من احتكر الحكم احتكر المبادىء، وكتب بقلمه ما تراءى له أن يكتب. ومما كتب أن جعل للخدمة الوطنية حدًّا لا نجاة منه إلا لمن بلغ لجج الشيخوخة، ومن ألم به داء عضال. وتحت فهم جبريتها ومع حلاوة النصر ومرارة الهزيمة تتزايد شراهتها فيُظن إبان الحروب الأهلية أنها قد تحمل الناس عنوة إلى بأس مُعتَذَرعنه، فيتحايل عليها بعض الذين تنطبق عليهم مضطرين لأسباب أقوى منها لا جحدًا لواجبها، ولوأيقنوا بها لقتال عدوٍّ لتسابقوا إلى مقدمة الصفوف. وربما فُطِروا مؤمنين بالتسامح والتعايش بين أهل بلادهم، وعلى رأي مخالف لرأي طالبيهم لأدائها وإن لم يُصرَّح به مخافة التخوين وإيثارًا للسكوت بزمن فتنة خفت صوت الحكمة فيها فأصبح غريبًا وتلهَّت عنه الترجمة. وفي أجواء أعراس الشهداء نأى من لا يرغب أن يكون المحتفى به ولا أن يكون من الحضور لذلك العرس وحفله ولا الاقتراب من خيمته. وظل كذلك إلا حين طوت به الحافلة شارع العرضة وتوقفت مأمورة عند ود البشيربمشارف أم بدة بالقرب من خيمة أخرى منصوبة على الأرض بأوتاد متينة، موثوقة بحبال غليظة كسفينة راسية. فصعد من المعترضين ذو ضالة تقاذف من عينيه الغضب وهو مستعل بثقافة الأمر يتطاول على درج السلطة، يمشي مشية بهامة نسر لم يهبط على كتفه. والأنفاس مكتومة حتى من كبار السن فالمرء في هذا الزمان لا يأمن على نفسه من الغوائل. حدج بالركاب والنساء ينظرن ببهت وصاح منتهرًا : - انزل، انزل. نزل شاب في ريعان العمر كمسمار نُزِع من الخشب نزعًا فالتوى. ودعا ثانية في وجه ثانٍ : - وأنت، قم، انزل. نزل الثاني على صمت دس كلامًا لا يعلم حدته إلا الله. ومس القلب المتمرد طائف وسواس، وما انفك يقرأ خاشعًا ما تيسرمن الذكر الحكيم لئلا ينكشف أمره إن تحركت شفتاه. قُبِض ثلاثة ممن كانوا على متنها وهم لا يعرفون إلى أين سيؤخذون، فهمهمت إمرأة بقولها: - لكن أمهاتهم لم يسمعن بما حدث لهم!. لم يجبها مجيب، وانطلقت الحافلة بعد سقوط من سقط وشرع ركابها يتبرمون باستياء حينًا، ويسبون حينًا، فقال عبدالحفيظ بهمس مكبوت : - الحمد لله. ونزل بسوق ليبيا بقلب المطارَد مطارِدًا دنياه، وقد سلِم في ذهابه وإيابه، وصار كلما مر بالخيمة لا يفكر إلا في الشر الذي اعترضه سالفًا وأراد أن يحرم عليه البيع الحلال. ومضت أيامه آمنة وأخذه النسيان حتى أتاه صاحب له في السوق كان معه بالرحلة الموقوفة حيث صِيد مع من صِيد فسأل بفضول شديد : - كيف نجوتَ في ذلك اليوم؟. فأجاب عبدالحفيظ بتعجب سائل : - أنا؟!. فقال صاحبه مستنكرًا : - لا، أنا! كيف نجوتَ؟. - نجاني الله. - لكن كيف؟. - أنت الآن حر. - ولا هَم لي . - فلتحمد الله. - الحمد لله على كل حال، وحالك حين افترقنا كحالنا ولا شيء يميزك عنا فبحثت عن سبب يجعلك ناجيًا دوننا فلم أجد. فقال عبدالحفيظ باسمًا : - البركة في صلعتي. فقهقه صاحبه وقال : - فلتقل لي ذلك أولاً. واسترجع عبدالحفيظ ذكريات أصحابه وهم يسخرون من صلعته وقال : - عارية وقد سترني الله بها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة