|
Re: تغريبة دار الريح.. رواية جديدة... (Re: احمد ضحية)
|
3 بعد أن تجرع جادين من برمة الشيخ الأرباب، آخر جرعة تبقت في قاعها، همس في أذن الساقية (مثيرة) أن تخبر (تام زين) أنه مرسال من طرف الخزين ود طبلة، فمضت مثيرة، وأخبرت تام زين، التي أمرتها بدعوته إلى راكوبتها الخاصة. وما أن مثل جادين جانو أمامها، وهو يتلفت يمنى ويسرى، حتى همس بكلمة السر: "دار الريح" فأجابته بحذر: "حُرّة" وعند إنتصاف الليل، والعتمّة تلف كل شيء، لتتبدد بين آن وآخر بالبروق، الخاطفة، غادر (الإنداية)، تتقدمه تام زين. سارا بإتجاه سوق البلدة. إجتازا صفوفا من الدكاكين، المبنية من الجالوص. والمتجاورة دونما تنسيق أو نظام محدد. إلى أن توقفت تام زين أمام أحد الدكاكين، في قلب السوق. كان مغلقا بطبلة إنجليزية كبيرة. أخرجت تام زين من محفضتها مفتاحا كبيرا، ومدته له: "أفتح الباب" مرت دقائق قليلة كأنها دهرا بكامله، حتى تمكن من فتح الباب. تقدم بحذر وتردد. أشعلت تام زين عود كبريت، وبحثت في مكان محدد من زوايا الدكان. عثرت على لمبة جاز (أم قيطان، حبوبة ونسيني). كانت رائحة هي مزيج من رائحة العطن والجلود المدبوغة، تهيمن على المكان بكثافة! كانت محتويات المخزن، التي يعلوها الغبار لا تلفت الإنتباه: شوالات خيش، قصرية طلس قديمة، كوريك وطورية متشابكين، وأواني ألمونيوم وثياب قديمة هي الأخرى، وبعض الأدوات البلاستيكية، غير محددة الوظيفة.. بدت متشققة، ولوحات مائية رسم عليها باللون الأحمر، مطرقة وسندان وطورية ومنجل متعانقون، على خلفية من الشمس البيضاء.. كان كل شيء قديم جدا لحد مريع! نظر إليها في إستفهام، فابتسمت وهي تشير إلى الأرض: "انزح التراب عن هذا المكان" أمسك بالكوريك و بدا ينزح التراب، حتى تبين له باب خشبي صغير بمقبض. جذبه إليه بشدة، فتبين تحته فوهة مربعة، يستند على جدارها سلما. إلتفت إليها متسائلا، فسارعت بالقول: "إنتهى دوري هنا. سينتهي بك السلم، إلى غرفة ستجد فيها ما تريد" ثم مدت له لمبة الجاز وغادرت.. كانت الغرفة صغيرة الحجم، تناثرت على أرضيتها صناديق وكراتين صغيرة الحجم، وعلى جدارها صندوق خشبي متوسط الحجم يشبه (السحارة).. كانت كل كرتونة أو صندوق، قد لصقت عليه ورقة عليها محتويات الصندوق أو الكرتونة: الحركات المسلحة، عامة الناس، المثقفين والفنانين والشعراء، الإندايات، الثلاثة الكبار: الطائفي المستنير(أو الأمير المخلوع) الطائفي الجشع أو (شهبندر التجار)، العرّاف أو (عراب حزب الحقيقة المطلقة)، الإنقلابي أو (الحاكم العام)، العسس، الجيش،المجلس الثوري الديموقراطي السلمي، المجلس الثوري الديموقراطي المسلح، الصعيد، دار الريح، إلخ، إلخ... كانت السحارة تكاد تكون شبه خالية. أزاحها.. رأى تحتها ما يشبه الباب الصغير.. جذبه نحوه.. إنفتح عن فوهة تسمح بدخول جسمه. أفضت به إلى قبو قديم، لا يمكن لأحد أن يتصور وجوده.. فوجيء بسبعة جثث في ثياب من الكتان بحالة سيئة، متراصة إلى جانب بعضها البعض ومحنطة، وأمام كل جثة منها قطع أثرية وصلبان ومخطوطات، وأدوات أخرى غريبة من الفخار والعاج والأبنوس والنحاس والحديد والذهب والفضة، تشبه الأواني المنزلية وأدوات القتال والحروب. كان من الواضح أنه سرداب أثري، يبدو أن صانع الفخار أنفق زمنا طويلا في دراسة محتوياته. إذ كانت ثمة تدوينات، بدى له خط الخزين بقلمه البوص واضحا في هوامشها. قرب الضوء من التدوينات والهوامش أكثر. كان أصحاب الجثث المحنطة قد فارقوا الحياة، وهم في أعمار تجاوزت الأربعين بقليل عدا جثة واحدة؟!.. وكانت الجثث ومحتويات السرداب تعود للحقبة، التي ظهرت فيها دولة (المقرّة).. الجثة الرابعة من اليمين، كانت للمطران جيورجيوس، الذي توفي في عام 1113 وهو في الثانية والثمانين من عمره، بحسب نقش كتب على ضريحه التذكاري! ثمة عدد من الإشارات في تدوينات صانع الفخار، إلى المعابد والأديرة، التي شيدت على أرض (المقرة)؛ التي إندثر تاريخها، كما تمضي البلاد الكبيرة الآن إلى الإندثار! معرفة جادين جانو بصانع الفخار والخزين، لم تكن وليدة الصدفة، كانت علاقة عميقة في الزمان والمكان، وغائرة في كل الحكايات التي لم تروى، والخطب التي لم تلقى بعد!!. إذ كان جادين دائما موجود حيث وجد أحدهما!.. موجود بين المتحلقين حول الخزين، وهو يروي عن البلاد الكبيرة، ما تواتر من حكاياتها.. وموجود بين المتحلقين حول صانع الفخار، وهو يهمهم بخطاباته الثائرة، ويزرع فيهم الأمل، في غد طال إنتظاره! كان موجودا في كل الوجوه التي عرفاها، بينه وبينهما شعرة، شعرة فحسب! لكن أبدا لا تنقطع. فلا هو راغب في الغرق في عالمهما المعقد، المتشابك. ولا هو بقادر على النأي بنفسه، بعيدا عن هذه الوجوه الحُلُمية، التي تتراءى أحيانا كوهم أو كوابيس ليلية! ومع ذلك، كان يمسك بأطراف هذه الكوابيس، فيما خلفه صانع الفخار وراءه من تدوينات. ويفلتها من آن لآخر.. من هنا.. من خلال نافذة غرفته الجالوص، المطلة على مقرن النيلين، كانت الحكايا هي الأخرى تفلته حينا، وتستعيده حينا آخر، لتحمله خيباتها وجراحاتها، التي خطت على وجهه، كل آثار السنوات العجاف، كما خطت على قلبه المهشم، تصدعات وشروخات آلاف السنوات، التي مرّت عابرة على البلاد الكبيرة، دون أن تتريث لتبدي ملامحها، إذ سرعان ما تنحسر، كشحنة من الشجن والإنفعال، الذي لا يخلف سوى الحسرة والأسى العميق. فالبلاد الكبيرة، أشبه بتداع عابر، بل هي.. كإنبثاق مباغت من العدّم! فهي وبلداتها القديمات من أغرب البلدان، بطابع عمرانها المزدوج، الذي بقدر ما تنهض فيها العمارات السوامق، والبنايات الحديثة والمعاصرة، ذات الطوابق والأبراج، بقدر ما تحتضن بين جنباتها، كل مخلفات التاريخ القديم، من معمار مشوّه، وأبنية بدائية، تعود لطفولة الجنس البشري، في صراعها مع قوى الطبيعة المدمرة! وعلى الرغم من كونها جسرا بين شرق الكون-فهي البوابة الأم للنجوم- وغربه وشماله وجنوبه. ظل حظها من علوم الفضاء منعدما، فالفضاء بالنسبة لها ترجم فيه الشهب الشياطين؟! وهكذا ظلت معزولة عن همسات أقوام الفضاءات البعيدة -حيث تظن أنها موطن الآلهة، وفقا لإجتهادات عرافها- كما هي معزولة في الجغرافيا والتاريخ! رغم التساؤلات التي تتمللك زوارها من الآثاريين والباحثين، فيسعون للإجابة عليها دون كلل أو ملل، إلا أنها في عيون سكانها، ظلت على الدوام منبعا للقلق والحيرّة، لا ينضب. كبلاد ينتمون إليها ولا ينتمون إليها. إذ كان أغلبهم يشرئب بمشاعره ووجدانه، خارج حدودها الواسعة المتسعة، في تعاسة كونية غير مسبوقة! وهؤلاء كان قد ترسخ نحوهم في لُب الخزين، إعتقاد قوّي بأنهم مستلبين، وخونة لتراب هذه البلاد وشمسها الغائظة، ولبشرتهم السوداء التي هي سيدة البشرات! بعد أن ظل الحكام العامين المتعاقبين، منذ الإستقلال من المستعمر الأجنبي، يسمحون لمُلاك الحقيقة المطلقة، الذين هم فقهاء الظلام، وحراس النوايا شذاذ الآفاق. بتغذية هذا النّوع، من مشاعر الإنتماء الضّالة، الغريبة، للبلدان خارج حدود البلاد الكبيرة. ولذلك وطن الخزين نفسه على الإعتقاد بأن: "البلاد الكبيرة لا شبيه لها في بؤسها، رغم أن هُوِّيتها داخل حدودها، فهي لطالما إكتفت بذاتها، منذ إختلطت فيها الأقوام وتمازجت، منذ عصور سحيقة". لكن من أين جاءتهم هذه الأفكار الفانتازية حول أصلهم وفصلهم؟لقد مثل الدين رأسمالا معنويا لا غنى عنه للثلاثة الكبار، لإستدرار عواطف الناس بغرض الحصول على مكاسب مادية، وهكذا تطابقت في أذهانهم هوية البلاد الكبيرة مع الدين العقيدة، فأصبح لا غنى للعقيدة عن اللغة والعرق! وهكذا تم إستهداف كل اللغات والأعراق الأخرى، والتكريس للغة والعرق المنسوبين للدين على حسابهم! تلمظ الخزين رغوة المريسة على شفتيه، ونهض في تثاقل، ومضى إلى طرف الدار، حل تكة سرواله وأخذ يبول وقد تملكه إحساس عميق بالإرتياح!.. نواصل
|
|
|
|
|
|
|
|
|