قراءات فى إنتفاضة 6 أبريل.....دعوه للتوثيق والتحليل!!

Quote: خالد فضل * في أبريل 1985م، كان عمري 19 سنة و8 أشهر، وهو عمر الزهور عمر الغرام عمر المنى ـ كما غنى محمد وردي ـ عليك اضافة السنوات التالية لتعرف عمري الآن، فهو فوق الأربعين، عمر النبوة؟ أم عمر الحق في الترشح لرئاسة الجمهورية؟ أم عمر بداية العد التنازلي باعتبار متوسط الاعمار والأعمار بيد الله، فهأنذا أفقد خلال العامين الماضيين فقط مجموعة من الاصدقاء والأتراب وأبناء الجيل لهم الرحمة والغفران، وفي ذات الوقت ها هم أبناء جيلي على مستوى العالم يفوزون في الانتخابات الرئاسية مثل (أوباما) الذي لا تفصله عنّا سوى بضع سنوات.. والله غالب!!. * في ابريل 1985م، كنت غضّا، يتشكل لدى الوعي رويداً رويداً، لذلك في يناير من ذات العام كنت أتجاذب أطراف الحديث مع أحد الموظفين في (التعاون) بمنطقة 24 القرشي حيث كنت أجلس لامتحان الشهادة الثانوية (مكرراً) من منازلهم. وكان الحديث يدور حول اغتيال الاستاذ محمود محمد طه، لقد بدا لي محموداً مثالاً للتضحية والفداء والشجاعة والجسارة والقوة في الثبات على المبدأ، وتمنيت سراً، لو أنني كنت مثله، إن النموذج، هو ذلك الذي يتمنى أي فرد عادي ان يكونه.. ولذلك يمكنني الزعم باطمئنان أن محموداً كان وسيظل نموذجاً..!! * بيد أن من أهم خلاصات تلك الاشارات في اغتيال محمود, هي، ان نظام مايو قد انهار فعلياً، فهو مثل (قصة سيدنا سليمان عليه السلام ومنسأته المشهورة)، فقد كانت سطوة سيدنا سليمان عظيمة لدرجة انه ظل متوفياً دون ان يجرؤ أحد على لمسه أو معرفة تلك الحقيقة حتى جاءت الدودة فنقرت العصاة، فخرّ صريعاً.. ومع اختلاف نموذج مايو عن (سيدنا سليمان) بيد ان التشابه يظل قائماً في أن معاصري سيدنا سليمان ظلوا يتوهمون بأنه حيٌّ، وكذلك لدى السودانيين الذين كانوا يتوهمون ان نظام مايو حيّ. ان أي شخص يستغل سلطته لترهيب الآخرين، يعتبر في تقديري في عداد الأموات، فهو قد فقد عملياً أهم ما يميز البشر (العقل) ولا قيمة للعقل بدون (الحوار) وبناء الأفكار، وايجاد البدائل للصعوبات، فما أكثر من نظنهم أحياء الآن، وهم في الواقع قد استنفدوا مقدراتهم على الحياة.. فأصبحوا يدورون حول ذات الأفكار والممارسات التي ثبت عملياً خطلها وبوارها.. وكما يقولون.. ما أكثر العبر وما أقلّ الاعتبار..!!. * المهم، بالنسبة لفتى غض الاهاب، يتلامس وعيه مع بعض المفاهيم الحديثة كالمديمقراطية والحكم الرشيد وحقوق الانسان، ويلم إلماماً ببعض عناصر الثورة، كالانتفاضة الشعبية، والعصيان المدني، ويتعلم بعض أدواتها مثل التظاهرات، والتكوين النقابي، والمنشور السري،..الخ. كانت تلك الشهور بمثابة دروس جديدة واضافية ذات قيمة عالية في تحديد الخيارات لاحقاً بالانتماء فكرياً الى (مدرسة الديمقراطية وحقوق الانسان) كمفاهيم شاملة تندرج تحتهما تفاصيل كثيرة.. باتت معروفة لدى عامة الناس قبل خاصتهم.. ثم يذكر الفتى ضمن تأملاته هذه، انه كان شغفاً بعد ذلك بمتابعة تلاحق الأحداث، وكانت (رحلة الرفاهية) التي تنظمها رئاسة (الري) لمنسوبيها شهرياً فرصة لالتقاط الاخبار من أفواه العائدين من الخرطوم ضمن تلك الرحلة الشهيرة التي كان يعرفها العاملون في رئاسة الري ورئاسات مشروع الجزيرة، فقد كان أحد الموظفين الشباب من أبناء الجيران، وبعودته من الخرطوم كنا نتسقط خبر اشتعال التظاهرات في الخرطوم، وكان يضفي نوعاً من الدراما على وصفه للأحداث والوقائع، ثم يرسم لنا صوراً عن ألسنة الدخان المتصاعدة من اطارات السيارات المحترقة في شارع الكلاكلة حيث المخرج الوحيد للبصات المتجهة الى غرب الجزيرة.. لقد كانت امتحانات الشهادة السودانية تتزامن مع امتحان خيارات الشعب السوداني، فقد انتهت الامتحانات في الأول من أبريل تقريباً، لتدخل البلاد في اضراب شامل وتام في الرابع من ابريل وكان اليوم خميساً، وما أن حلّ السبت 6 أبريل 1985م، حتى كان السودانيون على موعد مع بيان مهم فترقبوه، فترقبناه ونحن يُفّع، نخرج الى تظاهرة ضد رمز السلطة المحلية (الضابط التنفيذي) وعندما كان سوار الدهب يتلو بيان انحياز الجيش للشعب، كانت جموعنا في تلك المدينة الريفية تحاصر مبنى المجلس البلدي وتهتف ضد (الجفري) ومن عجب، فقد أطلق علينا البوليس (الغاز المسيل للدموع).. رغم أن سوار الدهب كان قد أذاع انحياز الجيش للشعب، وكنا نعتبر أنفسنا ذلك الشعب الذي انحاز اليه الجيش بحق يومها.. لقد كانت ضريبتنا في ذلك اليوم.. سيل الدموع والجري لأقرب (زير) من أجل غسل العيون، وقد كان لصاحبكم تجربة سابقة مع هذا الغاز في ود مدني، إبان انتفاضتها الشهيرة في العام 1982م على خلفية مصرع أحد شهدائها الطلاب، وكنا حينها في حنتوب الثانوية، وصدف عودتي من أهلي وفي مروري بود مدني وجدت التظاهرات فاشتركت فيها، لقد كانت ساعة في سبيل قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان..!! * الآن، بعد الاربعين، استرجع ذكرى تلك الأيام العذبة، لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وحدثت وقائع ووقائع، بعضها مؤلم وبعضها مفرح، لقد رحل العديد من صناع أبريل الى دار الخلود، ورحل بعضهم الى الصف الآخر الذي يسجد من ثقل الأوزار كما في قول مظفر النواب!!، لقد كسب البعض من تلك الانتفاضة مكاسب حزبية ضيقة، فاستغلوا مناخ الحريات في نشر الوهم وتغييب الوعي والعمل على صدم الديمقراطية.. وعوضاً عن تطوير النظام السياسي الوليد والسعي لتقوية الديمقراطية سعى البعض لهدم المعبد، والاستحواذ على الغنائم.. لقد مهدت انتفاضة 6 أبريل لما تلاها دون شك، بل ان بعض اشارات التالي قد ظهرت جلياً منذ الأيام الأولى لنجاح الانتفاضة في ازالة سلطة مايو ونميري.. فقد ظلت قوانين (نميري) سائدة، وأصبح إلغاؤها أحد مزايدات السياسيين الحزبيين، حتى قيض الله للسودان (قرنق) والحركة الشعبية، التي تزعمت جبهة مقاومة آثار مايو، وقادت بجسارة خط الانتفاضة الأساسي، لتبلغ غاياتها في بناء سودان جديد موحد وديمقراطي ومحترم، وبالفعل تم استغلال اصرار الحركة على اكمال شوط الانتفاضة من جانب بعض السياسيين الذين يلتحفون بغطاء الاسلام، فعبأوا الناس عاطفياً ضد التغيير، وضد طموحاتهم وآمالهم.. ثم.. في لحظات حاسمة.. جثم الكابوس على صدر الوطن، وادلهمت لياليه ثانية.. وما تزال!!.