الفصل الثالث : فتح الخرطوم وحوادثهأ) النساء
أشرنا آنفاً إلى توجيهات الامام المهدي الآمرة بمعاملة المواطنين بالرفق والمحافظة على حياة الرؤساء ابتداءاً من غردون وإلى تعيين أشخاص مكلفين بذلك وإلى عدم قتل غير المحاربين وحتى من ألقى سلاحه فلا يقتل. والآن ننظر ما حدث في فتح الخرطوم.
قال الشيخ بابكر بدري حينما دخلوا الخرطوم - وكان ممن دخلوها- دخلوا منزلاً خاوياً:
(فوجدنا فيه الزبيب والدقيق والقمح والسمن واللحم المقدد وجوالات الذرة ولم نجد به أحداً فلم نلمس شيئاً من هذه المأكولات لأني كنت صائماً ولو كنت غير صائم لا يمكن أن آكل كصاحبي حتى يصدر الإذن من ولد النجومي عن المهدي ( عم) بإباحة ما يؤكل وفعلاً لم يصدر الإذن إلا ضحى الثلاثاء)
وتحدث عن زيارة المهدي يوم الجمعة التي أعقبت فتح الخرطوم:
(فلما خرجنا من باب السور قابلته إمرأة تبكي وقالت يا سيدي المهدي إبنتي بأطفالها في الزريبة وهم متعبون إئذن لي في أخذها فقال لها ماهي الزريبة؟ قالت المكان الذي جُمعت فيه النساء. فطلب أحمد سليمان وهو واقف مكانه فقال له: ما الزريبة؟ فقال أحمد سليمان : الزريبة اسم المكان الذي جمعنا فيه نساء الخرطوم اللائي لم نجد لهن معارف. قال له أمش بنا لها لأنظرها. فلما وصل أمر أحمد سليمان قائلاً: ياأحمد كل هذه الحريمات يوزعن قبل غروب الشمس فمن عرفها أحد أو عرفت هي أحد (أحداً) تُسلّم إليه والشباب ممن لم يُعرفن ولا يعرفن أحداً زوجوهن)
وكتب الامام المهدي منشوراً يوضح بجلاء ما أورده بابكر بدري يمنع فيه زواج الأنصار من النساء الخارجات من ققرة الخرطوم وعنونه إلى كافة عملائه والنقباء والأنصار. قال بعد مقدمة قصيرة :
( فإن النساء الخارجات من الققر جميعهن أحببنا أن يعطين لأزواجهن ولا يجوز لأحد من أصحابنا وأحزابنا أن يتزوج بهن. فذوات الأزواج تسلم لأزواجها وكل من لا زوج لها يجمعها لدى أمين يكون مأمون جداً ويجري راحتهن حتى نرى حكم الله فيهن والحذر من التزويج لأحد بواحدة من نساء القياقر المذكورة صغيرة أو كبيرة ثيباً أو بكراً ومن تزوج بواحدة من المذكورات قبل نظر حكم الله فهو الجاني على نفسه والسلام) بتاريخ 5/2/1885 وجاء في تحشية الخطاب ( وكذلك من لها ولي محرم تسلم له بالضمان.. كل من أذعن لتنبيهنا وعلم صدق دلالتنا إلى الله فلا يترك طرفه إمرأة ولا جارية صغيرة ولا كبيرة بل ذوات الجواري والسراري إذا قدر الله منكم من استلم منهن شيئاً يرجعه عند بيت المال الذي هو منوط بأمره)
ب) المسيحيون والبعثات التبشيرية
لم تتعرض الكنائس عند فتح الخرطوم لأية هجمات من قوات الأنصار ومبنى الكنيسة الوحيد الذي تعرض لهجوم هو مبنى الكنيسة الكاثوليكية لأنه لم يكن كنيسة عند الفتح ( كان غردون قد أجّرها بعد أن أخلاها القسسة واستعملها مخزناً للسلاح)
قال أبو شامة ( والذي لا شك فيه أن جميع رجال الكنيسة لم يكن فيهم غير بولوناري في مسرح العمليات لكي يصاب أو يقتل وهذا انطبق على الكنيسة القبطية)
ومما يعضد ذلك سكوت الأب جوفياني فانتيني في كتابه المسيحية في السودان عن أي اضطهاد طال المسيحيين أو أسراهم في عهد المهدية والغريب أن المسيحية في العصر الحديث قد دخلت السودان أول مرة عام 1842 على يد القس الايطالي لويجي منطوري الذي حضرالخرطوم هارباً من اضطهاد المطران أبو سلامة مطران الكنيسة الإثيوبية للكاثوليك
وكذلك شهادة هولت:
( وفيما عدا أولئك الأشخاص الذين شاركوا في محاولة الاتصال بالخرطوم عومل أهل الأبيض معاملة طيبة. فجميع الأغراب، ويقصد بهم أولئك الذين من أصول غير سودانية أو مصرية بما فيهم المبشرون الذين كانوا في دلنج مثل أورفالدر، وضعوا مجتمعين تحت إشراف جورجي استامبولي وهو تاجر سوري أتخذ إسم محمد سعيد المسلماني)
ج) عدم إشراك الجهادية
وزيادة في التحوط وحرصاً على أرواح السكان أمر الامام المهدي بعد إشراك الجهادية في فتح الخرطوم خوفاً عليهم من تجاوزاتهم. وقد اعترف اوهروالدر (ونجت) بذلك وعزاه لعدم ثقة المهدي فيهم وخشيته إنضمامهم لغردون وهذا بعيد نظراً لسوء حال الخرطوم المحاصرة وفرار أهلها منها وتدهور موقف غردون العسكري. والصحيح ما ذكره مكي شبيكة :
( طلب المهدي عدم إشراك الجهادية في الهجوم على الخرطوم خشية أن يعيثوا فيها فساداً كما قاموا به في كسلا عندما تمردوا على الحكم التركي المصري ونهبوا المدينة وقتلوا كل من صادفهم في الطريق.)
د) دفن الموتى
وبعد أن ذكرنا ما ذكرنا من إكرام المهدية للناس ورفقها بهم واكرامها للنصارى نأتي لقول الرواية على لسان أحد أبطالها المسيحيين ( من مات منا لم يدفنوه قالوا إن الكلاب النصارى لا يستحقون الدفن. تركوا جثثهم تنتفخ في العراء) ص 249
وقد سبق وعلمنا أن عدد القتلى من النصارى كان قليلاً جداً كما ذكر ابو شامة وأغلب القتلى كانوا من حملة السلاح لا الموظفين والرهبان وكبراء المدينة.
وقد أشار المهدي لهذه الواقعة لما علم بوجود جثث في الشوارع في خطاب بعثه للخليفة عبد الله جاء فيه بعد التسمية وحمد الله والصلاة والديباجة:
( حبيبي إن الجيفة سترها ومواراتها أمر مشروع وقد كان صلى الله عليه وسلم جعل يوم بدر قليباً فوارى فيه المشركين. ونحن لكثرة القتلى منهم في زماننا ما أمكننا دفنهم ومواراتهم. وكان سبق تنبيه إلى أهل الخرطوم أن يدفنوا جنائز القتلى فواروا الاخوان بعضاً وتركوا بعضا. والآن حبيبي فليكن الإذن في كل من له ميت أن يدفنه ولو كنت أعلم ذلك من سابق لحصل التنبيه. والسلام)
والمعلوم أن فتح الخرطوم كان من أواخر الفتوحات وأن أغلب جيش غردون كان معه بالخرطوم.
الهوامش:
بابكر بدري سابق ص 37 وكانت آخر وصية أوصى بها المهدي الجيش كما روى على المهدي ( عاهدوني على كسر الرقاب وأن لا تأخذوا شيئاً من الغنيمة ولو إبرة في خيط) كتاب جهاد ص 91 وكسر الرقاب أي على الموت
نفسه ص 38
Wingate
وأيضاً أبو شامة ص 142
جوفياني فانتيني: المسيحية في السودان ص 63- 65
هولت ص 75
أبو سليم ج 4 ص 255