تسلم يا الشاميوبالفعل الإسلام تم تنزيله من مستوى الإسماح والعفو والإصلاح إلى مستوى ما يستطيعه الناس وقتئذ في القرن السابع وحكته الآية التي تكرمت أنت بإيرادها. "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون"، ولعلهم يتفكرون هذه كما قال الأستاذ محمود تعني يتفكروا فيعودوا إلى المستوى الأرفع. أرجو أن أضع هاتين الفقرتين التي توضح طبيعة الإسلام الثنائية بين اليهودية والمسيحية من كتاب "الإسلام":
الإسلام
الإسلام بين اليهودية والنصرانية
وهذه الفكرة الإسلامية الكبيرة جاءت مرحلة اليهودية في طرف البداية منها ، وجاءت المسيحية في طرف النهاية ، وجاء الإسلام وسطا بين اليهودية والنصرانية . فإن المسيح قد قال لتلاميذه: (( لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس ، أو الأنبياء .. ما جئت لأنقض ، بل لأكمل )) ، ثم أخذ يعلمهم ، فقال : (( سمعتم أنه قيل عين بعين ، وسن بسن ، وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر ، بل من لطمك على خدك الأيمن ، فحول له الآخر أيضا . )) فالمسيح ، في هذا الحديث ، يعرض علينا طرفي البداية ، والنهاية فالعين بالعين ، والسن بالسن أقرب إلى الطبيعة البشرية المبتدئة ، وأما عدم مقاومة الشر فهو غاية في التسامح ، وهو أدخل في نهايات سير النفس المرتاضة .
ولما كان الإسلام وسطا بين اليهودية ، والنصرانية ، كما يخبرنا الله تبارك وتعالى حين يقـول : (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس )) فإن القرآن قد جاء في سياقه بالجمع بين خصائص اليهودية وخصائص المسيحية ، فاسمعه يقول (( وجزاء سيئة سيئة مثلها ، فمن عفا وأصلح ، فأجره على الله ، إنه لا يحب الظالمين )) ثم قارن هذا بحديث المسيح السابق تجد أن (( جزاء سيئة سيئة مثلها )) تعبير شامل لقول التوراة الذي حكاه المسيح (( عين بعين ، وسن بسن )) وتجد أيضا قوله (( فمن عفا وأصلح ، فأجره على الله )) أبلغ في التسامح من قول المسيح (( لا تقاوموا الشر )) الوارد في هذا الحديث ، وإن كان للمسيح حديث آخر يرتفع إلى مستوى (( فمن عفا وأصلح ، فأجره على الله )) وذلك حيث يقول : (( أحبوا أعداءكم ، باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلوا لأجـل الذين يسيئون إليكم ، و يطردونكم . ))
الإسلام رسالتان
وكون الإسلام وسطا بين طرفين ، وجامعا لخصائص الطرفين ، من البداية والنهاية ، جعل الإسلام نفسه ذا طرفين ، طرفا أقرب إلى البداية ، وطرفا أقرب إلى النهاية . ويلاحظ هذا بوضوح ، عند قراءة الآية السابقة ، ومثيلاتها ، في القرآن ، ولهـذه الظاهرة معنى بعيد الأثر ، وذلك أن الإسلام ، كما هو في القرآن ، ليس رسالة واحدة ، وإنما هو رسالتان : رسالة في طرف البداية ، أو هي مما يلي طرف اليهودية . ورسالة في طرف النهاية أو هي مما يلي طرف المسيحية . وقد بلغ المعصوم الرسالتين معا ، بالقرآن ، وبالسيرة التي سارها بين الناس ، ولكنه فصل الرسالة الأولى في تشريعه ، وأجمل الرسالة الثانية ، اللهم إلا ما يكون من أمر التشريع المتداخل بين الأولى والثانية ، فإن ذلك يعتبر تفصيلا في حق الرسالة الثانية أيضا ، ومن ذلك ، بشكل خاص ، تشريع العبادات جميعه .. وظاهرة الرسالة الأولى أنها تبدأ بقول (( لا إله إلا الله ، محمد رسول الله )) ، وتنتهي بقول (( لا إله إلا الله ، محمد رسول الله )) فهي كالصورة الفوتغرافية الثابتة ، إلا قليلا ، وأما ظاهرة الرسالة الثانية فإنها تبدأ بقول (( لا إله إلا الله ، محمد رسول الله )) وتنتهي بقول (( لا إله إلا الله )) المجردة ، فهي كالفلم السينمائي يتحرك من بداية إلى نهاية ، في تطور مستمر . ومعنى تجريد الشهادة معرفـة مكانة الله ، من مكانة محمد . وهـو تمام التوحيـد ، والله تعالى يقول لنبيه الكريم : (( وأنزلنا إليك الذكـر لتبيـن للناس ما نـزل إليهـم ، ولعلهـم يتفكرون . ))
والمتأمل في هذه الآية الكريمة يدرك كيف أن الإسلام رسالتان ، فإن أول الآية : (( وأنزلنا إليك الذكر )) يعني الرسالتين معا ، الأولى والثانية . ووسط الآية : (( لتبين للناس ما نزل إليهم )) يشير إلى تفصيل الرسالة الأولى التي هي ، كما قلنا ، أقرب إلى جانب البداية ، وآخر الآية : (( ولعلهم يتفكرون )) يشير إلى محاولة الارتفاع من الرسالة الأولى ، إلى مستوى الرسالة الثانية ، وذلك بإتقان العبادة التي اخطتها الله ، تبارك وتعالى، للمسلمين، أو قل إن أردت الدقة، (( للمؤمنين )) .