1 ـ اليقين قال الشاب: فحدثني عن الركن الأول من أركان المعرفة. قال جعفر: لقد قال الشاعر الصالح معبرا عنه: قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يرى للناظرين قال الشاب: لا أرى الناس إلا يشتركون في أبصارهم، ولا أرى الأبصار إلا تشترك فيما تراه، بل إن من الجاحدين من اخترع من الأجهزة ما استطاع به أن يبصر ما لا يراه الموقنون. قال جعفر: ليس الشأن في أن ترى ببصرك.. ولكن الشأن في أن ترى ببصيرتك ﴿ فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(الحج: من الآية46) قال الشاب: أيمكن أن تعمى البصيرة؟ قال جعفر: أجل.. حين تضع الحجب بينها وبين الحقائق الجلية، أو حين تصرف وجهها عنها. قال الشاب: العامة من الناس يدركون ذلك.. ويوقنون به. قال جعفر: عين البصيرة لها درجات ومراتب كدرجات البصر ومراتبه[6].. وليس للعارف منها إلا أكملها. قال الشاب: فما أكملها؟ قال جعفر: أن ترى ما تعرفه.. قال الشاب: كيف ذلك.. وأكمل المعارف وغايتها معرفة الله.. وقد حيل بينها وبين تحولها إلى رؤية، كما قال تعالى:﴿ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام:103) قال جعفر: وقد قال النبي r عندما سئل عن الإحسان:( أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك)[7]، وقال لمعاذ ـ رضي الله عنه ـ:( اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله عند كل حجر وكل شجر، وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر، والعلانية بالعلانية )[8] قال الشاب: ألا ترى أن هناك تناقضا بين الآية، وهذين الحديثين؟ قال جعفر: يستحيل أن يحصل التناقض بين الوحيين.. فمحمد r ﴿ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ (النجم) قال الشاب: فكيف تفسر إمكانية الرؤية التي نص عليها الحديث مع عدم إمكانيتها التي نصت عليها الآية؟ قال جعفر: الرؤية رؤيتان: رؤية مقيدة، تضع المرئي في حيز محدود تضيق عليه بها الخناق، وهي الرؤية التي طلبها بنو إسرائيل حين قالوا لموسى u:﴿ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً )(النساء: من الآية153)[9].. وطالب هذه الرؤية لا يعرف الله.. لأن الله لا يعرفه إلا من ينزهه.. ولا ينزهه من يطلب مثل هذه الرؤية.. وإلى هذه الرؤية الإشارة بقوله تعالى:﴿ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام:103) ورؤية مطلقة.. لا محدودة.. وهي رؤية يصاحبها التنزيه والتعظيم.. ولكن الحقائق ـ مع ذلك ـ تنكشف عندها انكشافا أعظم من انكشاف البصر، وإلى هذه الرؤية الإشارة بالأحاديث التي نصت على ذلك. قال الشاب: أهناك انكشاف أعظم من انكشاف البصر؟ قال جعفر: البصر قد يخطئ.. وقد يشوه المرئي.. وقد يتوهم الخيال حقيقة.. ولكن البصيرة لا يصيبها كل ذلك.. فأنوار الحقائق تحول بينها وبين ذلك. قال الشاب: فالموقن لا يرى إلا الأنوار إذن؟ قال جعفر: أنوار الحقائق.. لا أنوار الخيال، فالخيال قد يصور لك من الأنوار ما يكون حجابا بينك وبين الحقائق.. فتنشغل بالحس عن المعنى[10]. قال الشاب: أهكذا كان يقين رسول الله r؟ قال جعفر: لا يمكن أن يعبر عن أحوال رسول الله إلا رسول الله.. فلا يعرف النبي إلا نبي[11].. وما نحن إلا ظلال باهتة تحاول أن تقتفي آثار رسول الله. قال الشاب: فكيف عرفت أن لرسول الله من اليقين ما ذكرت؟ قال جعفر: لكل حقيقة أثرها.. والآثار كلها تدل على أن اليقين الذي كان عليه رسول الله r لم يجتمع لأحد كاجتماعه له. قال الشاب: فحدثني عن الآثار لأعرف من خلالها الحقائق. قال جعفر: سأذكر لك موطنين تتزلزل فيهما أقدام الرجال، لا يمكن أن يثبت فيهما إلا من أوتي من اليقين ما تندك له الجبال.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة