منذ فترة تراودني هذه الفكرة، وقد حفزني لها ما قاله أمبرتو إيكو الكاتب الإيطالي مؤخرا( تولستوي الزمن القادم أنا وأنت..)
هذه بداية لنص .. يمكن ان يكون طويلا لنبدأ في كتابته معا، ولننقد بعضنا بعضا، على أن نجمعه في كتاب واحد، أنا أتعهد بنشره، مع كتابة اسماء كل الذين كتبوا النص، حتى لو كانوا مائة
بداية النص، وقد لا تكون البداية
ماريا طفلة من بلدي، عيونها زرقاء، وجسدها أخضر، وشعرها كشعر الزنج، لم تنتسب يوما ما لآل البيت، ولم تدعي الفهلوة ولا الحكمة، لكنها كانت حكيمة وفهلوية،لم يربيها أب ولا أم، ربتها الشوارع والأزقة حين جاءت نازحة من الجنوب في زمن الحرب إلى الخرطوم، تبحث عن دفء الحياة في الشمال،هي لا تذكر تاريخ منبتها ولا تعرف كيف جاءت إلى هنا ولا الدولة نفسها تعرف شيئا عن تاريخ ماريا، هي لا تعرف ماريا، فكيف تعرف تاريخها إذن.
لا تعرف الكتابة ولا القراءة ولا النحو ولا الصرف ولا صراعات السياسة ولا أبعاد الحرب التي لفظت بها في غابة الخرطوم، وقد وجدت في الخرطوم غابة جديدة لا أشجار بها، ولا أحلام، أشجارها رجال لا يحملون ذرة عطف ولا حنان، وأحلام البنت ماريا في الغابة الجديدة قطعة خبز تجدها في أول الفجر أو أخر الليل في الزبالة، أما باقي حلمها أن تشاهد فيلما هنديا وهي تتسلق بجسدها الصغير حائط سينما " كلوزيم " في وسط الخرطوم، تتفاعل مع المشاهد، تضحك وتبكي، أليس من حق الإنسان أن يعيش، تلك حكمتها وأن كانت تقولها بشكل مختلف وبلهجة مختلفة تماما.
ماريا الآن طفلة في عمر الشوك، تتحدث العربية كأنها من مواليد نجد، لها أحلامها الصغيرة غير الخبز والسينما، بعد أن كبرت، صار عمرها ست سنوات، وفي هذا الصباح الجديد من ديسمبر عام 1992 شعرت بالفرح الطفولي يغمرها، أحست بحنان قادم يشعرها بأنها طفلة عندما وقف أمامها القس توماس، ضحك لها وضحكت لها، رأت في عينيه رائحة فرن وتخيلت أن بطلا من أبطال الفيلم الهندي جاء ليخلصها من الجوع، بصوتها المغسول بالبرد شهقت :
أنا جائعة أعرف ذلك، ولذا جئت لك هل ستقدم لي خبزا نعم وحلوى نعم وسيارة لا.. لا تسرفي في الطلبات، كل شيء في أوانه جيد
القس توماس ليس حكيما إلى درجة كبيرة، هو ما يزال في أول الدرب، دخل الكنيسة الكاثوليكية في الخرطوم وتخرج منها قسا، ثقافته جيدة، وأحلامه كبيرة لو تحدث عنها، لكن ما يشغله الآن هو العمل الموكل له منذ ليلة البارحة، كان قد قضى نصف الليل مع الفريق الأمريكي القادم لكتابة تقرير جديد عن الرق في السودان، الفريق يؤمن بأن إنقاذ الأطفال المشردين في الخرطوم أمر عاجل، لا يحتمل التأخير، استوعب توماس المهمة جيدا وبدأ نشطا مع الصباح الباكر في تنفيذ التكاليف، ولان ذاكرته خربة كان يستعين بمفكرة صغيرة يخبئها في جيب البنطال، يخرجها كلما فرغ من جزئية وانتقل لأخرى.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة