تعزية خالصة للزملاء شول أشوانق وجوك بيونق في رحيل سلطان أبيي!!

Quote: في رثاء كوال دينج أروب الذي عرفت.. بقلم الأستاذ صلاح أبو كشوة . يستقبلك أمام ديوانه الضخم المعروش من القش عند الباب واقفا، بابتسامة تشع أملا و تقديراً يكشف عن أسنان أفريقية ناصعة البياض، طويل القامة تكسوه بشرة سوداء داكنة، تلقاه دوما يرتدي عراقي أبيض طويل و سروال، حاسر الرأس. و حين يكون في عمله اليومي يحرص على قميص قصير الاكمام بسيط أو بدلة أفريقية هادئة الألوان، كان بسيطا في ملبسه طيبا في معشره كريما في سجاياه، يحدثك بهدوء و وقار، حديث الحكمة التي تحمل ميراث مئات السنين من القيادة و الحنكة. فالقادة يُوْلَدُونَ ثم يُصْنَعُونَ – تغالط نفسك إن أردت صناعتهم من غير معدنهم ، فالمادة الخام لا توجد كثيراً - ، حين تجالسه في أمسيات أبيي الرطبة و هي تستعد لاستقبال الخريف في باحة ديوانه التي تبعد بضع عشرات من الامتار عن قبر والده – دينج مجوك- و أمتار أخرى من شجرة المحكمة، يمر به اهله في طريق عودتهم من زراعتهم و مواطن ماشيتهم يحيونه من بعيد حين يجدون معه ضيوفا برفع أيديهم فيرد على كل واحد بلهجة الدينكا، كان كثيرا ما يحمل في يده "هبابة" من الريش يهب بها على ضيفه الهواء ليخفف عنه احساس الحر و الرطوبة العالية، حتى تستحي أن الرجل يصر أن يفعل ذلك بنفسه و هو المهاب بين عشيرته و عشائر الدينكا. شخصيته تحمل كل صفات القيادة، ليس أكبر اهله سناً و لكنهم كانوا يطيعونه و يقدرونه كأنه الأسن، كان إذا أشار بإصبعه أو إذا أومى فهموا و تحركوا ، عندما تجلس لشباب دينكا نقوك في الليالي المقمرة على رمال النجمورا – و هو رافد من روافد نهر "كير" أو كما يسميه العرب "بحر العرب" يمر بمدينة أبيي فيقسمها لجزء شرقي و آخر غربي-، يحدثونك عن السلطان كوال بفخر و اعتزاز، لم اجد قوما يحبون قائدهم كما يفعلون، يقصون عليك كيف أن اختياره كان و هو بعد شبل صغير عن رضا و استحقاق من بين كل أخوته، و لشجاعته التي ما خيبت ظنهم يوما. كان مسلماً يقود قبيلة فيها كل التنوع، مسلمين و مسيحيين و أهل ديانات عرفية، فيهم المعارض و فيهم الموالي. فيهم حتى من ينتمون لحزب الامة و المؤتمر الشعبي و الحزب الشيوعي، و لكنهم كانوا يحبونه. يوم أن كنا في أبيي و حملت الانباء أن بعض "شذاذ الآفاق" قد اغتالوا أخيه "مولانا إبراهيم ألور- إمام المسجد العتيق بأبيي" أرسل إلينا شبابا من أهل داره ليلا في البيت الذي نقطنه، حملوا إلينا نبأ اغتيال مولانا ابراهيم ألور، و أخبرونا بأن السلطان كوال يقول لكم: نتوقع ردة فعل داخل المدينة بسبب هذا الحادث، و لكنكم تحت حمايته الشخصية، و أضاف أحد الشاب الذين حضروا إلينا: لن يمسكم أحد بسوء إلا ان نموت جميعاً! و كنا قبلها بيوم قد صلينا الجمعة في المسجد العتيق بالمدينة و أمّنا للصلاة خطيباً فصيحاً و هو "ابراهيم ألور" المعلم، شقيق السلطان خطب فينا الجمعة و قال حديثا عن التقوى .ثم لما كان من صباح اليوم الذي تلاه توجه بأسرته لغرض ما قاصداً مدينة الأبيض، في الطريق إغتالوه – أمام أعين أطفاله و زوجه- يومها وقف الناظر كوال دينج مخاطباً اهله وشباب الدينكا المتحمسين داعياً إياهم لضبط النفس و قال لهم: "ليس في الأمر مؤامرة، ليس الجناة سوى قطاع طرق قتلوا رجلاً أعزل، سنلجأ للقضاء و جارٍ البحث عن المجرمين بواسطة الجهات الشرطية"، ثم ذكر أخاه بخير و لم يكمل، بكى الرجل حينها، و ما أقسى أن ترى القائد يبكي كمثل الطفل، و قال شيئا نمسك عنه اليوم. ثم جلس الناس يقرأون القرآن على روح اخيه، و هو يستقبل المعزين من كل عشائر الدينكا و العرب في أبيي، و يبسط الطعام للناس. و هاهو "كوال دينج" اليوم يترجل و معه الشاب اللطيف صاحب الحيوية و النشاط "ملونق"، هاهو يرحل تاركا الارض التي طالما أحبها و النهر "كير" و "النجمورا" حزانى. كثيرا ما جالسناه في هدأة الليل فحدثنا و حدثنا و حدثنا، حدثنا عن التاريخ و عن الحاضر و المستقبل، حدثنا عن دينج أروب السلطان و هو كلما ذكره كان يسميه (الوالد رحمةُ اللهِ عليه) و حدثنا عن نميري و عن المجلد و الفولة و رمبيك، و لكنه حدثني حديثا عن القضية الفلسطينية، حديثا حيرني، كلما ذكرت حديثه ذاك طفرت الدمعة من عيني حين أذكره و هو يختم بقوله : بالله شوف يا باشمهندس أنحنا كنا وين و بقينا وين؟! كان مهموماً بحفظ حقوق الناس من غير قبائل الدينكا في مدينة أبيي، و لعل ذلك كان يزعج الكثيرين. كان يحرص على أن يدعونا لشاي المغرب أمام ديوانه ثم العشاء المبكر، ويجلسني إلى يمينه، يحرص على أن يصب الشاي، و يقدمنا في الديوان الراقي و النظيف. إن لرحيل كوال دينج بهذه الصورة تداعيات نسأل الله أن يخففها، لقد كان الرجل شخصية مفتاحية في ضبط إيقاع الأمور المنفلتة في المنطقة، و لن يجد الناس بديلا بمواصفاته بسهولة. أخي كوال، إن أنا كتبت عنك الصفحات ما وفيتك حقك، أخي الأستاذ علي أعزيك في مصابك في أخيك إن كنت تقرأ ما اكتب او لعله يُنقل إليك ، أهل و أسرة السلطان كوال أبناءه و بناته و أزواجه أسأل الله القدير أن يخفف عنكم مصابك و أن يبدله الجنة داراً و ان يلهمكم صبرا و جلدا، إخوتي و أهلي في أبيي شول، مانجطانق ، أعزيكم في رجل كان قامة و شامة ناصعة في تاريخكم الحديث. رحم الله الناظر كوال دينج أروب ناظر دينكا نقوك و أسكنه فسيح جناته، إنا لله و إنا إليه راجعون.