الحلقة الخامسةالفصل الثالث
التركية في الوجدان السوداني:
وإذا ما انتقلنا إلى الأدب والشعر وهو أكبر مجسد للشعور الجمعي للمجتمعات لا سيما الشعر الشعبي فنجد أن كراهية ذلك الحكم قد تغلغلت في كل الأوساط والمجتمعات. بل حتى الذين أيدوا الحكم التركي لم يغب عنهم عسف النظام وكراهية الناس له. قال أحمد بن الحاج علي (كاتب الشونة) وكان ممن عاصر الغزو وعمل بعد ذلك معه يرثي دولة سنار، قال في مبتدء ذلك الحكم:
فلو رأيت ما حل من ضرر
أجريت دمعك إعلاناً وإسرارا
أئمة الدين يا هذا لهم شرف
ففيهم حكّموا الرصاص والنارا
تبكي مساجد أهل الله خامدة
ترمي عليهم دموع الحزن أقطارا
وقال الشيخ محمد شريف نور الدائم مبيناً بعض أنواع العقوبات التركية على من لم يدفع الضرائب في مختتم ذلك الحكم:
وما أبت السودان حكم حكومة
(إلى) إن أتى ضعف المطاليب من مصر
كالثلث والثلثين للمير وحده
وللشيخ والنظار أضعافه فادر
بضرب شديد ثم كف مؤلم
من بعد الإلقاء في الشمس والحر
وأوتاد ذي الأوتاد من بعض فعلهم
وأشنع من ذا كله عمل الهر
البيت الأخير يشير إلى تعذيب فرعون بالأوتاد التي يربط عليها المعذبين وكان الأتراك يستخدمون الخوازيق، كما يشير إلى عقوبة حبس القطط في الملابس الداخلية.
ومن خلال جدلية العسف والمقاومة دخلت الحياة الشعبية أمثال ومصطلحات جديدة مثل عشرة في تربة ولا ريال في طلبة ومثل الخازوق ومثل الأمثال النابذة للخيانة : التركي ولا المتّورك ألخ.
أما الشعر الشعبي فهو حافل نكتفي منه بنتف قليلة جداً خوف الإطالة .
قال شاعر الميرفاب مستجيراً بالمك نمر من ظلم الترك:
ود الميرفاب الماسك الدرب يتكلّس
هانوه الترك وطاع تبع الرسن واسّلّس
مصاغ البنات بي عيني شفتو اتملّص
والبطي في الطلب لي جيتي ليك ما اتخلّص
وقال انقيب آخر (أي شاعر) محرضاً المك نمر على قتال الترك أبياتاً قد تخرج عن سياق الحياء في فظاعة التركماني وعدم وقوفه عند حد لمن يطيعه نعف عن ذكرها ومن أرادها فليرجع إليها في نفثات اليراع صفحة 15.
وقد فرت كثير من القبائل كما أسلفنا ومن بقي تعرض لعسف الترك. قال أحدهم معرضاً بالذين لم يتمردوا وبقوا في أماكنهم تحت سطوة الأتراك:
يا الأرباب بحكي لك حكاية الطاعوا
بانت عليهم العوجة ولي جناهم ضاعوا
الحي ما استتار والمات رقد باوجاعوا
ياكلو فيهم الترك متين ما جاعوا*
وحينما أصدر إسماعيل باشا منشوراً يأمر فيه بجمع الخيل من الشايقية وزعه أحمد باشا الجزار وهدد أن من لا يقدم حصانه يعدم شنقاً أو بالخازوق قال شاعرهم:
الباشا علّمنا الهوان
وحمانا لدات العنان
نتلاقا بي سيوفنا السنان
ويتفرجن معز القنان
وقال شاعر الشكرية بعد أن فروا من عسف أراكيل باشا حاكم السودان 1857 إلى البطانة:
الباشا البعنو لو
شن عرضو وشن طولو
كان حجّر حلّو لو
حت شرق الله البارد هولو
البعنو لو : أي الذي يقصدونه
كان حجّر حلّو لو: أي إذا منع شيئاً أحلوا له ذلك وقال بعضهم حلوله أي قراه جمع حلة أي إذا تحكم في القرى فحتى الخلاء ملكه؟ وقد رواها د. الحبر يوسف بصيغة أخرى فقال
الباشا دا البِشْكُولُه
شِنْ عَرْضُو وشِنْ طُولُو
كان حِرِم حَلَّلُوا
حتى شرق الله البارد هولو
وقال شاعرهم يحثهم على الفرار لا الإذعان لأن من يذعن يهلك ومن يفر ينجو
فرعون يوم هلك وقفت جبارة موسى
ديك ود سند فطس قبال تجي لو الخوسة
( يعني ديك ود سند مات فرقاً وخوفاً قبل ذبحه بالموسى)
وروى نعوم شقير أبيات يتذمر قائلها من ظلم الحكام الترك ويغبط ود ثروة التاجر الذي إلتجأ إلى دارفور:
إن كان الترك حوض رملة حوض الرملة قط ما بيروى
شن بيناتنا من غير سروة لمكان ما سكن ود ثروة
وقال المادح النبوي الشهير حاج العاقب:
يا مجير جيرنا
من زمناً ذل فقيرنا
الصغير يحكم كبيرنا
كل يوم ناساً تغيرنا
إما ديرو وإما ديرنا
إما جيب المهدي أميرنا
ونختم بأبيات بت مكاوي التي قالت تحرض المهدي على الثورة بعد أن طفح الكيل وتجمع البركان مؤذناً بالانفجار. قالت ببصيرة نافذة نابعة من فطرة سليمة ألّن يفل الحديد إلا الحديد، وهو ما آمن به فرانز فانون حيث قال: ( إن الاستعمار ليس آلة مفكرة، ليس جسماً مزوداً بعقل وإنما هو عنف هائج لا يمكن إلا أن يخضع لعنف أقوى...إن محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائما) وقال غارودي ( الاستعمار نهب ولكنه بالدرجة الأولى قتل)
قالت بت مكاوي:
طبل العز ضرب هوينه في البرزة
غير طبل أم كبان أنا ما بشوف عزة
إن طال الوبر واسيه بالجزة
وإن ما عمّ نيل ما فرخت وزة
فعمّ النيل وأفرخ الأوز وجاء نصر الله والفتح وتخلص السودانيون من ذلك النظام الهمجي الحيواني.
الهوامش:
محمد سليمان: دور الأزهر في السودان ص 38- 39
والقصيدة بكاملها في كتاب الشعر في السودان د. عبده بدوي ص 59- 63 ابو شامة ص 61
أغلب النماذج مأخوذة من نفثات اليراع لمحمد عبد الرحيم
* وفي رواية ياكل فيهم الاتراك متين ما جاعو
الحبر يوسف نور الدائم، ملامح الشخصية السودانية موقع شبكة المشكاة الاسلامية
شقير نفسه ص 216
قرشي محمد حسن: مع شعراء المدائح ج 1 ص 50
فرانز فانون سابق ص 36
روجيه غارودي : حوار الحضارات ص 61
محمد عبد الرحيم: نفثات اليراع وأم كبان الحرب