(1) اللغة تصقل الأرواح وتغسلها لتضميد جراحها التي سبرت غورها دهشة الوجود الأول،فذلك الرهق الذي يتركه الهبوط الجماعي للأشياء يجعلها تسكن تحت جبل من الركود، مثخنة بجراح التساؤل،و بين الدهشة وزوالها خيط رقيق من الوقت المتحرك بتأني يساوي تمامًا حركة شوكة ساعة حائطية كبيرة تقفز بتكاسل من نقطة إلى أخرى لتتوج دقيقة كاملة الثواني ومن ثم تنكث عرشها طالبة تتويج جديد قبل أن يبلى تاجها بمقدار ثانية ، وفي نقطة ما من ذلك الخيط الرتيب يجلس الدواء, ولكن لحين وصول البشارة نظل نرى أن الأشياء كبيرة ًوعصية المنال، يلفها غشاء سميك من الجهل. كيف يرى الأطفال العالم قبل أن تطلق ألسنتهم ؟ ، هذا السؤال الجوهري سيظل عصي على الإجابة، لأن وعينا وُجد متزامنًا مع اللغة. ولكني أجزم بأن الوجود بلا لغة لا يعني سوى البؤس والضياع الأبدي.
واللغة كميزة يتفرد بها البشر في عالمنا المحسوس تظل علامةً فارقةً، ونقطةً تستحق الوقوف ، وقد كان الإنسان واعي بهذه الفضيلة للدرجة التي جعلت علماء الاجتماع يفسحون لها مساحةً في مجال أبحاثهم الضاج بالتفاصيل ؛ يقول أبن خلدون في مقدمته : (( ميَّز الله الإنسان عن سائر الحيوانات بالفكر،الذي جعله مبدأ كماله ونهاية فضله على الكائنات وشرفه. فالحيوانات تشعر بما هو خارج عن ذاتها، بما ركب الله فيها من الحواس الظاهرة: السمع والبصر والشم والذوق واللمس. ويزيد الإنسان من بينها أنه يدرك الخارج عن ذاته، الفكر الذي وراء حسه، وذلك بقوى جعلت له في بطون دماغه، ينتزع بها صور المحسوسات، ويجول بذهنه فيها 1 )) هنا يبرز ابن خلدون ميزة التفكر والتدبر والتي هي بفضل امتلاك الإنسان للغة.
تلبو ______________________________ * المقال منشور لصالح مجلة جيل جديد ومطبوع على كتابها ( في مديح اللغة) الصادر على شرف اليوم العالمي للغة العربية نوفمبر2016 (1) مقدمة ابن خالدون،ج3،ص108 التعديل لإضافة النجمة على العنوان
(عدل بواسطة Dahab Telbo on 12-24-2017, 11:21 PM) (عدل بواسطة Dahab Telbo on 12-24-2017, 11:24 PM)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة