|
Re: كميونة الدراويش (Re: ودقاسم)
|
جاءت أمي بنفسها إلى بيت سلوى ، وذلك بعد أن استمر غيابي عن بيتها أسبوعا كاملا ، فطرقت بابنا ، واستُقبلت أحسن استقبال من جانب سلوى وبناتها. شربت العصير، ورشفت الشاي، وتحدثت إلى بلطف لا يدانيه لطف في هذه الدنيا. قالت لي أنها تقدّر أحوال الناسكين والعبّاد من أمثالي، وأنها تعلم أحوال القوم السالكين طريق الحق، فهم دائما يميلون إلى العزلة والخلوة حتى يتفرغون للذكر، وأنها تعلم أن تدافع الناس علي في بيتها يزعجني، ولا يمنحني الفرصة لخلوة الذكر والعبادة ومناجاة الخالق. وهي تعتذر عن الإعلان الواسع الذي قامت به وأعلنت فيه للناس ولايتي وصلاحي، فتنادى الناس من كل حدب وصوب يباركون ويهنئون ويرجون البركات. وهي الآن جاءت لتطلب مني أن أعطي مجلس الخلافة ومركزها حقه، ولأنّ المريدين ينتظرونني على أحر من الجمر، فلابد أن أعود إليهم خاصة وأنّ بعضهم من ذوي الحاجات، وهي تراني من الذين يقضون حاجات الناس. لم أرد على ترهات أمي أكثر من تبسمي في وجهها بسخرية قاسية، غير أنها لم تكن تهتم بسخريتي، فهي الآن تعدني من أهل الباطن، وتعتبرني الكنز الذي ما يزال مختبئا في مكان آمن، وهي الوحيدة التي تمتلك مفاتيحه، وتعرف كيف تخرجه وتسبر أغواره فيعود عليها مالا وفيرا وجاها وسلطانا. تريدني أن أهجر مجالس الغناء والطرب، وأغيب عن مجالسة الشعراء والأدباء والناشطين ، فتغيب بهجة روحي، ويتقطب جبيني، وأدخل إلى عوالم لا دراية لي بها. ظلت أمي جالسة أمامي تبذل الرجاء تلو الرجاء، تتوسلني ، وتطلب عودتي إلى البيت ، وترجوني أن لا أتأخر، ثم أضافت أنها مستعدة لاستقبال زوجتي وأمها أيضا بمنزلها، وأثنت عليهما ثناء حسنا، ونسيت كل الصلف والتعالي الذي كانت تواجههن به في الماضي، واعتبرتهما قد حفظتا الأمانة حتى حان موعد القطاف، ولم تنس أن تذكّرهما أنه قد آن موعد رد الأمانة إلى أهلها. وهكذا وجدت نفسي في حيرة ممتدة تلتف حولي كدائرة خبيثة لا أرى منها فكاكا ، فإصرار أمي لا يتوقف عند حد، ورجاءاتها لا تنقطع ، وأنا لا قدرة لي على قبول ما تطلبه مني ، ولا أستطيع أن أمثّل هذا الدور أكثر من ذلك ، والناس من حولي يجتمعون وينفضون ، ويحاولون أن يخلقوا مني صنما يعبدونه . وأمي تريد أن تأخذني من زوجتي وأمها وبيتهما الذي ضمني حين شردتني هي ، وتريد أن تفرق بيني وبين أصدقائي الذين شكلوا وجداني وأصبحوا جزءا من تفاصيلي . لكني رغما عن خوفي وحيرتي وصمتي ، فإني أتمتع بعزيمة لا تلين، ولن أدع لهم سبيلا ليتمكنوا من هزيمتي، فأنا متمردٌ، ونافرٌ أصلا عن مثل هذه المفاهيم، مترفع عن مثل هذا العبث ، لكني لم أستطع بكل محاولاتي نفي صلاحي، وانعدام البركة في شخصي، ولم أتمكن من انفضاض الناس من حولي حتى لو بذلت من فظاظة القلب وغلظته ما لم يستطعه الأوائل . وبدا لي الناس من حولي كأنهم من نسل آل فرعون، يسومهم سوء العذاب وهم يتبعونه ، ويؤلهونه ، حتى تكبّر وعلا في الأرض فقال لهم أنا ربكم الأعلى. هؤلاء الناس البسطاء يعيشون الحياة في أضيق هوامشها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، تعصرهم الحياة عصرا فيلوذون بالأوهام ، يبحثون عن أي خيط يعتبرونه منجيا من كل أو بعض منغصات حياتهم ، يبحثون عن العلاج والغذاء والكساء، ولا يبالون أي وسيلة يستخدمون. يظنون أن الأشياء يمكن أن تأتيهم طوعا دون أن يسعون إليها ، ويرون أن بعض البشر يمتلكون قوة خارقة تجعل الحياة أكثر يسرا بمجرد رفع أكفهم إلى السماء. وهاأنذا يتم اختياري ضمن فريق الخارقين، فتصرف أمي أموالا كثيرة في يوم تنصيبي خليفة لوالدي، ويبذل الناس جهدا كبيرا للقائي، يضيعون وقتا ثمينا في لاشيء، ولو أنهم جميعا بذلوا هذا المال وهذا الجهد في أمر يفيدهم، واستثمروا وقتهم الذي يضيعونه معي ومع غيري ممن يعتقدون صلاحهم، لجنوا ثماره عملا وإنتاجا ووفرة. لكن أمي ظلت تسعى لاستدراج السذج والبسطاء والفقراء، تبذل لهم المال والوعود، وهم لا يعلمون أنها تنتظر أن تجني أرباحا طائلة من هذا العمل، وتؤمّن لأحفادها مصدرا للرزق لا يجف ولا ينقص. فيكتشفون بعد حين أنهم كانوا ينظرون فقط تحت أرجلهم، وأنها كانت تنظر بعيدا لتحصد المستقبل. غاب عني أبرهة دون أن أعلم أين ذهب ، ولم غاب، وهو يعلم أنني أحتاجه بشدة ولا أتوقع منه أن يغيب في هذا الظرف، فأنا أحتاج إليه في كل لحظة. ولو أن أبرهة كان معي لدخل في حوار مع أمي، وربما أقنعها بعدم جدوى مشروعها، وعدم قانونيته، وانعدام البعد الإنساني فيه. لكن هل كانت أمي ستقتنع برؤية أبرهة رغم أنها مبنية على المنطق والحيثيات الصادقة، وهل هي أصلا تصدّق زعمها بأنني شيخ عارف بالله أمد البركة والنفع لمن يطلبهما؟ لا أعتقد أن أمي ساذجة لهذا الحد، لكنها تنشيء مشروعا اقتصاديا لا مشروعا دينيا، مشروعا يقوم على استغلال البسطاء وتقريب حاجتهم إليهم ، وهم يرونها كسراب بقيعة، دون أن تصل أيديهم لتلامس هذه الحاجة. مجرد الترغيب، واللعب على عقول الناس، وتخديرهم . ولو أن أبرهة كان موجودا إلى جانبي لواجه أمي بهذا الحديث دون مواربة، ولشرح لها تفصيليا سوء فكرة الاستغلال البشعة والتي تستهدف أناسا ضعفاء لا حيلة لهم، ولا يعون مصالحهم، ولا يعلمون كيف يمكن أن يغيروا ما بأنفسهم ليغير الله ما بهم. أبرهة يفهم جيدا سلوك الأغنياء، يفهم كيف يبنون سلطانهم، ويدرك معنى وحدود كرمهم وتصدّقهم، ويحيط بالكثير من معاني الدين ومقاصده. والناس يجلسون خارج البيت، وتحت ظلال شجرتي النيم، ينتظرون الدخول علي لنيل البركات، وقضاء الحاجات، وأمي جالسة أمامي تستخدم كل الحيل والأساليب لتأخذني معها إلى مركز الخلافة في بيتها حيث ينتظرني أناس كثر هناك . وأنا أتردد بين حيرتي وصمتي، أحدث نفسي بالهرب من هذه الدوامة القاتلة، أو الانفجار في وجه أمي وتابعيها، والشيطان يوسوس لي أن أقبل بعرض أمي وأواصل تمثيل الدور حتى النهاية. دخلت علينا زوجتى بوجه متهلل أحسست منه الرضا والانتصار.هذه المرأة دائما تمنحني الأمل، وتحمل إلي البشريات، وتقف إلى جانبي في كل تفاصيل المحن، وتجعل من لسعات الحياة المرة عذوبة لا مثيل لها. اقتربت مني، مالت قليلا حتى لامستني، ثم حدثتني في أذني، وقالت، أن أبرهة ينتظر بالباب لكنه لا يستطيع الدخول من شدة الزحام . ونواصل
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
كميونة الدراويش | ودقاسم | 12-30-15, 12:48 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 12-31-15, 12:20 PM |
Re: كميونة الدراويش | جورج بنيوتي | 12-31-15, 02:13 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-01-16, 05:57 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-03-16, 07:03 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-05-16, 08:42 AM |
Re: كميونة الدراويش | ابو جهينة | 01-05-16, 11:08 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-06-16, 01:07 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-10-16, 01:57 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-07-16, 10:33 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-06-16, 01:26 PM |
Re: كميونة الدراويش | doma | 01-10-16, 03:20 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-11-16, 06:31 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-12-16, 01:18 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-13-16, 08:46 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-18-16, 08:22 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-20-16, 01:46 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-22-16, 07:59 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 04-04-16, 07:40 PM |
|
|
|