|
Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف (Re: Ridhaa)
|
مساء السبت ساقايَّ تزدادان ضعفاً .. أرفض الإستسلام لتلك الإنذارات. أقرر أن أذهب إلى المطبخ وأنا أحمل في يدي كوباً به قليل من الماء.. أبنائي كل في غرفته يستذكر دروسه أو ربما أمام شاشة الكمبيوتر.. ولهم عذرهم فلم أشأ أن أخبرهم بما أعاني.. ربما إنني حتى تلك اللحظات كنت أغالط نفسي أو لم أتعامل مع الأمر بجدية.
وأنا أهبط الدَرَج في نهاية الممر إلى الصالة إذا بقدمي اليسرى تنثني وأجدني قد هويت بكل ثِقَلي على السجادة وقد سقط الكوب الزجاجي من يدي وتناثر الماء القليل الذي بداخله على السجادة .
في تلك اللحظة رنَّ جرس التيلفون على الطاولة أمامي .. رفعت السماعة .. كان زوجي من الطرف الآخر يسأل عن حالة ظهري ويلح عليّ بضرورة العودة لأبوظبي .. وأن لا أهمل الأمر و ... و ... و ....
وأنا هناك على الأرض قدمي تئن من الألم وقلبي واجف مما هو آتٍ وكأنَّ سقوطي المفاجئ على الأرض والذي لم أجد له تبريراً معقولاً قد نبهني إلى خطورة الحالة التي اعترتني. طمأنته وأخبرته بأنني سأذهب غداً مع فوزية لأخصائي العظام بمستشفى السلام بالمعادي ولم أشأ أن أخبره بالخدر والتنميل وبالتالي أغفلت ذكر أخصائي أمراض المخ والأعصاب . ولما لم يبدو عليه الإقتناع واستمر في إلحاحه عليَّ بالعودة السريعة إلى أبوظبي إفتعلت ضحكة أداري بها ما كان يعتمل لحظتها في داخلي من خوف مبهم وقلت له : »وعلى أي حال رجوعي إليكم أمر وارد فأنا لا أريد أن أكون حقل تجارب هنا«.
بعد ذلك تحاملت على نفسي ووقفت مستندة إلى كرسي ثم اتجهت إلى سريري في غرفة النوم . خرج أولادي في أوقات مختلفة من اليوم يستفسران عن حالة ظهري كمن يستفسر عن أحد الأمراض العادية . أخبرتهما أنني بخير وهما يعلمان بموعدي غداً مع الطبيب . صباح الأحد ساقاي تزدادان ضعفاً .. أتجه إلى الحمام مستندة في طريقي على كل ما يصادفني من أثاث أو جدران غير عابئة بقدمي التي تورمت بعد أن أضحت كل الأمور مختلطة في نظري .
ألبس ثوبي وأجلس في انتظار فوزية التي اتصلت بعد قليل لتقول لي أن الطبيب لن يداوم اليوم في الصباح وعليه فقد حددت لي موعداً في الساعة السادسة من مساء نفس اليوم . أنهيت المكالمة وقد ومض في ذهني خاطر فجأة أفرخه وضعي الغريب.. إتصلت بمكتب طيران الخليج لأحجز مقعداً في الطائرة التي تغادر إلى أبوظبي في الساعة السادسة مساءً .. أخبرتني موظفة الحجز أنه ليس من الممكن تقديم هذه الخدمة في نفس اليوم وأنَّ الطائرة - فيما تعلم - كاملة العدد ولكنها ستدرج إسمي في قائمة الإنتظار وعليَّ التوجه إلى المطار فلربما يتخلف بعض المسافرين . أخبرت أبنائي بما راودني من فكرة العودة فأصرا على مصاحبتي وقد إستشعرا خطورة الموقف ولكني قلت لهما إنَّ الأمر لا يستحق كما أن دخولهما إلى مصر مرة أخرى يتطلب في حالتيهما تأشيرة تستغرق إجراءاتها ثلاثة أسابيع مما يفقدهما فصلاً دراسياً بأكمله . قال واصل: »بالنسبة لي تأشيرتي تتيح لي الدخول والخروج ثلاث مرات... سأذهب معك وأعود في اليوم التالي« .
أقنعني بقوله لا أدري من رنَّة الصدق والتأكيد التي اكتسى بها صوته أو لأن حالتي كانت قد أصبحت لا تسمح لي بالتفكير .
إتصلت بفوزية لأعلمها بقراري السفر إذا تيسر لي مقعد في الطائرة. جاءني صوتها عنيفاً صارخاً تمتزج فيه اللهجة السودانية بالمصرية والتي تأثرت بها بحكم إقامتها الطويلة في القاهرة: »إيه الدلع ده يا بدور .. في حد إرجع في يومين عشان حتة وجع ضهر .. ده أنا عملتلك حجز و...«.
إبتلعت صراخها وتقريعها كما يبتلع الطفل تعنيف والديه ثم قلت : »إذا ما لقيت مقعد حأتصل بيك عشان ميعاد الساعة ستة« .
برطمت فوزية بكلام كثير معظمه يصب في خانة الإستهجان لقراري الذي فاجأها تماماً فهي إلى جانب سجاياها العديدة تتميز بالصراحة والوضوح .. الصراحة والوضوح اللذين كم أفتقدهما وأنا في ذلك الوضع المحيـَّر والمربك .
ودعت عمرو وأوصيته أن يبذل جهداً مضاعفاً في دراسته فهذا آخر فصل دراسي له ويتخرج وبالمقابل شددت عليه أن لا يُعلم والده - في حال وجود مقعدين بالطائرة - بمرافقة واصل لي حتى لا يقلقه بلا مبرر.. ولكن عرفت لاحقاً أنه لم يحتمل أو لم يرد أن يكذب فأخبره . ومن حسن الحظ كان ذلك قبل وصول طائرتنا بساعة مما وفر على زوجي ساعات من القلق والتفكير .
في قاعة المسافرين بمطار القاهرة جلسنا في انتظار أن يمن الله علينا ولو بمقعد واحد .. وفي آخر لحظة .. وبترتيبات من عند الله الواحد الأحد -تلك الترتيبات التي سيلحظها القارئ طوال رحلتي المرضية - أومأت لنا مسئولة الحجز لنحضر .. سلمتنا التذاكر وقالت إننا محظوظان لأن راكبين تخلفا عن الحضور ومن ثمَّ علينا الإسراع إلى الطائرة. أخذت مقعدي في الطائرة بجوار واصل .. بعد ثلاث ساعات وصلنا مطار »الدوحة« وكان علينا أن ننتظر في مطار »الدوحة« لمدة ساعتين - لأنَّ الرحلة لم تكن مباشرة - حتى تأتي الطائرة التي تقلنا إلى أبوظبي ضمن ركاب آخرين.
الركاب يغادرون الطائرة تباعاً .. أستند على الكرسي وأنتصب واقفة ثم أتقدم نحو ممشى الخروج في الطائرة .. تخذلني ساقاي .. أسقط.. ينحشر جسدي بين مقعدي والمقعد الذي أمامي.. واصل يحاول مساعدتي على النهوض.. يقول : »أرجوك يا أمي تشجعي.. إستندي على ذراعي«. أقول: »لا فائدة يا بنيَّ.. لا فائدة.. أطلب منهم أن يحضروا لي الكرسي المتحرك«.
في مطار الدوحة القاعة تعج بالمسافرين من مختلف الجنسيات.. أغلبهم من الجنسية الآسيوية .. تطالع عينايَّ الوجوه السمراء ثم ما تلبث أن تتجاوزها لتسقط على الأقدام المهرولة.. تقبض يداي بحركة لا إرادية على ساقيَّ تحت الثوب.. صوت الميكروفون يطلب من المسافرين التوجه إلى متن الطائرة.. بعد خمسين دقيقة حطَّت بنا الطائرة في مطار أبوظبي .
عامل المطار يدفعني بالكرسي نحو مكتب الجوازات متخطياً الصفوف الطويلة .. هنا في المطارات أمثالي من ذوي الحالات المرضية الخاصة يتمتعون بمعاملة خاصة.
من خلال الحاجز الزجاجي حيث يصطف المستقبلون في انتظار القادمين يطالعني وجه زوجي وإبنتي وإبني .. أرسم إبتسامة واسعة وألوح لهم بيدي .. تنزل إبتسامتي برداً وسلاماً على ولدي وبنتي .. تغمرهما الطمأنينة .. أمهما بخير . بقيَّ زوجي .. رفيق الدرب .. ثلاثون عاماً قطعناها معاً .. السراء والضراء ذرعناها معاً .. مظهره وهو يرتدي ثوباً لا يناسبه من الجلد والصبر يقتلني .. ليت كان بمقدوري أن أطفئ نيران القلق المدمِّر الذي يعصف بكيانه .. ولكن كيف وكلانا يقرأ ما بداخل الآخر كما يقرأ في كتاب مفتوح.
أجلس على المقعد الأمامي بالسيارة وأربط حزام الأمان فأحس بأمان الدنيا كله يلفني.. يغطيني.. وأنا وسط أسرتي وبين أحبتي . أفطن لأول مرة أنني مرهقة.. متعبة وأريد أن أنام يوماً بأكمله.. ولكن زوجي يصر على أن نذهب لقسم الحوادث بالمستشفى المركزي.. أتوسل إليه أن يأخذني إلى البيت والصباح رباح كما يقولون . أقول له إن الموضوع لا يعدو أن يكون ضغطاً على السلسلة الفقرية أسفل الظهر تسبب في حالة الخدر والتنميل وبالتالي ضعف الساقين.. سمعت عن ذلك.. ولكنه يصر.. أرضخ فليس أمامي غير الرضوخ.. أعلم أنه من داخله يموت قلقاً ويتلهف إلى أيِّ بارقة أمل تخفف من قلقه. على طاولة الفحص أرقدوني.. الطبيب الممارس العام الهندي يسألني عن حالتي.. أشرح له الوضع بدءً من ألم الظهر وانتهاءً بسقوطي على قدمي.. يركز على قدمي المتورمة وكأنَّ مشكلتي كلها قد إنحصرت في ذلك الورم.. ثم يدق بجهاز حديدي صغير على أجزاء مختلفة من الساقين.
أذهب مع الممرضة بعد ذلك لغرفة الأشعة.. أخصائي الأشعة يلتقط صورة لقدمي.. ثم لظهري في أوضاع مختلفة.. أنا جالسة.. وأنا على الجنب.. وعلى البطن .. يعتريني التعب والألم.. أعود مرة أخرى لغرفة الفحص.
يجئ الطبيب الممارس العام الهندي وهو يمسك بيده صورة الأشعة.. يقول بعربية مكسرة . »مبروك .. كل شيء تمام .. شرخ بسيط في سلسلة فقرية .. يوم أربعاء إنت إجي إقابل أخصائي مال عظام«. ثم يطلب من الممرضة أن تضع جبساً على قدمي المتورمة .
نعود إلى البيت في الساعة الثالثة من صباح الإثنين .. أرمي بجسدي على السرير .. أرفض رجاء ابنتي أن أبدِّل ملابسي .. أريد أن أنام وأنام فقط .
أصحو في العاشرة صباحاً وأنا أحس بشيء من التفاؤل لعل مبعثه كلام الطبيب الهندي في قسم الحوادث بالمستشفى المركزي .. أحاول أن أصدِّر ذلك الشعور لزوجي .. يبدي تجاوباً ظاهرياً .. أعرفه كثير الهواجس والوساوس فيما يختص بأي عارض يمسنا .
إبنتي تحضر لي الشاي في الكوب الكبير الـ»mug« أضع عليه نصف ملعقة صغيرة سكر مع ملعقة صغيرة من لبن النيدو كما تعودت وأحرِّك المزيج.. أرتشف من السائل البني اللون.. أحس بالغثيان.. معدتي تنقلب.. الشاي يبدو وكأنه قد أُهيلت عليه أطنان وأطنان من السكر، ولكن بنتي تؤكد أنها لم تضع عليه أيَّ سكر.. أغوص في جنبات الحيرة للحظة ثم أنسى الأمر.. وقد علمت لاحقاً أن هذا المرض يُحدث خللاً في حاسة التذوق
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
قصتي مع مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف | Ridhaa | 08-28-13, 01:55 AM |
Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف | Ridhaa | 08-28-13, 01:57 AM |
Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف | Ridhaa | 08-28-13, 01:59 AM |
Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف | Ridhaa | 08-28-13, 02:01 AM |
Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف | Ridhaa | 08-28-13, 02:02 AM |
Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف | Ridhaa | 08-28-13, 02:04 AM |
Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف | Ridhaa | 08-28-13, 02:07 AM |
Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف | Ridhaa | 08-28-13, 02:09 AM |
Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف | محمد أحمد الريح | 08-28-13, 12:54 PM |
Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف | Ridhaa | 08-28-13, 09:52 PM |
Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف | Barakat Alsharif | 08-29-13, 06:43 AM |
Re: مرض نادر وقاتل ... بقلم: بدور عبد المنعم عبد اللطيف | عمار عبدالله عبدالرحمن | 08-29-13, 08:52 AM |
|
|
|