صدرت مجموعتي القصصية ( بنات الداون تاون .

Quote: جامايكا في بار جامايكا الكائن بممرِّ البنك الأهلي المصري فرع شارع شريف، كان الطقس حاراً وخانقاً ولم يفلح جهاز التكييف الوحيد بالمحل في بعث بعض البرودة التي يحدثها الزحام وأدخنة الشيشة وسحابات الدخان المتصاعد من السجائر الكيلوباترا الرخيص . كانت رائحة البول تضفي علي المكان خصوصيةً فريدة لايعلمها إلا مرتادي هذا المكان . بعد قنينة البراندي الثانية تصبح لرائحةِ البول سحراً أثيراً في هذا المكان . كان البار يفتقد لثرثرة مدحت وحالات هياجه وشتائمه وفوضاه الخلاقة . الخطأ الأكبر الذي يرتكبه السكرجي في حق نفسه أن يخاطر بدخول بار جامايكا بعد أن يفتح الشخص المزعج الوافد الجديد قنينة البراندي الثانية . لن تستطيع أن تتحمل هذا الإزعاج والضجيج والصراخ إلا في حالة أن تكون سكرجي ثقيل الدم . يطلب الرجل الصعيدي الذي يجاورني في الطاولة طبق الفول النابِت الرابع، الشئ الذي يزعج الساقي المسكين، ولكنه يرضخ لطلبهِ ولا ينسي أن يشتمه قائلاً : - يابن الوِسخـة إنت جايي تتعشي عندنا ؟ . سألت في أحدي المرات (بار مان ) مخضرم عن سر صبرهم علي أحد الرواد المزعجين، فأخبرني بأنه زبون مهم جداً، لأن إزعاجه يجعل الزبائن يشربون ولا يسكرون أبداً . وهذا الشئ في مصلحة المحل بالطبع . ليس هذا فحسب ولكنه أكد لي بأنهم في كثيرٍ من الأيام يتحمّلون عنه فاتورة حسابه لنفس السبب . لأصحابِ الحانات في زبائنهم شؤون !! . أنتصف الخمر بقليلٍ في ليل السكاري . فهم عادةً ما يحضرون إلي الحاناتِ هادئين تسبقهم إبتساماتهم العريضة وآمالهم العظيمة في قضاءِ وقتٍ هادئ سعيد، يبتعدون فيه عن هموم الحياة اليومية ######فها وأوجاعها . وبنفس الهدوء والأدب يتبادلون التحية والقبلات الطيبة، وتجد الواحد منهم في أبهي وأنضر إبتسامة وهو يقول : - إزيك يا عم مدحت واحشني يا راجل . بكلِّ أدبِ وإحترام وترحاب . ويجلس كلٍّ إلي طاولتهِ ويبدو علي هيئتهِ مظهر العالم أو المفكّر العظيم . كأسٌ فثانٍ وقطعة جبن أو حبة ترمِس ومن ثم " تبدأ ثورة الكاسات المضادّة وفلُول العقل الباطن في الإشتعال " . فلا تسمع إلا عُهراً ومجوناً وشتائماً . لدرجة أن نفس الشخص الذي كان يبتسم قبل ثلاث كأسات في وجه مدحت، يتذكر أن الأخير لم يقم معه بالواجب الذي يستحقه . ويقول بصوتٍ عالٍ جداً : - يا مدحت .. إنت يا اللي أمّك بتبات برّا وما تقوليش ممرضة . ويضحك الجميع بما فيهم أنا . ولكني أضطر لأن أحتملهم لأن هذا العالم أجد فيه ما يسحرني ويشدّني، لأن المعرفة الحقيقية لم أجدها في صفحاتِ كتاب، ولكني أنتزعتها إنتزاعاً من هذه الحياة . والمراقبة الحصيفة للوعي لا تفضي إلي شئ . لا شئ أبداً إلا لا شئ . اللا وعي يمدّني بالكثير من الخفايا ويجعلني أدخل الخزائن المقفلة للعقل البشري، رغم كثرة مفاتيحه التي تنوءُ بالعصبةِ أولي الفهم . لهذا السبب فقط أصبر علي تقلبات وإنفلاتات هذه المرحلة، إنتظاراً لما بعدها . تشاهد الوجوه المألوفة التي أعتدت علي ملامحها في كل الأوقات، بعضهم يقول أنه يسكر في هذا المكان منذ ثلاثين عاماً، بل أكثر . وهؤلاء الأشخاص هم من يجعلونك تألف المكان، بل ويصبحون جزءاً لا يتجزأ من أثاثه وكراسيه وطاولاته وحتي رائحته، ويشكلون معاً قطع الديكور التي تعطي لهذا المكان خصوصيته التي لا تتوفّر في غيره . ولكن قد يأتي إلي المكان أشخاص غرباء لم يعتد وجودهم أحد من روّاد المكان الأصليين، وأغلب الظن أنهم لن يجدون ترحيباً كافياً في أول الأمر . ولكنهم في مرحلةٍ من مراحل السهرة قد يصبحوا أشخاص مهمين جداً ومرحب بوجودهم، وذلك عندما تبدأ مرحلة الإلفة والكرم الحاتمي الغير مسبوق . فيبدأ سباق الأنخاب ومراسيل السجائر والمناديل والمزّة تتوافد علي طاولتك التي تجلس إليها . وقد يحضر أحدهم خصيصاً لكي يلقي عليك التحية وكأنه أكتشف وجودك للتو . وغالباً ما يتخلّل هذه المرحلة بعض التراجيديا مثل أن يتذكر أحدهم صديقه الذي أستشهد في حرب أكتوبر، أو رفيقه الذي مات عن عمرٍ يناهز الثمانين، فيبكيه في هذه اللحظة الحميمة، ويؤكد أنه " أنخطف " وهي كلمة يوصف بها المصريين من مات في ريعانِ شبابه . وبعد هذه المرحلة غالباً ما تأتي مرحلة عب حليم وأم كلثوم، حسب برنامج الأغاني التي تذيعها أحد القنوات التلفزيونية، أو الراديو . ويحدث فيها إسترخاء تام وإجترار لبعض الذكريات، ودائماً ما ينوّه الساقي بأنهم قد وصلوا إلي مرحلة last order . ويبدأ في تنظيف الطاولات وجمع الطفايات ويقوم في هذا الأثناء بجمع وكنس الزبالة من وحول الطاولات التي أنصرف شاغليها . وهذه المرحلة شديدة الحساسية لكثير من السقاة وأصحاب الحانات، لسببٍ بسيط جداً . فهي تعتبر المرحلة الإنتقالية من الفرفشة إلي الغيبوبة . وبعدها ستحدث المغالطات !! . وبالتأكيد ليس هنالك أكثر لزوجةً من سكران طينة يقسم بباخوس أنه لم يسكر بعد، فهؤلاء هم أكثر إزعاجاً وإثارةً للمشاكل والخناقات في الحانات .