***** علي عبد الوهاب عثمان *****

Quote: على عبد الوهاب عثمان وسؤال الهوية النوبية والتجنيس (1) وربما وردت عبارة التجنيس هنا كمقدمة للمصطلح الذي اتخذه على عبد الوهاب في كتاباته وندواته (الوعي التناسلي) .. وأقصد بالتجنيس تخفيف وطأة مدلول (الوعي التناسلي) والانعتاق من بوتقة (الحاضنة الثقافية) الى فضاءات الوجدان الانساني المنفتح. فان استطعنا تجنيس أو "تنويب" أدب اخوتنا الشايقية بالتركيز على السمات النوبية الظاهرة في ملامح هذا الأدب والبحث عن الجينات الكامنة في تكوينه، نكون قد خطونا الخطوة الأولى في مشوار تاصيل هذا التراث الانساني العظيم. ولو انتبه السابقون الى أهمية هذا التأصيل لما اتخذ "الطنبور" اسما آخر غير "الكسر"، فان كان الكنعانيون يحتفظون بالاسم النوبي لهذه الالة الموسيقية بعد تحريف نطقي طفيف "قيسر بدل كسر" لتتحول عند الأغريق الى اسم لالة نفخ (القيثارة) فقد فشلنا كنوبيين في تأصيل هذا الاسم النوبي (الكسر) في السودان والمحيط العربي وفشا الاسم الفارسي (الطمبور)، ونستطرد على ذكر الطنبور فنقول أنه اشتهرت في العصر العباسي الأول جارية اسمها "عبيدة الطنبورية" برعت في العزف على الطنبور وكانت ذات جمال وأدب وصفها أحد الشعراء بقوله: أمست عبيدة في الإحسان واحدة فلله صار لها من كل محذور من أحسن الناس وجهاً حين تبصرها و أحذق الناس إن غنّت بطنبور وجدير بالذكر أيضا أن نشير الى أن من أرسى دعائم فن الطنبور في السودان وأحدث فيه ذلكم المنعطف المهم هو الفنان ادريس ابراهيم الذي انتقل الى رحمة مولاه في شهر سبتمبر الماضي دون أن ينتبه اليه أحد، وادريس ابراهيم هو الذي انتشل أغنية الطنبور من سحيق ما كانت فيه الى بهرجة الأضواء منذ أن تغني في الاذاعة السودانية وفي برنامج ربوع السودان بأغنية القمر بوبا قبل أن يغنيها الفنان الكبير محمد وردي، ثم عاد الى الخرطوم مرة أخرى مصطحبا معه اسحاق كرم الله في مهرجان المديريات في العام 1964م ، كان اسحاق يغني وادريس يعزف له الطنبور والسباح كيجاب على الطبلة، وتوالت على فرقته فيما بعد اساطين الطنبور النعام آدم وعوض عبدون وعثمان اليمني حتى ترسخت أغنية الطنبور بعد أن انزوى مؤسسها الدنقلاوي ادريس ابراهيم في غيبته الكبرى في سرداب الغربة والدناقلة ينتظرون عودته المنتظرة ، لكنه عاد لتتقاذفه أمواج النكران، عاد ليسافر مرة أخرى في سرمد الغياب،"مسافر والفراق يعلم بو الله" رحم الله ادريس ابراهيم الذي فشل هو الآخر في تجنيس الكسر لأنه حين أعلن مع نور الدين سيد على العودة الى الجذور لم تكن الفكرة قد اكتملت، ولم تكن قد قبلت من لدن الغافلين أو المتغافلين عن دور هذا التجنيس في اثراء وجدان الأمة والحفاظ على هويتها ضمن تفاعل الهويات الأخرى. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا بالحاح هو متى بدأ النوبة يفكرون في ارثهم الحضاري والثقافي وتأثير هذا الأرث في تشكيل السودان؟ وما هي استراتيجية وألية هذا التفكير؟ وما هي المحصلة المرجوة؟ ودون الدخول في تجاويف تفاصيل الاجابة سأتناول اذا مد الله في العمر اسهامات أربعة من الرواد وهم نور الدين سيد علي، وجلال عمر ومحمد فضل طبق وعلى عبد الوهاب، ولعل التفكير عند الشعراء الثلاثة دون اغفال الأسماء الأخرى بدأ بالانجاز الشعري وعند على عبد الوهاب بدأ بالبحث عن الكلمات النوبية التي توغلت في عامية اهل السودان وتموسقت في أوزان الشعر الشايقي في استراتيجية فكرية محكمة تهدف الى اعادة الاعتبار للتراث النوبي العريق الى النوبة أنفسهم وتحسيسهم بهويتهم الابداعية واسهامهم الكبير في مضمار الأدب السوداني، ومن بعد ذلك اعادة الاعتبار للمساهمة النوبية في تكوين الثقافة السودانية وتوعية بقية أهل السودان بأهمية هذا الأرث الثقافي الذي أهملوه ونظروا اليه بعيون كليلة "مقالات عبد الرحمن عبد اللطيف نموذجا" واللائمة تقع على النوبيين أنفسهم الذين لم ينهضوا للتعريف بهذا التراث العظيم وهذه اللغة الغنية، ولعل في اسهامات الذين ذكرتهم وغيرهم ممن يسيرون على دربهم تكفير عن ذلك الذنب العظيم. وسنرى من خلال حديثنا عن منهج على عبد الوهاب في مقالاته أن تتبعه للكلمات النوبية في شعر الشايقية هو بحث في تاريخنا، وحفر اركلوجي في مخابيء الذاكرة النوبية، ونواصل سيف الدين عيسى مختار