بحث: مصر الحالية ليست هي مصر المذكورة في القرآن

Quote: قال الباحث: يرى الخليل أن (مصر) الوارد ذكرها في هذه الآية، ليست مصر المعروفة، والتي تحمل هذا الاسم، وفي هذا يقول: "والمِصْرُ: كُلُّ كُورةٍ تُقام فيها الحُدودُ وتُغزَى منها الثُغُورِ ويُقْسَم فيها الفَيْءُ والصَّدَقات من غير مُؤامَرة الخليفة... وقوله تعالى: (اهبطوا مصراً): من الأمصار؛ ولذلكَ نَوَّنَه. ولو أراد مِصرَ الكورةَ بعَيْنِها لما نَوَّنَ؛ لأنَ الاسْمَ المؤنَّثَ في المعرفةِ لا يُجرَى. ومِصْرُ هي اليَومَ كورةٌ معروفةٌ بعَينِها، لا تُصْرَفُ". أهـ(1). واختيار الخليل يدل على إن (مصر) الواردة في الآية، ليست هي الموضع المعروف بهذا من قديم، والذي كان فيه فرعون. بل المراد: مصراً من الأمصار، وبه قال جماعة من أهل التفسير(2). والخلاف في هذه القضيّة تقوم قاعدته على الاختلاف في القراءة. وفي هذا يقول ابن جرير الطبري: "فأمّا الذين نوّنوه وأجروه، فإنهم عنوا به: مصراً من الأمصار، لا مصراً بعينه... وأما الذي لم ينوّن (مصرَ) فإنه لا شك أنه عنى (مصرَ) التي تعرف بهذا الاسم بعينها، دون سائر البلدان غيرها". أهـ(3). ويسوق ابن عطية حجج من أجاز الصرف ومَنْ مَنَعَه، فيقول: "وقال مجاهد وغيره ممن صرفها: أراد مصراً من الأمصار، غير معينٍ. واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه. وقالت طائفة ممن صرفها: أراد مصر فرعون بعينها، واستدلوا بما في القرآن من أنّ الله تعالى أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم، وأجازوا صرفها". أهـ(4). ويبدو أن الطبري توقّف في الجزم بالمراد هنا، ولذا يقول: "والذي نقول به في ذلك أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر. وأهل التأويل متنازعون تأويله، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض - على ما بينه الله جل وعز في كتابه - وهم في الأرض تائهون، فاستجاب الله لموسى دعاءه، وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار، وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه. وجائز أن يكون ذلك القرار"مصر"، وجائز أن يكون "الشام". أهـ(5). ومن الغريب أنّ الطبري مع هذا التوقّف، نجده يشير إلى أنّ القراءة التي مبناها على إجراء الكلمة وتنوينها، إنما هي القراءة المعتمدة عنده، والتي لا يجوز غيرها، فهو يقول: "فأما القراءة، فإنها بالألف والتنوين: (اهبطوا مصراً) وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين، واتفاق قراءة القراء على ذلك. ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه، إلا من لا يجوز الاعتراض به على الحجة فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينهما". أهـ(6). وهذا الإقرار من الطبري ينبئ أن اختيار الخليل في هذا الموضع له أساس راسخ. وقد رجّح ابن كثير ما ذهب إليه الخليل، اعتماداً على قراءة إجراء التنوين، وخالف موقف الطبري في توقّفه في المراد، وناقشه قائلاً: "وقال ابن جرير الطبري: ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون، على قراءة الإجراء أيضًا. ويكون ذلك من باب الإتباع لكتابة المصحف، كما في قوله تعالى: (قوارير* قوارير)(7). ثم توقف في المراد ما هو: أمصر فرعون؟ أم مصراً من الأمصار؟، وهذا الذي قاله فيه نظر. والحق أن المراد: مصراً من الأمصار، كما رُوي عن ابن عباس وغيره". أهـ(8). ______________________________ الحواشي والهوامش: (1) كتاب العين، مادة (م ص ر) 7 / 122- 123. (2) تفسير الثعلبي 1/ 206. وتفسير ابن عجيبة 1/ 99. وتفسير بيان الحق النيسابوري 1/ 101. (3) تفسير الطبري 2/ 132. (4) تفسير ابن عطية 1/ 134. (5) تفسيره الطبري 2/ 135- 136. (6) تفسير الطبري 2/ 136. (7) سورة الإنسان، الآيات: 15- 16. (8) تفسير ابن كثير 1/ 281.