|
Re: كميونة الدراويش (Re: ودقاسم)
|
بدا لي أن ابرهة قد استمرأ هذا الوضع، وأصبح ينسج المبررات الوهمية ليقنع نفسه بالاستمرار في عمله الجديد، لكن ما يدهشني حقا أن أبرهة حتى اليوم لا يطلب مني ولا من أمي قرشا واحدا. فقد ظل يبذل كل مجهوداته متطوعا دون أن يطلب راتبا أو حتى عطاء أو صدقة مما تمنحه أمي للفقراء يوميا. وقد تميز أبرهة بالنشاط وعلو الهمة، وظل متقد الذهن، لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا واهتم بها، يعرف كل من يدخل البيت ، ويخاطبهم بأسمائهم، ولا يهمل حاجة أحد منهم. جمع أبرهة عددا من الضعفاء والمشردين والمتسولين، ووفر لهم سكنا مؤقتا في طرف من أطراف البيت، وظل عددهم يزداد باستمرار، فأصبحوا جزءا لا يتجزأ من البيت، وقد دخلوا جميعا فيما نحن فيه من الذكر والصلوات وحفظ القرآن. وتحول البيت كله إلى مؤسسة ضخمة تظل أبوابها مفتوحة كأنها تقوم بعملها طيلة ساعات اليوم، وانتفت من البيت الخصوصية، إلا من مجلس الخلافة والجزء المعد لي، فلا يجرؤ أحد على الدخول إليهما دون أن يمر بكثير من التعقيدات. وقد عدّ كثير من الذين يترددون علينا وعلى البيت هنا أو هناك، عدّوا أبرهة واحدا من كراماتي، وأن الله سخره لي ليخدم المريدين، ويكون مساعدا لي في بذل الصدقات والعطاء للضعفاء والمساكين. وأنا أصلا لم أكن أعرف شيئا عن المال الذي يتم صرفه ولا ذاك الذي يتم جمعه، لكني أرى الكثير من الشاحنات تدخل إلى البيت وتفرغ حمولتها في مخازن أعدتها أمي ويشرف عليها أبرهة بمساعدة آخرين، وقد رأيت الكثير من الأغنياء والأثرياء يناولون أبرهة رزما من المال يقولون أنهم يستهدفون بها خدمة المسيد، وزواره، والمقيمين فيه، كما اعتدت على رؤية بعض من يأتون محملين سياراتهم بالأكل المطبوخ يقدمونه صدقة لميت ويطلبون من مريدينا الترحم على روحه، أو الدعاء لمريض يرجون شفاءه. والمؤسسة تسير بلا انقطاع، وبانتظام ودقة دون أن يضع لها أحدٌ من الناس نظاما أو لائحة أو دستورا. يصحو الناس من نومهم عند الفجر، يؤدون الصلاة جماعة، ويبدأ كل واحد منهم عمله دون أن ينتظر توجيها من أحد، هؤلاء يعدون الشاي أو القهوة، وآخرون يملأون خزانات ماء الشرب، وبعضهم يملأ أباريق الوضوء، وبعض آخر ربما يبدأ على الفور في إعداد الإفطار وغسل الأواني وترتيبها وإعدادها ليوم جديد. وهناك من يهتم بالنظافة وترتيب الأسرة والألحفة والأغطية، ولا أعلم من يدفع لكل هؤلاء، أم أنهم كلهم يعملون كمتطوعين انتظارا للبركات والنفع بالجاه، أو ربما هم يتبعون منهج أبرهة في مساعدة المساكين على استرجاع بعض ما سرقه منهم الأغنياء. أما أبرهة فقد كان رجلا كحزمة رجال، هجر نوم الضحى، والاسترخاء، وانتقل من مرحلة التنظير إلى مرحلة العمل الجاد. كان يقوم بالكثير من أجل الناس، بل ويكرس لهم كل وقته وطاقته، وفي كثير من الأحيان لم يكن يجد وقتا ليحكي لي بعضا من أعماله وإنجازاته. لكنه حين يجد فراغا ولو قليلا يدخل علي ويحدثني بأمور لم أكن أتصور حدوثها يوما، فقد حكى لي مرة أن بعض النساء اللاتي عانين من العقم يأتين ويطلبن الذرية، فيُجلس الواحدة منهن ، ثم يغيب عنها لدقائق، ويعود إليها ليقول لها أن الشيخ أمرك أن تقابلي الدكتور فلان، ويرتب لها هذه المقابلة ، ويسدد الفواتير ، فتحمل المرأة وتنجب بعون الله ، حتى أنه قال لي أن واحدة منهن اضطررنا أن نرتب لها مع الطبيب برنامجا لطفل أنابيب، وأن العملية تكللت بالنجاح . والكثير من المرضى كان أبرهة يحولهم للأطباء ويقول لهم أن الشيخ أمر بذلك، فينالون الشفاء، ويسدد أبرهة فواتير علاجهم . وعرفت أن الكثير من النساء يتحدثن عن أنّ الشيخ يمنح الذرية، وأن المرضى يرون ان بركات الشيخ كانت سببا في شفائهم، وأن الأطباء لم يكونوا إلا وسيلة استخدمها الشيخ بعلم وإذن من الله . وأنا لا علم لي بكل ما يحدث ، فكثيرون لا يصلون إلي ، ولم أكن أتدخل في شيء ، إلا أن يطلب مني أن أرفع يدي إلى السماء داعيا الله أن يمنح عباده الخير كله، أو أجلس وسط حلقة الذاكرين وأدعو لهم في نهاية الليلة بالغفران والصحة والعافية . الغريب أنني أصبحت جزءا من المسرحية ، بالرغم من تراجع دوري لما بعد دور أمي وأبرهة وسلوى ، لكني كنت المركز الخفي الذي تدور حوله الأحداث كلها ، وكأنني ممثل أسند إليه دور يؤديه خلف الكواليس ، فلا يظهر أمام الجمهور إلا نادرا ، لكنه عند ظهوره يخطف الأضواء ، ويشد الجمهور ، فيصعد بلا منافسٍ إلى دور البطولة ، ثم يتراجع تاركا المسرح لمساعديه ، فيعود إليهم بريقهم المنزوي بتوقيت غريب لا يجيده إلا مخرج متميز. إنه تبادل أدوار غريب ومحكم، لم نخطط له ولم نتفق عليه لكنه يحدث ويتكرر دون خلل أو ارتباك . وجمهوري ينتظر الساعات الطويلة أمام شباك التذاكر ، وهو جمهور شره متعطش لا يمل ما نقدمه له من أعمال. وقد أصبح الجمهور نفسه جزءا من المسرحية، يسايرها باتساق تام ، ويقوم بدوره بكورالية متقنة، فيظن من يراه أنه قد تم تدريبه في معاهد متخصصة في التمثيل والإخراج . وجميع الممثلين منضبطين غاية الانضباط ، لا يتغيبون، ولا يتأخرون، ولا يفترون، فتجدهم يقومون بأدوارهم بتلقائية غريبة، وبهمة عالية، يؤدون ما أسند إليهم كأنهم في مهمة مقدسة لا تحتمل تسويفات البشر وتراخيهم . ونواصل
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
كميونة الدراويش | ودقاسم | 12-30-15, 12:48 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 12-31-15, 12:20 PM |
Re: كميونة الدراويش | جورج بنيوتي | 12-31-15, 02:13 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-01-16, 05:57 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-03-16, 07:03 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-05-16, 08:42 AM |
Re: كميونة الدراويش | ابو جهينة | 01-05-16, 11:08 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-06-16, 01:07 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-10-16, 01:57 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-07-16, 10:33 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-06-16, 01:26 PM |
Re: كميونة الدراويش | doma | 01-10-16, 03:20 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-11-16, 06:31 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-12-16, 01:18 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-13-16, 08:46 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-18-16, 08:22 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-20-16, 01:46 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-22-16, 07:59 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 04-04-16, 07:40 PM |
|
|
|