مكي أبوقرجة .. وداعاً

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-07-2024, 09:45 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2015م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-24-2015, 04:10 PM

عبدالله الشقليني
<aعبدالله الشقليني
تاريخ التسجيل: 03-01-2005
مجموع المشاركات: 12736

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً (Re: محمد أحمد الريح)



    الأمل والقنوط في بلاد الأرناؤوط / رحلة إلى ألبانيا
    المؤلف مكِّي أبو قَرجة

    الناشر السويدي للنشر والتوزيع
    تاريخ النشر2005

    قطوف

    الوصول إلى تيرانا هبطت بنا الطائرة الصغيرة بركابها القليلين في مطار تيرانا قادمة من اسطمبول. بدا الطقس حارا لأول وهلة في تلك الظهيرة الخريفية من شهر سبتمبر عام 2002م. إلا أن ما استرعى الانتباه حقا وشده كان ذلك المبنى الصغير للمطار. تظنه فيلا تسكنها عائلة متوسطة العدد، لا مطار دولة - أو كان ذلك تقشفا بروليتارياً؟ يحار المرء. ولكن يزول العجب حين تعلم أن هذا المطار كان كافيا جدا لاستيعاب حركة السفر المحظور تماما إلا للقلة القليلة من النخبة الحزبية والزوار الأجانب. وكان هؤلاء الزوار أيضاً تعدهم على أصابع اليد. فألبانيا كانت تعيش عزلة حقيقية بعيدة عن العالم الخارجي في عهد النظام الشمولي الذي تحكم فيه أنور خوجة. خاصمت كل الدول. فقد كانت تبحث عن النقاء السياسي والفكري! يبدو أن طائرات أخرى قد وصلت لتوها بصورة متزامنة فتكاثر الركاب في الصالة لإنهاء إجراءات الوصول. وقفوا في صفوف تزحف ببطء. يفحصون ويدققون ويراجعون فلا يزال الحس الأمني متوفرا. ومن ثم تخرج لتجد سيارات أجرة متهالكة بانتظار القادمين. الطريق من المطار إلى وسط المدينة زراعي طويل. بساتين الحمضيات ممتدة ومزارع الذرة تصوحت أعوادها ومازالت قائمة. ولكن سرعان ماتبدو مبان جديدة مسقوفة بالقرميد الأحمر من طابق واحد وطابقين تتخلل تلك المزارع. كأنها أقيمت على عجل. ملامح اقتصاد السوق ومجتمع الاستهلاك. عمران يبدو وكأنه مستعار من أجواء المدينة الأوروبية البورجوازية القديمة التي نشأت نقيضا للإقطاع في أوائل العصر الصناعي. بعض المداخن تنفث دخانها. ومكاتب ومعارض لشركات أجنبية. لافتات ضخمة وإعلانات شاخصة للكوكاكولا وغيرها من المشروبات الغازية والوجبات السريعة. ملابس الجينز والأحذية الإيطالية. اسكندر بك.. "رمز العزة" وسط المدينة ومركزها السياسي والتجاري لا يزال كما كان منذ سنوات الأربعين بمعماره الإيطالي.. قصر الثقافة أكبر المباني الحديثة شيده الصينيون في سنوات الستين حين نكص السوفييت عن وعدهم بإقامته.. حملوا خرائطه وعادوا إلى موسكو حين لاحت في الأفق بوادر القطيعة بين البلدين. إلا أنه لا يزال يحمل بصمة من النظام الاشتراكي.. رسما كبيرا يعبر عن تضامن العمال والفلاحين والمثقفين والطلاب والنساء، مازالت ألوانه فاقعة لم تمتد إليه يد لتمحوها رغم الحملة التي مازالت مستمرة ضد ذلك النظام. تذهلك كثرة السيارات الصغيرة.. تندفع في كل الاتجاهات.. تبدو لك وكأنها لا تعبأ بإشارات الحركة. لا ترى من بينها سيارات جديدة.. جميعها مستعملة رغم أن السماح بامتلاك سيارة خاصة لم يتحقق إلا في عام 1991م بعد انهيار نظام خوجة. التمثال الضخم للزعيم القومي التاريخي اسكندر بك.. رمز عزتهم على مر العصور ووحدتهم الوطنية التي ما انفكوا يحاولون تحقيقها.. فارس شاكي السلاح في هيئة فرسان القرون الوسطى أو قادة الحملات الصليبية.. مكتمل العدة.. يعتمر خوذة ويرتدي درعاً ويشهر سيفه.. تستهوي السياح ضخامته فيتسلقون قاعدته ويقفون للتصوير. وتمتد الساحة التي تحمل اسمه أمامه. ميدان واسع شهد أحداثا مهمة عبر التاريخ.. انتصارات وانكسارات.. اندحار قوات محتلة وتقدم أخرى منتصرة.. إعلان قيام أنظمة سياسية وسقوط حكومات.. حشودا وتظاهرات.. ومصادمات مع قوات الأمن وأعمال شغب وخطبا حماسية وقرارات حاسمة.. مهرجانات وليالي سياسية.. مواكب أعياد واحتفالات.. فرقاً موسيقية وأخرى شعبية راقصة. والآن يتسكع فيه المتبطلون وتجار العملة المتربصون بالمارة.. وماسحو الأحذية والجالسون والجالسات لشواء أكواز الذرة.. والصبية المشردون والعابرون المسرعون. مسجد حاجي أدهم ليس بعيداً عن تمثال اسكندر بك يقف مسجد حاجي أدهم بك.. يتحدى السنين، حيث اكتمل بناؤه في أواخر القرن الثامن عشر.. كان مغلقاً منذ عام1967م حين منع النظام إقامة الشعائر الدينية.. إلا أنه لم يتعرض للهدم شأن الكثير من المساجد.. بقي لأنه جزء من التراث.. الآن يرفع منه الآذان بمكبرات الصوت إلى جانب مساجد أخرى بمختلف أنحاء العاصمة في الصلوات الخمس. هناك مساجد تغص بالمصلين إلا أن معظمها لا يخلو من الجماعة. وفي خلال السنوات العشر الماضية نشطت حركة بناء المساجد.. تكاثرت بصورة لا تخطئها العين.. بعضها لا يزال قيد الإنشاء.. ذلك جزء من العون الذي تقدمه الدول العربية. كما سيجيء الحديث عن ذلك حين نلتقي بمسؤولي "المشيخة الإسلامية". والإسلام لا يزال حاراً في دماء الناس.. يملأ وجدانهم إلا أنهم يتخوفون من المد الأوروبي ومحاولات التنصير الواسعة.. يظنون أنه سيأتي زمان فيلتفتون لا يجدون من دينهم إلا الذكريات. المسلمون في البانيا يشكلون حوالي 75 في المئة.. والنسبة آخذة في التناقص.. المهاجرون منهم في اليونان وإيطاليا أكثر. الجميع عرضة للتحول عن دينهم.. حيث الحاجة ومؤسسات معنية بانتظارهم دائما لتلتقفهم. يسود المدينة هدوء تام يلفها الطقس الخريفي المنعش.. ترى الناس يزحمون الشوارع فتخالهم شعباً كثير العدد.. إلا أنهم في الواقع لا يتجاوزون الملايين الأربعة في الداخل والخارج.. تغص بهم المقاهي والمطاعم والحانات المنتشرة كأن ليس لهم نشاط غير ذلك. ولكن يبدو أنهم يودعون الصيف فالشتاء يدق الأبواب. تراهم سعداء متآلفين بروح شرقية لا يخطئها البصر.. يجلسون جماعات يحتسون مشروباتهم في هدوء واستغراق.. وتفوح رائحة الشواء من المطاعم الصغيرة المتناثرة.. تجاورها محال الوجبات السريعة.. تلك ما كانت تعرفها البانيا.. شهدتها أخيراً كلوازم للديمقراطية والانفتاح. النساء.. هناك كلهن سواء المرأة حضورها طاغ وشخصيتها بارزة.. تجدها في كل المرافق والمكاتب والبقالات والمطاعم.. جادة ومتماسكة إلا أن سمتها أوروبي أكثر من أن يكون شرقيا. لا تستطيع أن تميز المسلمة من غيرها.. كلهن سواء.. حتى الفتيات الشابات يدخن ويتعاطين المشروبات بصورة علنية في المطاعم والفنادق. لا ترى تبذلاً ولا إسرافاً ولكن يبدو أن التقاليد الاجتماعية فرضت ذلك.. لم أر محجبات أبدا.. يلبسن البنطلونات الضيقة والبلوزات التي تكشف معظم البطن.. شأن الأوروبيات تماما أو قل هن مثل التركيات.. يقولون أن نظام خوجة حرر المرأة ومنحها مكانة متميزة وظل يدافع عنها، أراد أن يزيح عن كاهلها قيود المجتمع الإقطاعي.. فالثورة الثقافية التي فجرها عام 1967م كان من أهدافها الكبرى تحرير المرأة فكرياً وسياسياً ونفسياً. إلا أن آخرين يرون أن نظام خوجة أذل المرأة وأمعن في استغلالها حين أخرجها للعمل. ظلت تنفق الساعات الطوال في العمل الشاق بالمزارع والمصانع، ثم تعود إلى المنزل لتضطلع بمهامها كزوجة وأم. لم يسمح لها بتحديد النسل ولا الإجهاض لأن خط الحزب العام كان يدعو لزيادة السكان. التقيت بعدد من النساء.. بعضهن ناشطات في العمل العام وأخريات يعملن في مختلف المجالات.. يؤكدن أنهن كن ومازلن يقمن بمسؤوليات ينوء تحت حملها الرجال وربما يعجزون. ويتحدثن عن مشاركتهن التاريخية في حرب التحرير ضد الفاشية حين برزت قائدات عسكريات كن شقائق الرجال. والتاريخ يذكر أنه حتى وقت قريب والتقاليد الإقطاعية تحكم المجتمعات الريفية وعادة الثأر ظاهرة تؤرق الجميع.. كان البيت حين يفقد جميع الرجال تكلف البنت الكبرى لتكون رجل البيت.. فتتخلى عن دورها كأنثى وترتدي ثياب الرجال وتسلك سلوكهم. إلا أنها أيضاً تكون رهينة منذ ميلادها حيث تتم خطوبتها في أيامها الأولى ويقبض أهلها جزءاً من المهر.. فإذا كبرت ورفضت الزواج من ذلك الرجل الذي في أغلب الأحيان تجهل شخصه يتعين على أسرتها أن تعيد المال وتحكم عليها بالعذرية الدائمة وتتحول إلى قائمة الرجال. التفاوت الاجتماعي اتضحت صورته.. كثيرون أثروا عقب الانفتاح الذي اجتاح البلاد.. وآخرون مغتربون عادوا وأنشأوا مؤسسات استثمارية جميعها ذات طبيعة استهلاكية. والصناعة الألبانية تتعثر الآن بعد إغلاق عدد كبير من المصانع الأساسية. البنية التحتية التي ساق الحزب الشيوعي الناس إلى بنائها بالعصا.. على حساب مجتمع الرفاهية والاستهلاك.. توقف امتدادها وتوسعها، بل انهارت تقريباً بعد أن هاجر المهندسون والعمال المهرة وغابت "العين الحمراء" ويتبادل الحزبان الاتهامات حول مسؤولية ما حدث. حزبي.. الدولار يخدعك المظهر العام للناس.. يرتدون ثياباً جديدة تجاري آخر صيحات الموضة وتبدو عليهم سيماء الصحة والسرور. ولكن زعماء المعارضة الديمقراطيين يرفضون أن يكون ذلك دليل إزدهار إقتصادي، يقولون أن تحويلات المغتربين وتزويد عائلاتهم بالملابس والسيارات نصف المستعملة وراء ذلك المظهر الخادع. آدم ريلي استطاع أن يؤسس ستديو حديثاً للتصوير ومعملاً مزوداً بكل المعدات التكنولوجية.. ذلك بعد أن عاد يحمل مدخراته من دول الاغتراب الأوروبية.. كان سعيداً حين التقيت به واستفسرت عن أحواله الآخذة في الازدهار. وحين سألته عن حزبه السياسي أخرج رزمة من الدولارات الأميركية من جيبه وقال ضاحكاً حزبي هو النقود. قابلته مصادفة، للمرة الثانية، في مطار تيرانا عند عودتي وكان هو في طريقه إلى اليابان تصحبه زوجته.. استضافني بفنجان من القهوة وودعني بحرارة وذهب. أما بائع العملة اندريس دوداي الذي بدا سعيداً جداً أيضاً قال إن عمله يحقق له ربحاً مناسباً قد لا يجده في مجال آخر. وذكر أن المغتربين كثيرون ويتدفقون خلال أشهر الصيف التي هي موسم طيب بالنسبة لتجارته. سألناه عن الأحوال في بلاده قال إنها جيدة وكشف عن أنه من مؤيدي الحزب الديمقراطي.. ندد بالشيوعية إلا أنه اعترف بأن أنور خوجه لم يكن فاسداً ولم يحقق مصلحة شخصية. يجلس مولا ريزفولي "ماسح الأحذية" في ميدان اسكندر بك تحت ساعة المسلة المعروفة بوسط العاصمة.. أسمر اللون تظنه غجرياً.. ظللت أتعامل معه يومياً في غدوي ورواحي.. يتميز بروح الفكاهة والمرح رغم سوء الحال الذي ظل يشكو منه دائماً.. كما ظل يشكو من جور الحكومة ومن تغير الظروف. قال إن الأحزاب تثرثر كثيراً ولا تحقق شيئاً ونظام أنور خوجه كان أفضل منهم. "لأنك حين تعمل تأكل ولكنك الآن تعمل كثيراً ولا تجد ما يفي باحتياجاتك". أطفاله ثمانية.. وأخذ يلح عليّ أن أجد له مخرجاً للسفر إلى الخارج. كان الواقفون حولنا يترجمون ما يقوله بقدر ما تسعفهم لغتهم الانجليزية المتعثرة. العمر الضائع للوطن كان ندياً ذلك المساء الذي وصلت فيه إلى تيرانا.. بادي البشاشة.. هطلت أمطار غزيرة هنيهة ثم كفت.. خلفت بركاً صغيرة في فجوات الرصيف. كنت متوجهاً إلى كلية الآداب بجامعة تيرانا. صادفت عابراً حاولت أن أستوثق وجهتي منه فتلقاني بترحاب شجعني على الحديث. كان رجلاً يبدو قد قارب الستين، إلا أنه أفصح عن عمر تجاوز السبعين.. يتوكأ على مظلته المطوية.. يتحدث هامساً بصوت عميق.. يجيد الانجليزية. واستغرقنا الحديث الذي استمرأته فلم يكن شخصاً عادياً. قرر مرافقتي إلى هناك. كان يحمل هموماً إنسانية كبرى. تحدث عن تجربة بلاده السياسية وكأنه يقرأ في كتاب بثقة العارف بخبايا الأمور. لم يكن بعيداً ذلك الرجل عن كل ما مر به وطنه من محن. إلا أن الحذر لازمه في كل خطوة وفي كل كلمة تفوه بها، قال إن الاشتراكية حتمية ولابد للبشرية أن تتقلب في نعيمها يوماً.. وما كان الذي حاق بها سوى سوء التطبيق والجنوح الفكري للقيادة وضعف الانسان أمام رغائبه. لم يكن عضواً في الحزب الشيوعي الحاكم عهد ذاك كما ألمح. بل كشف عن تجربة شخصية مريرة مر بها.. أفرد كفه فبانت أصابعه كأنها متورمة. أراد أن يقول أن الثمن الذي دفعه نظير موقف لم يشأ الحديث عنه إرساله إلى معسكر للعمل الشاق.. لتطويعه فكرياً. لم يكن عنصراً في المعارضة السياسية ولم يكن بعيداً عن موقف سياسي مختلف. كان شخصاً مشاغباً دفع الثمن وتم إقصاؤه. والآن راحوا وتبدلوا وباعوا واشتروا في ضمائرهم وظل هو قابضاً على جمر الحقيقة وقرباناً على مذبحها. وظل الآن يعبر عن قناعات لم تعد سوقها رائجة. بضاعة بارت. زعم أنه يعمل الآن في السفارة الإيطالية بتيرانا. إلا أنه رفض الكشف عن اسمه كما اعتذر عن التصوير. قادني حتى مدخل الكلية ووقف يتحدث لفترة ليست بالقصيرة. كما ظل بانتظاري حتى خرجت عائداً من مهمتي. كان مبنى كلية الآداب قائما كما رأيته قبل أكثر من ثلاثين عاماً إلا الطلاء القرمزي الذي ألقى عليه ظلا داكنا في ذلك المساء.. بالإضافة إلى السور الذي تم تشييده في وقت لاحق لذلك الزمن البعيد. كان يشدني حنين جارف لتلك الأيام التي تلقيت فيها اللغة الألبانية على يد المعلمة دونيكا. كنا عدداً من الطلاب الأجانب قبلنا بجامعة تيرانا التي لم أمكث فيها سوى بضعة أشهر عدت بعدها زاهداً في التعليم حين صدمتني درجة التخلف التي كان يرزح تحت وطأتها البلد. بالإضافة إلى مرض كانت تتورم منه قدماي. إلا أني ما أنفكيت أذكر ذلك البلد وأتابع أخباره. وأحيانا أعود إلى الكتب القليلة التي جئت بها.. أقرأ في أشعار نعيم فراشري وفان نولي وأتزود بشيء من تاريخه الموشى بالدماء وبالدموع. نظرت حولي أتطلع للأماكن التي شهدت وقفاتنا وأحاديثنا فما رأيت كثيراً من التغيير إلا في مبانٍ حديثة أطلت وشوارع جديدة تلجها بعض سيارات مسرعة. طلبت من صديقي المثقف العجوز أن يلتقط لي صورة تذكارية أمام باب الكلية الذي طالما وقفنا قريبا منه للمصورين العابرين الذين كانوا يتقاضون دريهمات معدودة للصور الصغيرة التي يأتون بها في اليوم التالي بالأسود والأبيض. استفسرت مرافقي عن عائلة سمراء وحيدة كانت تقيم قرب الجامعة في كوخ خشبي.. توثقت علاقتنا بها من خلال الصبية الوضيئة ديانوشكا التي كانت تدرس في الإعدادية المجاورة.. والتي تزوجها صديقي في السنوات اللاحقة.. كان شوقي عظيما لأن أراهم إلا أن مرافقي الغامض أبلغني بأن تلك المنازل قد أزيلت وارتحل قاطنوها إلى أماكن أخرى بعد أن تم تعويضهم عن تلك الأكواخ الخشبية.. تكاثفت زخات المطر وبت راغبا في العودة إلى الفندق. أمعن صديقي في كرمه حين استوقف سيارة أجرة وطلب من سائقها توصيلي إلى فندق كاليفورنيا بوسط المدينة.. كان يخشى عليّ من سائقين مشبوهين يستغلون الأجانب يسلبونهم ما يملكون. فالأمور قد تغيرت بعد سنوات الانفلات وأصبحت مثل هذه الحوادث واردة في كل يوم. يحدث كل ذلك بعد الانضباط والخوف الذي كان يتلبس الجميع من قوات الأمن التي كانت تحصى الأنفاس في ذلك الزمن الشمولي الرهيب. الشاعر نعيم فراشري دلفت إلى مكتبة -قرب ميدان اسكندر بك- كان صاحبها الملتحي يتهيأ لإغلاقها بعد أن أقبل الليل.. حاورته قليلاً بالإشارة تارة وبمفردات من العربية والإنجليزية أخرى. لم يكن يعرف سوى لغته الألبانية.. إلا أنه كان مصراً على الحديث. كل الكتب باللغة الألبانية.. لم أجد شيئاً بالإنجليزية. لفت نظري كتاب عن الشاعر نعيم فراشري طبعاً الحروف باللاتينية وهو من شعرائهم الوطنيين البارزين. قرأت كثيراً عن نضاله الوطني ولجوئه إلى مصر وعيشه بالإسكندرية إبان الاحتلال التركي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين. لم يبد ارتياحاً لما حاولت أن أقول عن الشاعر بدعوى أنه كان شيعياً وماسونياً. أحسست أنه لا يخلو من تعصب لما يؤمن به. لم تمر لحظات حتى أقبل رجلان، أحدهما أسن من الآخر. حياني الرجل الأول بحرارة، وأخذ يتحدث بإنجليزية ركيكة عن أحوال المسلمين. تغلب عليه العاطفة لا الفكر. لم يلبث الحال أن انضم شاب آخر إلى مجموعة المكتبة هذه فأصبحوا أربعة. وحين علموا أني قادم من بلد مسلم بدا الاهتمام على وجوههم وطلبوا مني الجلوس على كرسي عينوا موضعه، وما كانوا يتحدثون همساً ولكن، بحذر. قالوا إن الشيوعيين عادوا إلى الحكم لأن الساحة السياسية ليس فيها غيرهم.. وأنهم يسيطرون على مفاصل السياسة والاقتصاد.. فما استطاع الآخرون زحزحتهم رغم الزلزال الذي ذهب ببعض سطوتهم وغيب رموزهم التاريخية.. وهامش الحرية الذي ينعم به الألبان الآن بعد سقوط مجموعة الدول الاشتراكية ما هو إلا وهم وسراب خادع.. وليس متاحاً للناس حالياً سوى حرية العبادة. لاحظت أنهم يتعاطفون مع فكرة الجهاد، لكن معرفتهم بالإسلام سطحية وجد ضعيفة.. يدفعهم الحماس والعاطفة، ناولهم صاحب المكتبة مجموعات من الكتب كانت معدة سلفاً. بدا من أحاديثهم أنهم ليسوا مجرد قراء عابرين. المتغيرات على صعيد الإنسان واضحة وبارزة.. تلمسها في السلوك العام.. الناس أكثر إقبالاً على الحياة وباحثين عن سبل جديدة لتغيير حياتهم ولكن لم يدركوها بعد. بدأوا ينطلقون فعلاً وينفكون من الإسار النفسي للنظام الشمولي.. صدقوا الآن أنهم باتوا أحراراً. ولكن على المستوى الاقتصادي والعمراني التغيرات أقل شأناً.. فالتركة ثقيلة والتخلف مريع. صنعته قرون من غياب إرادة الإنسان. الظروف الجغرافية والعزلة الجبلية التي امتدت قروناً.. رفدها الغزو الأجنبي والاحتلال الاستيطاني الطويل بتكريسه هوة عميقة وقفت حائلاً دون الاستفادة من التراكم الحضاري الأوروبي المحيط. الانفتاح الاقتصادي والانفراج السياسي بتجلياته المختلفة لم يجسد مؤشرات لتغيير مرتقب. اقتصاد السوق لم يعبر حتى الآن عن استثمارات كبرى من شأنها أن تقفز بالاقتصاد ليتماهى ولو قليلاً مع الاقتصاد الأوروبي. الأحزاب السياسية، حكومة ومعارضة، بانتظار عضوية الاتحاد الأوروبي.

    *
                  

العنوان الكاتب Date
مكي أبوقرجة .. وداعاً عبدالله الشقليني07-22-15, 12:05 PM
  Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً عبدالحفيظ ابوسن07-22-15, 01:20 PM
    Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً معاوية الزبير07-22-15, 02:26 PM
      Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً عوض حامد07-22-15, 02:31 PM
      Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً خالد العبيد07-22-15, 02:37 PM
        Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً نصر الدين عثمان07-22-15, 02:44 PM
          Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً بله محمد الفاضل07-22-15, 03:09 PM
            Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً محمد قسم الله محمد07-22-15, 05:41 PM
              Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً munswor almophtah07-22-15, 07:03 PM
                Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً عبدالله الشقليني07-22-15, 07:58 PM
                  Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً عبدالله الشقليني07-23-15, 05:16 AM
                    Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً محمد الجزولي07-23-15, 05:38 AM
                      Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً Bushra Elfadil07-23-15, 05:59 AM
                        Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً جلالدونا07-23-15, 06:18 AM
                          Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً الكيك07-23-15, 11:12 AM
                          Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً عبدالله الشقليني07-23-15, 11:40 AM
                            Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً عبدالله الشقليني07-23-15, 11:44 AM
                              Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً عبدالله الشقليني07-23-15, 11:46 AM
                                Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً mekki07-23-15, 03:39 PM
                                  Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً محمد أحمد الريح07-23-15, 04:58 PM
                                    Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً عبدالله الشقليني07-24-15, 04:10 PM
                                      Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً اميرة السيد07-24-15, 05:10 PM
                                        Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً مامون المعتصم أحمد07-24-15, 08:05 PM
                                          Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً معاوية المدير07-25-15, 08:03 AM
                                            Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً ANWAR SAYED IBRAHIM07-25-15, 08:16 AM
                                              Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً Yasir Elsharif07-25-15, 10:01 AM
                                                Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً محمد فضل الله المكى07-25-15, 10:48 AM
                                                  Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً نعمات عماد07-25-15, 11:15 AM
                                                    Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً عبدالله الشقليني07-26-15, 04:39 AM
  Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً Hamad Hamad07-26-15, 04:54 AM
    Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً عبدالله الشقليني07-28-15, 05:07 AM
      Re: مكي أبوقرجة .. وداعاً عبدالله الشقليني07-28-15, 05:10 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de