قصتي مع مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-13-2024, 00:21 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-28-2013, 02:09 AM

Ridhaa
<aRidhaa
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 10057

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف (Re: Ridhaa)


    أما بالنسبة لي وقد تحسنت حالتي كثيراً فقد صُنفت كحالة متوسطة إذ أنني كنت أستطيع المشي بحذر منتعلة حذائي الرياضي .

    في تلك البقعة النائية من العالم يحس المرء برودة الوحدة تسري في أوصاله والتي يضاعف من وطأتها ساعات الفراغ الطويلة، فقد فات عليَّ في غمرة إنشغالي بترتيبات السفر أن أحضر معي من الكتب ما يعين على ملء ذلك الفراغ.. صحيفة الحياة، وبعض المجلات العربية التي يجلبها زوجي من مكتبة قرب جامعة »هارفارد« هي أقصى ما كنا نطمع فيه.
    القناة التليفزيونية الوحيدة في الغرفة محلية ليس فيها ما يجذب.. وحشة في كل شيء أنا ونوار في الغرفة.. زوجي يمضي معنا كل الوقت ثم يذهب ليبيت في الشقة القريبة من المستشفى.. الأكل ماسخ.. كل شيء ماسخ.. إفتقدنا أهلنا.. دفئهم.. حرارتهم.
    الوجه السوداني الوحيد الذي رأيناه كان وجه إبننا طارق -حفيد السلطان علي دينار- بحكم عمله المؤقت في الشركة المسئولة عن علاجي فهو أصلاً يدرس الطب وهو أيضاً حفيد السيدة العظيمة نفيسة كامل وإبن السيدة سميرة حسن على كرار .
    طارق وأمثاله من الشباب فرضت عليهم ظروف واقعنا السوداني المرير أن يحملوا الهم باكراً.

    تلفونات أخي وزوجته والوالدة.. وبعض المكالمات من أبوظبي والقاهرة وولايات أمريكا تُسري عني قليلاً.. الوالدة لا تستطيع الحضور .. الرحلة طويلة من (فيرجينيا) إلى (بوسطن).. ثمانية ساعات وهي في طور نقاهة من عملية تغيير مفصل الركبة.. يحضر أخي الفاتح وأبناؤنا الصادق ومنى مهلب عبدالرحمن علي طه ومحمد عبدالرحمن محمد علي. الفاتح حمل لي معه مجموعة من جرائد الشرق الأوسط ومجلات سيدتي القديمة.. رجعوا في صبيحة اليوم التالي.. الحياة هناك قاسية لا ترحم.. الإنسان هناك مثل الترس في الماكينة لا يملك إلاَّ أن يدور معها حتى يحصل على ضروريات الحياة.

    وأخيراً شاء الله لوحشتنا أن تتبدد بعد أن علم بوجودنا بابكر محمد عبدالكريم بدري إبن أختي وبنت خالتي ستنا بابكر بدري والذي أخذ على عاتقه مهمة تعريفنا بمعالم المدينة، فكان يصطحبنا مع أسرته بالسيارة في جولات شملت كل أرجاء (بوسطن) وعن طريق بابكر علمت بوجودنا الدكتورة شاهيناز أحمد عبد الكريم بدري - إبنة رفيقة طفولتي سلافة خالد موسى - فزارتنا مع أسرتها أيضا وأكرمت وفادتنا.

    في تلك الفترة وصل دكتور يونس عبدالله مختار إلى مدينة (بوسطن) في رحلة عمل كان يزورنا خلالها بالمستشفى .. وفي أمسية معينة بالذات كان فيصل يشكو لدكتور يونس من رداءة الأكل في المطاعم فاقترح عليه أن يصطحبه إلى مطعم أثيوبي معين إشتهر بوجباته المتبلة التي تقارب الأكل السوداني .

    وتشاء الصدف أن تكون في المائدة المجاورة لمائدتهم سيدة سودانية جاءت برفقة إبنها الشاب وزوجته طالبة الجامعة الباكستانية الأصل .

    كانت السيدة هي ثريا بشير حامد زميلة دراستي.. جمعتنا أم درمان الثانوية.. وجمعتنا جامعة القاهرة الفرع بالخرطوم بعد ذلك ثم تفرقت بنا السبل والدروب .

    هرعت إلىَّ ثريا بكل الشوق واللهفة وكلانا في دهشة أن يكون لقاؤنا الصدفة في تلك البقعة النائية من العالم .

    تحدثنا وضحكنا كثيراً ونحن نتذكر أيام المدرسة وحياة الداخلية .. وهكذا كانت تلك الأيام القليلة التي أمضتها ثريا معي مدعاة لإدخال البهجة إلى نفسي ورفع روحي المعنوية .

    ذات يوم حملت إلىَّ الممرضة الأمريكية وعاءً تتوسطه باقة جميلة من الورد.. دهشت وقلت لها إنها ربما أخطأت العنوان فليس هنا من يعلم بوجودنا غير الذين ذكرتهم.. ولكنها أرتني بطاقة مثبتة في الباقة .

    كانت تلك الباقة الجميلة المعطرة مهداة لي من ابني حسن محمود ساتي (ابن الكابتن طيار محمود حسن ساتي) وزوجته ولاء .

    حسن ساتي صديق ابني عبد الرحمن منذ فترة الجامعة وهو يقيم في ولاية (شيكاغو) ولكنك هناك تستطيع عن طريق التلفون أن تكلف أيَّاً من الشركات المتخصصة في بيع الزهور بإرسال ما ترغب في إرساله من أنواع الزهور إلى أيِّ عنوان في أمريكا.

    الممرضات وأخصائيات العلاج الطبيعي يؤدين واجبهن بدقة وفق البرنامج الذي وضعوه لإعادة تأهيلي .

    الشيء المهم الذي حصلت عليه في تلك الرحلة هو قالب مصنوع من البلاستيك المقوّى مشكَّل علي هيئة باطن قدميَّ ووفق مقاسهما ويمتد على طول الساقين من الخلف .. يُدخل القالب في حذاء الرياضة ثم يُثبَّت من أمام الساق بأربطة .. وبتلك الطريقة أستطيع أن أمشي وأتحرك بطريقة عادية وطبيعية ، وأنا أرتدي البنطلون الذي يؤمِّن لي حرية أكبر في الحركة، وحتى تتضح معالم الصورة أكثر للقارئ أوضح أن هذا المرض وغيره من بعض أمراض الشلل يسبب ارتخاء في القدم نتيجة الضعف الذي يصيب العضلة التي تعلو كعب القدم خلف الساق ومن ثم تتأتى أهمية هذا الجهاز من أنه يشد القدم إلى أعلى ويثبتها في الوضع الطبيعي فلا يتعثر حينها المريض عند السير .. ويداوم المريض على استعمال هذا الجهاز مع رياضة المشي لمسافات طويلة إلى أن يتعافى تماماً .

    وبعد أن إنتهت مرحلة العلاج الطبيعي في مركز (Spaulding) في مستهل شهر يونيو توجهنا بالقطار إلى (فيرجينيا) حيث يقطن أخي وأسرته .

    الرحلة بالقطار ممتعة رغم طولها .. القطارات هناك مجهزة بأحدث الوسائل.. يوجد بها بوفيه يُقدم فيه الشاي والقهوة والمشروبات المثلجة إلى جانب الوجبات الخفيفة.. المقاعد الأمامية لذوي الإحتياجات الخاصة حتى يتسنى لهم التحرك بسهولة عند الذهاب إلى المرافق الصحية.. القطار ينهب بنا الأرض نهباً ماراً في طريقه بالخضرة الممتدة على مرأى البصر.. خضرة تتخللها بين كل مسافة وأخرى مجموعة من الأشجار الطويلة المزدهرة مما يخفف من وطأة الملل لدى المسافر ويبعث في نفسه الإحساس بالبهجة .

    بجوارنا كانت تجلس أسرة أندونيسية تتكون من زوجين في مقتبل العمر وطفلهما ذي الخمسة أعوام.. الطفل لا يكف عن الحركة.. تذكِّرني تقاطيع وجهه وخاصة عيناه بجفونهما الثقيلة المنتفخة (برغدة) إبنة أخي التي جاءت إلى السودان لأول مرة مع والدتها وأخواتها (ريلة) و (رزان) في العطلة الصيفية التي تزامنت مع مناسبة زواج إبني عبد الرحمن.
    القطار يصل بنا مدينة (واشنطن).. المحطة كبيرة يتوه فيها الإنسان.. يستقبلنا أخي الفاتح وإبننا عبدالباقي علي عبد الله ثم نتوجه بالسيارة إلى (فيرجينيا) التي تبعد نصف ساعة من (واشنطن(

    في المنزل إلتقيت أمي وناهد وبناتها الحبيبات وسعدت بالضيفة الجديدة (روان) التي انضمت إلى الركب .

    محي الدين خلف الله (أخو ناهد) يصر على أن يذبح خروف الكرامة إحتفاءً بقدومنا واحتفالاً بمناسبة تماثلي للشفاء .. نمضي في منزله لحظات سعيدة بوجود أخيه عصام وزوجته وبعض الأهل .
    وما أن تناهى خبر قدومنا إلى (فيرجينيا) إلى أسماع الأهل والأصدقاء حتى خفوا لتحيتنا وللإطمئنان على صحتي.

    إبن خالتي وأخي عصام عبد الغفار يحضر فرحا سعيدا باللقاء والشفاء .

    الأخوات الدكتورة دينا شيخ الدين وليلى عبد العزيز الكابلي وأبناؤها ومنى إبراهيم عثمان اسحق وعفاف عوض ساتي (رحمها الله) وزوجها الدكتور سلفاب وزميلة الدراسة آمال شديد والأخ علي حمد إبراهيم .. كلهم أشاهدهم بعد طول غياب فيذكرونني بتلك الأيام البعيدة المليئة بالخير والجمال .

    وتزيد حصيلتي من السعادة بالتعرف على زوجات الإخوة أسامة نقد الله وفايز عبد الرحمن عبد المجيد والطيب السلاوي وأخريات وآخرون فلهم مني من الشكر أجزله وأطيبه .

    أيام جميلة أمضيتها في »فيرجينيا« شحنت روحي بالتفاؤل وأمدَّت عضلاتي بالطاقة والقوة غادرنا بعدها إلى أبوظبي في رحلة طيران طويلة إستغرقت أكثر من أربع عشر ساعة .
    ومنذ وصولنا ودارنا لا تفرغ حتى تمتليء من جديد بوفود المهنئين بسلامة الوصول والشفاء .. القلوب المحبة والوجوه المتلألئة بفرحة عودتي ترفع من روحي المعنوية وتزود جهاز المناعة في جسدي بالقوة فأحس بأني أسير بخطى حثيثة نحو الشفاء الكامل .

    وفي وسط ذلك الفيض من الأفراح عاد إبني واصل من القاهرة ليدخل البهجة إلى نفوسنا بنجاحه وتخرجه من الجامعة الأمريكية بالقاهرة .. أزداد فرحة وقوة .. أشكر الله .. ولئن شكرتم لأزيدنكم .. ها هيَّ ابنتي (لميس) كريمة الدكتور سليم صادق وعروس ابني عبد الرحمن تفاجئنا ببشرى نجاحها وتخرجها من جامعة الخرطوم .. ما أجمل الدنيا .. وما أوسع رحمة الخالق .

    لميس وعبد الرحمن يستقران في عش الزوجية ليواصلا مشوارهما معاً تحرسهما عناية الله وتتبعهما دعواتنا الصالحات بالذرية الصالحة والسعادة الخالصة التي لا تشوبها شائبة .
    وبعد أن فرغت من إستقبال الزوار والمهنئين توجهت برفقة زوجي وابنتي إلى مستشفى زايد العسكري في زيارة كان لابد منها لأُناس قد قدموا لي الكثير.. ملائكة الرحمة الآسيويات في قسم العناية المركَّزة وقسم الباطنية يستقبلن زيارتي لهن بمظاهرة من الفرح والإبتهاج وأنا أدخل عليهن لأول مرة ماشية على قدميَّ.. أوزع عليهن هدايا رمزية من علب الحلوى ثم أتجه إلى قسم العلاج الطبيعي لأحظى بمثل حرارة الإستقبال التي حظيت بها في الأقسام السابقة .

    وهكذا أغادر ذلك المستشفى العريق الذي حملني بين جنباته في أحلك فترة من فترات حياتي وأنا أحمل له في قلبي وللعاملين به أسمى آيات التقدير والامتنان.

    وفي شهر سبتمبر وبعد إجراءات طويلة معقدة تمكنا من الحصول على إقامة لوالدتي التي ستقيم معي طوال عمرها المديد إن شاء الله وتلك أيضاً مكافأتي من ربي على صبري بأن أمدَّ في عمري لأخدمها في كبرها كما رعتني في صغري.@

    في تلك الفترة عمرو في القاهرة يعكف على دبلوم يؤهله للإعداد لدرجة الماجستير بالولايات المتحدة الأمريكية فيما واصل قد سبقه إلى هناك والتحق بجامعة دالاس بولاية تكساس .

    وتأبى سنة andamp;#1634;andamp;#1632;andamp;#1632;andamp;#1632; وهي تصافحني مودعة إلاَّ أن تمنحني مكافأتها الأخيرة والتي لم تكن تخطر لي على البال . وتنطلق أهمية تلك المكافأة من أنها تدخل في إطار الكتابة .. هذه الهواية التي طالما أحببتها وتمنيت ممارستها دائما لولا بعضٌ من كسل يعود على ما أعتقد إلى أنني قارئة نهمة بطبعي أميل إلى أن أعُب أكبر قدر من أفكار الآخرين وكتاباتهم مما لا يدع لديَّ وقتاً للكتابة .

    وقد درجت في وقتٍ من الأوقات على تحرير مقالات في (واحة) صحيفة الإتحاد بدولة الإمارات العربية المتحدة ضمن نخبة مختارة من الكتاب والأدباء من مختلف البلدان العربية ، وكان ذلك في حد ذاته يمثل تحدياً كبيراً لي لا سيما وقد كنت القلم النسائي الوحيد في وسط تلك المجموعة .. وهكذا داومت على الكتابة بهمة وحماس إلى أن قام صدام حسين بإعتدائه الغاشم على دولة الكويت وتغير تبويب الجريدة تبعا لمستجدات الحرب وتوقفت (واحة) الإتحاد نهائياً وبالتالي توقفت كتاباتي .

    كما كنت أيضاً أمارس كتابة قصة العدد في مجلة »ماجد« للأطفال التي تصدر عن مؤسسة دار الإتحاد للنشر بأبوظبي وهو نفس مجالي سابقاً حيث عملت لفترة من الوقت قبل إنتقالي لأبوظبي محررة بمجلة (الصبيان) التابعة لدار النشر التربوي بالخرطوم .. ولما انتقلت للقاهرة مع أبنائي واصلت هواية الكتابة لجريدة (الخرطوم) إبَّان فترة صدورها من القاهرة وكنت أنوي مواصلة الكتابة لولا مرضي .

    بعد السرد الذي لابد منه لأنه يدخل في صميم المكافأة التي أنا بصدد الحديث عنها والتي تمثلت في أن الله قد أوقف لي في طريقي الأخ السيد محمود صالح عثمان صالح مؤسس وراعي مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي فأشعل جذوة الحماس في داخلي للكتابة من جديد
    وأعادني مرة أخرى لهذه الهواية المحببة إلى نفسي .

    والسيد محمود صالح رجل مسكون بحب العلم والثقافة سعى لإنشاء مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأم درمان الذي ما لبث أن أثبت في سنوات قلائل وجوده في الساحة الثقافية السودانية.. ومن أهم أهداف المركز نشر كل ما من شأنه أن يعمل على إثراء المكتبة السودانية أو يضيف إليها .

    شجعني السيد محمود صالح على جمع مقالاتي تلك في كتاب بعنوان »ذكريات وخواطر« بعد أن أطلع عليها. كذلك تكفل المركز بنشر كتاب لي يضم مجموعة قصصية للأطفال بعنوان (القافلة)، ومنذ ذلك الوقت إستغرقت بهمة ونشاط طوال شهر يناير وفبراير ومارس من عام andamp;#1634;andamp;#1632;andamp;#1632;andamp;#1633; في الكتابة والتنقيح والإضافة وأنا الآن في إنتظار أن تصل الكتب إلى أيدي القراء .

    وعندما كان فنان المركز يقوم بإعداد الرسومات المناسبة لمجموعتي القصصية بالأطفال اطلع على هذه القصص الشاعر والأديب المعروف الأستاذ محجوب شريف، وقدم عرضاً لها بجريدة الصحافة كذلك نُشر عرض للكتاب في صحيفة الاتحاد الظبيانية في نوفمبر andamp;#1634;andamp;#1632;andamp;#1632;andamp;#1633; وفي صحيفة البيان الظبيانية في andamp;#1640; أبريل من عام andamp;#1634;andamp;#1632;andamp;#1632;andamp;#1634; ، الأمر الذي ربما يحفزني للعودة مرة أخرى إلى هذا المجال الذي يفتقر إليه أطفالنا إذا ساعدتني الظروف وواتتني الأفكار المناسبة .

    أما أكثر ما أسعدني في كتابي الثاني »ذكريات وخواطر«@ فهو أني قد أهديته لروح والدي.. وأنا إذ أذكر والدي في هذا الإطار أجد نفسي رغماً عني وقد تداعت السنوات القهقري طفلة في منزلٍ يلجه أنماط متباينة من البشر كلهم تجمع بينهم الحاجة.. التلميذ الذي تقف المصاريف حائلاً بينه وبين الدراسة .. المدرس الذي يرجو نقله بجانب أسرته بعد وفاة والده.. المريض يحتاج العلاج والدواء.. الأرملة فقدت عائلها.. العاطل ينشد عملاً وأنماطاً أخرى كثيرة تسعهم الدار ولا يضيق بهم صاحب الدار وكيف يضيق بهم وهو دوماً يلقاهم بوجهٍ بشوش ضاحك يتبعه بدعابات طريفة كانت جزءاً من شخصيته مما يرفع عن كاهل صاحب الحاجة الإحساس بالحرج .

    شببت عن الطوق فرأيت في والدي إنساناً صريحاً واضحاً شجاعاً يرفض أن يحني هامته أمام أيِّ نظام شمولي مهما كانت شراسته.. عارض سياسة مايو المرتجلة في وزارة التربية والتعليم فكان أن أُعفي من منصبه وأُعفى معه وكيل الوزارة المرحوم مندور المهدي وعميد بخت الرضا المرحوم أحمد حامد الفكي، وكالعادة صدر قرار الإعفاء من خلال المذياع في أخبار الساعة الثانية والنصف بعد الظهر .

    وحسبما جاء في المذكرة المؤرخة في andamp;#1636; أغسطس من عام ،andamp;#1633;andamp;#1641;andamp;#1638;andamp;#1641; والتي رفعها دكتور محي الدين صابر وزير التربية آنذاك إلى مجلس وزراء إنقلاب مايو فقد كان سبب الإعفاء هو »عدم التجاوب مع ثورة مايو المظفرة وعدم التعاون مع العاملين وبخاصة إتحاد نقابات المعلمين والمعلمات«.

    وفي صبيحة اليوم التالي من صدور قرار الإعفاء كان منزلنا في ثكنات الجيش الإنجليزي (البركس) يعج بأفواج المعلمين والمعلمات وعلى رأسهم قيادات نقابات المعلمين الذين ورد في المذكرة أن الإعفاء جاء بسبب عدم التعاون معهم... كلهم هرعوا إلى منزلنا مناصرين ومؤيدين حتى أن جدي لأبي قال له مداعباً: »الزول ما بعرفوا قيمته إلاَّ بعد موته دحين يا ولدي إنت عرفت قيمتك في حياتك« .

    وقد دحض المرحوم عبد الخالق محجوب تلك المزاعم أيضاً عندما زار الوالد في منزله برفقة الدكتور محمد سعيد القدال وأكدا له أن ليس لحزبهم أو أيٍ من نقابات المعلمين التي يسيطرون عليها بما فيها إتحاد المعلمين العام دخل بتلك التوصية فيما يتعلق به .
    ثم تمضي الأيام ويسقط نظام نميري كأيِّ شيء هش تذروه الرياح ويُعرض عليه منصب وزير التربية والتعليم بعد الانتفاضة ، ولكنه يعتذر عن المنصب فلم يكن والدي وهو يؤدي عمله يوماً من طُلاَّب المناصب أو الجاه ، ولعل الكثيرين من تلامذته قد ساروا على نهجه .
    وفي هذا المعنى يحضرني رثاء للوالد قرأته في صحيفة الرأي العام ، ونشر لاحقاً في جريدة (الخرطوم) إبَّان فترة صدورها من القاهرة .. الرثاء بقلم الأستاذ صادق عبد الله حامد .

    وقد كان أكثر ما استوقفني في ذلك الرثاء أو بالأحرى أذهلني هو مقدرة ذلك التلميذ في الولوج إلى عمق شخصية أستاذه بتلك البراعة والتي كان من نتاجها قطعة أدبية رائعة أحسبها من أجمل ما قرأت في رثاء تلميذ لأستاذه ، وقد زَّينها التلميذ بمآثر ومناقب الأستاذ كما يزِّين الصانع الماهر الحلية الذهبية باللآلئ والأحجار الكريمة فجاءت على ذلك النحو من الصدق والجمال الذي ينم عن شفافية روح صاحبها العامرة بكل معاني الخير والوفاء .

    لم يُذكر عن والدي أنه تخلف عن دفن أو تشييع ميِّت يسمع به طوال حياته.. عربته (الفلوكس فاجن) الصغيرة، وبعدها (الفولجا) تنهبان الأرض نهباً بين العاصمة الخرطوم ومدني ورفاعة وما جاورهما من قرى (حَّلال) لا تثنيهما العواصف والأمطار والرعود.. حتى عندما كبر وذوى عوده ظل لآخر لحظة يؤدي ذلك الواجب المقدس مشفعاً إياه دائما بمبلغ نقدي »مساعدة الفُراش« وكانت له عبارته المأثورة »أنا لا يمنعني من تشييع ميِّت أسمع به إلا إذا كنت أنا في النعش مكانه«.

    وقد عبَّر الأهل والأصدقاء بمدينة »رفاعة« بلد والدي ومسقط رأسه عن وفائهم بإقامة حفل تأبين له حضره عدد من تلامذته وأصدقائه وقرروا من خلاله أيضاً إطلاق أسمه على مدرسة في مرحلة الأساس.. ذلك القرار الذي عُرض عليه مراراً في حياته وكان يرفضه دائماً.

    وأعود بالقارئ مرة أخرى إلى ما حباني الله به من نعم ومكافآت جزاء صبري على دائي وشكره على ابتلائي فأتحدث عن مكافأتي الأخيرة والتي أسميها مسك الختام .

    وقد تلقيت تلك المكافأة في مستشفى الكورنيش للولادة بأبوظبي عندما كنت مع ابنتي (لميس) أشاطرها ووالدتها وعبد الرحمن آلام المخاض.. تعذبنا من أجلها كثيراً.
    وجاءت صرخة المولود في السادس من أبريل .. جاء »عبد المنعم« إلى الوجود فرقص الوجود

    .. جاء في الذكرى السنوية الثالثة لوفاة جده الكبير عبد المنعم عبد اللطيف ، وفي الذكرى السادسة عشرة لانتفاضة أبريل المجيدة.. مكافأتي الكبرى يا ربي .. حفيدي الأول.. حملته بين ذراعيَّ وأنا أرتدي الثوب السوداني لأول مرة بعد أن خلعت (البنطلون) الذي فرضته علىَّ ظروف المرض.

    ومع إطلالة النصف الثاني من هذا العام السعيد لملمت إبنتي نوار التي ضحت معي بوقتها ودراستها حاجياتها وحزمت أمتعتها وغادرتنا للسودان للإعداد لدرجة الماجستير بقسم الدراسات العليا بجامعة الأحفاد للبنات.. ودَّعتها ودعوت لها بالنجاح والتوفيق بعدد كل ثانيةٍ رعتني فيها وبعدد كل لحظةٍ شاطرتني فيها عذاباتي وآلامي .

    وفي الختام عزيزي القارئ أرجو ألا أكون قد أثقلت عليك وعطلتك معي في بعض محطات من رحلة حياتي، ولكنه ذلك الحجر الذي قذفته أحداث ورمت به وجوه -طال العهد بها- في بركة ذكرياتي الساكنة فحركتها بعنفٍ وقوة فكان النتاج هذه السطور، والتي لم يكن لها أن ترى النور لو لم يشملني الله بعنايته ورحمته ويخرجني من ذلك النفق المظلم الذي قضيت في غياهب ظلمته أياماً مجللَّة بالسواد.. أياماً طويلة مهولة كنت أقبع فيها ساكنة بلا حراك وبلا حول ولا قوة ولا قدرة على فعل شيء سوى انتظار نهاية ذلك الصراع الضاري بين الموت والحياة على جسدي الضعيف .

    وها أنا ذا وقد لبست ثوب العافية وأحكمته جيدا حول جسدي أردد لنفسي ولكل صاحب داء الآية الكريمة »ولا تيأسوا من رَّوْحِ الله إنه لا ييأس من رَّوْحِ الله إلاَّ القوم الكافرين«.





    http://www.sudanelite.com/news.php?action=showandid=8657
                  

العنوان الكاتب Date
قصتي مع مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف Ridhaa08-28-13, 01:55 AM
  Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف Ridhaa08-28-13, 01:57 AM
    Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف Ridhaa08-28-13, 01:59 AM
      Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف Ridhaa08-28-13, 02:01 AM
        Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف Ridhaa08-28-13, 02:02 AM
          Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف Ridhaa08-28-13, 02:04 AM
            Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف Ridhaa08-28-13, 02:07 AM
              Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف Ridhaa08-28-13, 02:09 AM
                Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف محمد أحمد الريح08-28-13, 12:54 PM
                  Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف Ridhaa08-28-13, 09:52 PM
                    Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف Barakat Alsharif08-29-13, 06:43 AM
                      Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف عمار عبدالله عبدالرحمن08-29-13, 08:52 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de