|
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر (Re: حسين أحمد حسين)
|
(8)
لم تكن الحرمُ معتلَّةَ الحواس، تتلذَّذُ بالفظاظةِ وغِلظةِ الطبعِ التى عند زوجِها، ولكنَّها كانتْ تريدُ أنْ تتأكَّدَ بأنَّ الحالَ الذى على الخزين، ليس مَسَّاً من الجنون، الذى يَتَغَشِّى من ينومون العصرياتِ الهالكةَ، والمغاربَ الحالكةَ بحسبِ مُعتقدِها. تريدُ أن تطمئنَّ بأنَّ ثمةَ ولادةٍ جديدةٍ لخزينٍ جديد، خزينٍ هيِّنٍ ليِّنٍ، سَهْل. خزين "برَّاحة" كما يحلو أنْ تقول الحرم.
باتتْ أُّمُّ بدرٍ ليلتَها تلك فى أحضانِ خزينٍ فى حالةِ انقلاب، فباتتْ بين الخوفِ والرجاء. ولكنَّها كانت ليلةً عظيمةً وحافلة. كانت ليلةَ قدرٍ بحق، خزينها رزين، وطيبٌ وحنين، حديثُهُ السُّلاف، يُعانقُ الشِّغاف. فقالتْ: يا حِليلكْ يا الخزينَ الخزين، حديثك "البَلَفْسَجِى" دا من زَمَنْ شهر العسل ما شُفناهُ إلاَّ اليلة. قالتْ ما قالتْ، ثمَّ نامتْ قريرةَ العينِ هانئة، راضيةً، قانعةً وحالمة.
فى حلقةِ قرآنِ الفجر، كان الخزين يسمعُ الآيات، وكأنَّها تَخُصُهُ لوحدِهِ دون خَلْقِ الله، كأنَّها قد نزلتْ عليهِ لِأَوَّلِ مرة. فكان يبكى ويتعجبُ القوم، ويضحكُ تارةً أُخرى ويزدادُ القومُ عجبا. وانتابته غضبةٌ مُضرية، حين قرأ أحدُهُم "قلْ للذين آمنوا يَغُضُّوا من أبصارِهِم ..."، واعتملتْ فى صدرِهِ، لم يُبدِّدها إلاَّ قولُ اللهِ تعالى على لسانِ أحد القراء حين قرأ، "من عفا وأصلحَ فأجرُهُ على الله ...". كان ذلك حالُهُ فى ذلك الصباح، فقد فعلتْ فيهِ آياتُ اللهِ الأفاعيل، كأنَّه فى مصارِعِ العاشقين.
عادَ إلى البيت، بعد أنْ غشِىَ الفُرْنَ وأحضرَ رغيفاً، ثمَّ دخلَ المطبخَ وأعدَّ شاياً باللَّبنِ المقنَّن، وأعدَّ معه لِقيمات "وَجَنَة فاطنة السمحة"، لِقيمات وجنة الحرم. حملَ الصينية بما بها مِمَّا أُعدَّ بِحُبٍ، إلى غرفة النوم. فوجدَ الحرمَ نؤوم الضحى، مازالتْ رافلة ومُضَّطجعة فى غلالةِ سحرِها الأُنثوى، كفتاةٍ فى صبيحة عُرسِها. وضعَ الخزين الصينيةَ على المنضدة، قَبَّلَ حرمَه المصون على جبينها، ثمَّ انسحبَ من الغرفةِ بهدوءٍ آخذاً معه الجلبابَ والعُمامة.
رَكِبَ الحافلة المتجهة إلى سوق اللَّفة. و سائقُ الحافلة كالفئة ذات الهيمنة، يفرضُ مِزاجَهُ وذائقتَهُ على كلِّ من يدخل تحت سقفِ عربتِهِ. لم يكن ليقف لكلِّ شخصٍ على جانبِ الطريق، فقد كان يتخيَّرُ رُكابَهُ. فالرِّجالُ خمسينيون يُعدون على أصابع اليد، والنساءُ على كثرتِهِنّ،َ كلُهُنَّ جميلاتٌ وممتلئات، وتعبقُ أجسادُهنَّ بالعطور البلدية. فقد كان الإشتهاءُ يتقدمُ تعاملَه مع كلِّ النِّساءِ اللائى ركبنَ معه. لقد صَنَّ آذانَ الجميعِ بماكينةِ عربتِهِ المتهالكة، وشريطِ كاسِت فى أعلى درجاتِ الصوت، ومحشوٌ بأغانى المشروعِ الحضارىِّ الرخيصة: راجلْ المرة حُلو حلا، دبِّلْ بَىْ والعسلْ ماليزيا، وهَلُمَّجرا.
قال أحد الركاب للسائق: واحد من إثنين، إمَّا أنْ نسمعَ المسجلَ، أو نسمع الماكينة! رد السائق: تسْمَعُنْ الإثنين يا بَلَدْ، وكان ما عجبك أنزل! تدخلتْ إمرأة، وَرَجَتْهُ أنْ يُشَغِّلَ إذاعة أُمدرمان كحلٍّ وسط. فردَّ قائلاً: "غالى والطلب رخيص". فتح إذاعة المشروع الحضارى فوجدها تُغنِّى هى الأُخرى، كعادتها خلال الأربعة وعشرين ساعة. فكان حظُّ السامعين هذه المرة، وعلى غير العادة، أنْ شَنَّفوا آذانهم بأُغنية من أغانى أُم درمان النادرة، وهى "أُمْ العُلما والعمَّال". فقد كان لها وقعها عند الركاب غير العاطلين عن العمل بالحافلة، وهم قلَّة، لا سيما ود قميحة. فقد ربطتْه من ثانِ بمُطاعنةِ ود معروف له، "إنتَ أظِنَّك من جماعة ود الشيخ"، فامتدَّتْ يدُهُ اليسرى لشاربِهِ، فمسحَ بإبهامِهِ وسبَّابَتِهِ طرفيهِ أسفلَ وَجنتيه، والتقيا مِراراً وتِكراراً عند شعر الذقن أسفل شفتِهِ السُّفلى، كمن يرسمُ خُطةً لهدفٍ بعيد.
حَطَّ ود قميحة عند تربيزةِ الخُضرجى ود عوض، حيث اعتاد أنْ يترك قفة الخضار عنده ريثما يشترى اللحمَ والتوابل ثمَّ يعود. سلَّم الخزين على ود عوض، فبادله التحية بودٍ مهبوشٍ، ولسانٍ ألثغ: أهلاً حبابْ ود قميحة، تَعالَى ومعك آخرون. فترجرجتِ الرَّاءُ فى فمِهِ كما تترجرجُ جُملةٌ مفيدة، لِمُتحدثٍ بفيهِ جُرعةُ ماء.
ففى أثناء سيرِهِ نحو الجزارة، مرَّ ود قميحة بمجموعةِ أطفالٍ يبيعون الليمون. وأمام أحدِهم أكوامٌ من ليمونٍ أخضرٍ يَسرُّ النَّاظرين، وقد إحتدَّ معه أحدُ المُهندمين، وهو يُخرجُ بطاقةً من جيبِهِ ويقول: معاكْ العقيد جعلى أمن عبد الله ود صراصِر! إنتَ عندك رخصة؟ لا، ماعندى. هل تدفع ضرائب للدولة؟ لا، ما قاعد أدفع ضرائب. كمان متهرِّبْ من الضرائب!! قوم معاىْ بى بُضاعْتَكْ. فقامَ الطفلُ وهو يحملُ معه بِضاعتَه، وتبِعَ صاحبَ الهِندام. قال ود قميحة فى سرِّهِ اللَّهُمَّ ارحم ضعفنا وضعف هؤلاء الأطفال، وحمد الله أنَّ ابنه مازال يتردد على المدرسة.
إشترى اللحمَ والتوابلَ، ولما عادَ وجدَ الطفلَ بائعَ الليمون قد رجع. فسأله ود قميحة: ماذا فعل الله بك؟ فأجابَ قائلاً: "تِلْتو ولا كَتِلْتو". فقال ود قميحة اللّهُمَّ أرحمْ ضعفنا، واستشاطتْ به الفاجعة. واسترسلَ الجمعُ يُنادى: كوم الليمون بى عَشَرَة، أىُّ حاجة بى عشرة، الصبَّارة بى عشرة، البندورة بى عشرة، المكرونة بى عشرة، المعجون جنيه واحد، والسوق الحضارى يَعُجُّ بِأطفالٍ قُصَّرٍ دون العَاشِرَة، يتغنون بِبِضاعةٍ مُزجاةٍ، يُحولون فيها "السلعةَ إلى نَعْتٍ للسِّعْر".
عاد ود قميحة إلى أهلِهِ، ورأسُهُ يضجُّ بالأسئلةِ اللاَّسِعة، لسعُ الفقر، لسعُ الحُكومة، ولَسعُ ذوى الوجعة: جايى مُتأخر وكمان داير يفتحو ليك الباب يا حيوان أجب، يا لكم قسونا عليك يا بَدُر يا حبيبى، بالبيت والشارع والمدرسة. متى تعود يا حبيبى، متى تعود، حتى أُكفِّر لك عن ذنبى وأُعوِّضك العطفَ والحنان؟
يتبع ...
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-02-17, 10:23 AM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-02-17, 10:23 PM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-02-17, 11:02 PM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-03-17, 00:13 AM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-03-17, 10:27 PM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-03-17, 10:44 PM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-03-17, 11:03 PM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | صباح حسين طه | 05-04-17, 00:36 AM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-04-17, 11:09 AM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-04-17, 11:21 AM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-04-17, 12:48 PM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-04-17, 09:06 PM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-07-17, 11:44 AM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-09-17, 09:15 PM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-11-17, 09:51 PM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-13-17, 06:30 AM |
Re: أصـــــــابع بَــــــــــدُر | حسين أحمد حسين | 05-13-17, 09:35 PM |
|
|
|