدا. ثم رأى نسيب رجلا شابا من أصل نبيل، فقال لعم الفتاة "زوّج بنت أخيك لهذا الشاب وسأقوم أنا بدفع المهر." وهكذا لم يجد ابنه أهلا للزواج من فتاة نبيلة الأصل، بل ضربه ليعرف مكانه الصحيح. وتقول حكاية أخرى، أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، طلب من نسيب أن ينضم إلى ندمائه، ولكن الشاعر اعتذر بأنه أحط من أن يستحق هذا الشرف وقال للخليفة:
    "يا أمير المؤمنين، لونى اسود، وقامتي عوجاء، ووجهي دميم، ولست أهلا لهذا المكان".
    وتقول قصة أخري انه كان يلوذ بالخفاء. كان يحب أن يخفى سواده عن مستمعيه، عندما طلب منه أن يلقى شعره على بعض النساء، حتى لا يجرح شعورهن. وقال في ذلك: "دعوني أقرأ من وراء حجاب. لماذا يردن رؤيتي. لونى أسود، وشِعري أبيض. دعوهن يستمعن لي من وراء حجاب."
    ويعطينا عنترة، الشاعر الفارس، مثالا آخر على استبطان الاحتقار. فكان يظهر كراهية لأمه الأثيوبية، زبيبة، باعتبارها المسؤولة عن سواده. وكان يراها تجسيدا للقبح. وكان يدعوها الضبعة، ويشبه رجليها بساقي النعامة، وشعرها بالفلفل الأسود .









                  

العنوان الكاتب Date
ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و البقية Amjad ibrahim02-20-03, 02:02 AM
  Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال Amjad ibrahim02-20-03, 02:07 AM
  Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال Amjad ibrahim02-20-03, 02:09 AM
  Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال Amjad ibrahim02-20-03, 02:11 AM
  Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال Amjad ibrahim02-20-03, 02:13 AM
    Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال Abdel Aati02-20-03, 04:01 AM
  Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال Amjad ibrahim02-20-03, 05:00 PM
  Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال Amjad ibrahim02-22-03, 11:20 PM
  Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال Amjad ibrahim02-22-03, 11:31 PM
    Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال Arbab02-23-03, 00:49 AM
  Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال omdurmani02-23-03, 00:56 AM
  Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال altahir_202-23-03, 01:10 AM
  Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال Amjad ibrahim02-26-03, 01:00 AM
    Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال manubia02-26-03, 06:35 AM
      Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال Arbab02-26-03, 05:01 PM
  Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال Amjad ibrahim02-28-03, 00:31 AM
  Re: ازمة الهوية في شمال السودان وجهة نظر حق، عطبراوي و أ. سعاد ابراهيم و ال Amjad ibrahim06-17-03, 01:41 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de