الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-27-2024, 11:38 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثانى للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-09-2013, 07:52 AM

مصعب عوض الكريم علي

تاريخ التسجيل: 07-03-2008
مجموع المشاركات: 1036

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: مصعب عوض الكريم علي)

    الجزء الثاني:
    الإصلاح السياسي في السودان

    (رحم الله أبي ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً)
    إمرؤ القيس










    الإصلاح السياسي/الفصل الأول
    جذور أزمة القيادة في مشروع الإنقاذ
    بعد حل مجلس شورى الحركة الاسلامية عقب نجاح التغيير في يونيو 1989م حدث امر جوهري اثر على مسار المسئولية العامة في الحركة والدولة بصورة مباشرة، وهو ان صار اساس مشروعية العمل داخل المؤسسات الحاكمة يأتي بطريقة معكوسة –من أعلى الى أدنى– في المناصب والمواقع وبالتالي في السياسات المتبعة، عوضا عن الطريقة الطبيعية "التقليدية" بالبناء القاعدي والانتخاب والتصعيد من أدنى الى أعلى مما يمكن من المحاسبة والمتابعة ومن ثم تجديد الثقة او سحبها عن القائمين بالامر الذين تختارهم جماهير وقواعد الحركة كممثلين لها، كذلك القرارات والسياسات التي تتخذ، ولإحكام رؤية للخروج من هذا الوضع الشائه الذي كان يُفترض فيه الاستثنائية ولكنه تحول الى ديمومة وخلف ازمة في القيادة والرؤية معا، لذلك كان لابد من دراسة معضلة القيادة وفحص مكوناتها.
    التنظيم السياسي وجدلية الحزب والدولة
    جذور التكوين:
    يعتبر الاسبوع الاخير من شهر فبراير من العام 1989م عند الباحثين هو التاريخ المرجعي لتقصي التحول النوعي الذي وقع في قيادة الحركة الاسلامية. عندما اجتمع د.الترابي الامين العام لتنظيم الحركة الاسلامية بنائبه الاستاذ علي عثمان محمد طه الذي لمع نجمه السياسي كزعيم للمعارضة سابقا في البرلمان في مواجهة صادق المهدي وهو رئيس وزراء عركته التجارب. وبدراسة كل المؤشرات في الظروف السياسية الراهنة على ضوء مذكرة الجيش (20-فبراير-1989م) التي جاءت معممة في كلماتها وصريحة في دلالاتها تطالب بحكومة وحدة وطنية عمدت الى إخراج الجبهة الاسلامية من السلطة، كانت كل الدلائل تشير الى وجوب التركيز على العمل في القوات المسلحة في محاولة لسبر اغوارها واستنكاه ما الذي يجري بداخلها، ولماذا وجدت الجبهة الاسلامية نفسها –رغم كل ما بذلته للجيش – الآن في مواجهة شبه مكشوفة(1) معه؟ فكان لابد من تمحيص يتقصى الامر.
    انتهى الاجتماع بوضع الامانة الخاصة كلها تحت إمرة المحامي "الكتوم" نائب الامين العام ومصدر ثقته وكان هذا يقع لاول مرة، جاءت توصية المحامي بعد أقل من شهر أن الاحداث تتلاحق وان الصراعات تعتمل في داخل المؤسسة الكبيرة "الجيش" وانه اذا تم تهيئة الأجواء بطريقة مناسبة فان تحركا ناجحا يمكن ان يتم لصالح الحركة ويضعها في المسار الذي تريده. وبالفعل بدأت محاولات اختبارية لعملية تحريك الشارع فيما عُرف بثورة المصاحف وغيرها من التحركات التي شكلت ما يسميه العسكريون "كوموفلاش" سياسي غطت ستائر دخانه على النشاط العسكري الذي دأبت كوادر الحركة في التفاعل فيه،حيث جرى في القطاع المدني ترتيب بعض الأمور العاجلة مثل تدبير الأموال اللازمة لمواجهة الطوارئ، وتم تكليف المهندس محمود شريف ببناء شبكات اتصالات لتقوم بربط التحركات قبل وفي اثناء عملية التحرك، كذلك بناء اذاعة احتياطية أسهم فيها الى جواره عدد من خبراء الحركة مثل د.مصطفي نواري و المهندس ادهم وغيرهما من الجنود المجهولين.
    التغيير
    في الثلاثين من يونيو 1989م جرت الامور على ماتشتهي سفن قيادة الحركة وتم التغيير على النحو الذي ترجوه بطريقة سلسة بيضاء، بجهود الحركة الاسلامية بكافة اجهزتها ومؤسساتها وكوادرها. دخل الشيخ كما قال لاحقا "الى السجن حبيسا وذهب البشير الى القصر رئيسا" معللا هذا التكتيك بأغراض التعمية وابعاد شبهة أن الحركة الاسلامية تقف خلف الانقلاب، وان كان لبعض المراقبين تفسيرات اخرى(2). صحب الترابي الى السجن عدد مقدر من قادة الحركة الاسلامية الظاهرين أسوة بكل زعماء الاحزاب السياسية الاخرى، في حين بقي نائبه علي عثمان بالخارج وفي يده تفويض الامين العام للتصرف بالكامل في كل شئ- الأمين العام نفسه كان قد فوضه مجلس الشورى الذي انعقد قبيل الانقلاب بأن يفعل ما يراه مناسبا دون الرجوع اليه وقد مضى الترابي بهذا التفويض الى الحد الذي حل به المجلس نفسه- شملت كلمة كل شئ هذه التنظيم (بشقيه السياسي والخاص) وأيضا إنجازه الجديد وهو الدولة بكل ما فيها من تعقيدات و صعوبات وقرارات حاسمة وفورية لا تحتمل المشاورة والتأخير.
    بقي الشيخ في محبسه ستة اشهر كان يتلقى فيها تقارير منتظمة ولكن محصورة ومحدودة بما يريد ان يلقنه اياها هؤلاء الذين اختارهم ،ولم يكن في مقدروه الاتصال بسائر عضويته الاخرى التي كانت تتجه الى داره متى شاءت او تلك التي كانت تتحلق حوله في المناسبات الاجتماعية او غيرها فيحس بنبضها ويصله صوتها، فكان بذلك يرى ما يريدونه "هم" ان يراه، ويسمع ما يحتاجون "هم" الى رأيه فيه فقط، أما خارج أسوار السجن فقد كانوا "هم" الحكام المتصرفون في كل شئ في البلاد والحركة بكل مستوياتها، نشأ عن هذا حلف ثنائي تقوى مع الأيام بين ممثلي الجهاز الخاص وقادة الانقلاب الذين كانوا يتلقون كل التوجيهات مما يحسبونه قرارات الحركة ومؤسساتها التي درستها وخططتها لتحقيق مشروعها الرسالي الذي انتدب هؤلاء الرجال (ضباط الجيش) أنفسهم اليه وقبلوا ببذل أنفسهم رخيصة في سبيله.
    خرج الأمين العام من السجن ليتسلم الأمانة التي استودعها عند نائبه، وبقرون استشعار متمرسة بدأ يتلمس طبيعة الاوضاع التي تخلّقت ونمت في غيابه عساه يتفهمها. وفعلا انخرط في سلسلة من الاجتماعات مع أركان حربه القدماء ولكنه لاحظ انه بات أشبه بالغريب بين الحاضرين خاصة العلاقة والتلاحم الذي نما بين اعضاء الامانة الخاصة ونائبه، الذي تركه لتولي تصريف الامور في غيابه فإذا به يجده يُديّر كل الشؤون في حضوره، لقد وضع الترابي نائبه لـ "يُصرّف" شئون الحزب والدولة وفق الخطط التي وضعت مسبقا ولكن هناك فرقا بين الـ "تصريّف" وبين "الادارة" ، على ما يبدو ان ثقة الشيخ في نفسه وتقليله من مقدرة الملاحظات التي جذبت انتباهه جعلته يستهين بالامر، فشكل ما يشبه الهرم القيادي الذي ضم الى جانبه كزعيم نائبه بالاضافة الى قائد الانقلاب الجديد بالطبع، ولكنه قرر أن يضيف تحت إلحاح بعض الظروف نائب قائد الانقلاب العميد الزبير محمد صالح ود.علي الحاج الامين السياسي للحركة واختار أحد الشباب ليكون بمثابة سكرتارية للمكتب وليس عضوا دائما فيه(3)، تكررت ملاحظات الترابي على حالة الانسجام تلك التي لاحظها بين نائبه و رئيس السلطة الجديدة، التي تشكلت في العلن والتي كانت هي الاخرى تثق بطريقة عمياء مطلقة في قيادة الامين العام وتعتقد ان لديه خططا وقرارات جاهزة ستجعل نموذجا من الصحابة يمشون بين الناس، وبعثا جديدا لعمر بن الخطاب الذي ينام تحت شجرة، وفق النموذج الاسلامي الذي سيقام والذي لم يفكر احد في تفاصيله باعتبار ان الشيخ يعلم كل شئ، وأن لديه رؤية متكاملة للذي يُعرف عندهم إختصارا بــ (الاسلام هو الحل). مع الايام بدأت تتكشف هذه الأشياء عن نفسها رويدا رويدا، وبدأ يظهر ان لا جديد عند الرجل مستترا ولا يعلمونه "هم"، كل ما في الامر مجرد شعارات منحوتة ملأت الدنيا، وليس هناك امر مخفيا عنهم غير انها السياسة الإعتيادية التي في استطاعة كل نظام تقليدي ان يسعى للقيام بها من اطعام الناس وتحسين الخدمات العامة من صحة وتعليم وطرق وكهرباء مع مطاردة المبادرات اليائسة في البحث عن فرص لوقف الحرب، التي أصبحت تتذرع بها القيادة كمبرر للتأخير في تنفيذ المشروع الرسالي المرتقب. تراجعت الأدبيات التي تتحدث عن التجديد الفكري وفتح باب الاجتهاد وغيرهما من مطالب التنوير الذي كانت تنادي به جماعات المفكرين في الحركة الذين اصبح دورهم متواريا للغاية وأضواؤهم في خفوت تام.
    رغم ذلك حافظ د. الترابي على حرارة الموقف وزمام المبادرة في يده، فهو الرأس المدبر ونائبه الأستاذ علي عثمان هو القوة المنظمة والمشرف على تنفيذ التوجيهات، والفريق البشير هو الواجهة الفاعلة والمتجاوبة، كما أنه بات لديه مقبولية واسعة من جماهير الشعب وكذلك من عضوية الحركة.
    بوادر الأزمة:
    استمرت الأمور على هذا المنوال غير أنه مع الأيام بدأت تتكشف رغبة الشيخ في الظهور إلى العلن وتسنم دور واضح في الامر(4)، الشئ الذي قاد الى اثارة حفيظة بعض المكونات في القيادة ما لبثت ان تحولت الى نوع من الصدام وان بدا لينا في جوانبه. وقعت حادثتان أظهرتا للرأي العام بجلاء تعجل د. الترابي الى ما يبتغي من الامر، وهو تولي القيادة المباشرة او إظهار أنه المحرك والمدبر للأمر، الأولى تصريحه في العام 1992م وإبان اشتداد المعارك في جنوب السودان بعد تحرير مدينة فشلا الحدودية ذات الاهمية الاستراتيجية العالية في ذلك الوقت، وذلك لكونها تقع في منحنى حدودي ثلثاه داخل الأراضي الاثيوبية، بالاضافة الى انها كانت تمثل مركز ثقل نوعي في خطوط الإمداد اللوجستي للحركة الى ولايتي اعالي النيل والاستوائية، وقد كان تحريرها واستعادتها من قبضة التمرد ضربة بداية موفقة لما عُرف لاحقا باسم عمليات صيف العبور. نقلت وسائل الانباء العالمية عن د. الترابي قوله (ان السودان مدين بالشكر لاصدقائه الاثيوبيين الذين كان لهم دور في استرداد المدينة). أحدث التصريح ردود فعل غاضبة للغاية في وسط الرأي العام الوطني خاصة داخل الجيش، بحسبان ما فيها من تقليل لدور القوات المسلحة التي سارت على اقدامها اسابيع عديدة في ظروف طبيعة ومناخية سيئة وخاضت معارك شرسة لها فيها جرحى وشهداء. لا يخفى ما في التصريح من استهانة وجرح لكرامة الجيش الوطني الذي يستعين باجانب لحماية بلاده، كذلك تسبب في احراج اقليمي خاصة (اثيوبيا واريتريا) اللتين كانتا تساعدان السودان بعد سقوط حكومة منقستو واستقلال اريتريا وكانت حكومتا البلدين تدينان بالفضل للسودان في ذلك، ولكن مسألة التدخل العسكري في حرب اهلية داخل دولة وبقوات اجنبية تسبب لهما احراجا اقليميا ودوليا بالغا في غنى عنه حكومة وليدة لم يتجاوز عمرها شهورا خاصة وحركة التمرد وزعيمها قرنق كانت لها صلات وقاعدة مناصرين اقليمية ودولية كبيرة، طرحت هذه التصريحات التي تناقلتها وسائل الاعلام العالمية كافة وبتركيز شديد تساؤلات عديدة عن ماهية دور الدكتور حسن الترابي ومكانه في السلطة.
    لم ينقشع غبار التصريح السابق بفترة وجيزة حتى أدلى د.الترابي بتصريح آخر لوسائل الإعلام العالمية قال فيه إن مجلس الثورة العسكري الحاكم وقتها في طريقه الى الحل وان السلطة في مسارها الصحيح الي أن تصبح "مدنية" وأن العالم الخارجي سيقبل بها بعد هذا، باعتبارها تمثل الشرعية الوطنية للبلاد، وغير خافٍ ما احدثه هذا التصريح من ردود فعل وتداعيات خاصة داخل المؤسسة العسكرية نفسها التي بدأت تضغط على قيادتها من خلال تقارير الرأي العام العسكري التي تجليها الاستخبارات العسكرية من خلال مكاتب الامن العسكري المنتشرة في كل الوحدات، وأصبح مثار تندر الضباط والعساكر على قيادتهم التي باتت بنظرهم ألعوبة في يد السياسيين، والتي تخدعهم بقولها "ان هذه ثورة الجيش " فاذا بالجبهة الاسلامية تتلاعب بهم، وغيرها من الروايات التي شاعت وقتها وكانت تمثل طعنة نجلاء في كرامة قائد الجيش وشرفه العسكري، الذي كان يتحمل بصبر يحمد عليه وهو يظن ان ذلك قربان واجب سداده في سبيل إقامة المشروع الرسالي الذي آمن به.
    عند مفترق الطرق:
    بدأت بعد هذا التصريح تباعد المواقف بين الطرفين وكان نائب الامين العام وبشخصيته الوفاقية يحاول إحتواء وامتصاص الأزمات بما يماثل حاجز المرونة لتمرير وتفويت كل المطبات التي تعرض لها مركز القيادة وكان الرجل كمن "يسير فوق حبل مشدود" بطريقة لا يحسد عليها فلا هو قادر على ردع الشيخ بطريقة حاسمة وإلجامه، ولا هو يريد ان يتخذ قرارا بالانحياز الواضح للعسكريين الذين تبدى موقفهم في التمحور والتكتل مع كل أزمة (راجع سجال امين عمر وتجاني عبد القادر في صحيفتي "الرأي العام" و"الصحافة" يناير، فبراير 2007، بعنوان العسكريون الإسلاميون شركاء في السلطة أم اجراء فيها). وهنالك ايضا السياق العام و ضغوط الواقع التي باتت تُنذر بالخطر، فمن ازمة اقتصادية خانقة، الى حصار دبلوماسي مطبق، الى سراب البحث عن السلام، الى ضغوط القطاع المدني في الحركة الذي يريد لشيخه أن يتقدم، كانت الأزمات تتفاقم يوما بعد يوم دون بصيص امل في نهاية النفق، أضاف اليها د.الترابي تأسيسه للمؤتمر الشعبي العربي والاسلامي في العام 1991 وما جره ذلك من ويلات على البلاد والعباد، خاصة من دول الجوار التي كان لها نفوذ ومصالح في السودان مثل مصر والسعودية..الخ، الى ان جاء اقتراح بفتح المجال السياسي الى انتخابات عامة وبخروج الحركة الى العلن وفق ترتيب يُتفق عليه.
    جاءت لحظة الحسم في لقاء لمجلس شورى الحركة في العام 1995 والذي كان مقررا ان يتم فيه إعتماد المرشحين للانتخابات العامة المزمعة بعد اشهر قليلة. رتب د.الترابي للاجتماع بان يتم ترشيحه هو من قبل أقرب الناس اليه، وبعد أن تحدث في الاجتماع بطريقته الهلامية التي يطوّف بها حول الموضوع ولا يسميه عينا، قال د. الترابي للحضور أن الأخ نائب الامين العام سيتقدم لتسمية مرشح الحركة لهذه الانتخابات فقام الاستاذ علي عثمان وسمى الفريق عمر البشير، بعد ان قدم نبذة مختصرة عنه، وعن أهمية اعادة ترشيحه بسبب الظرف الوطني الدقيق وحاجة البلاد الماسة لقيادة مستمرة ودور الجيش وأوضاع الحرب في الجنوب وغيرها، وجم د. الترابي لهذا، فطلب الفرصة د. عوض الجاز مسئول الامانة الخاصة وقام بتثنية الاقتراح، الذي تقدم به نائب الامين العام، تقدم ثالث من ذات الأمانة و كرر التثنية، عندها قام الحضور بالتكبير والتهليل كناية عن الاجماع التام – كان يسميه د.الترابي الاجماع السكوتي – وظن الجميع ان تلك مشيئة الحركة ورغبتها، فقد مهد الامين العام لنائبه الذي تقدم بالترشيح ومن ثمّ جاء امين الامانة الخاصة وكرر، وبذلك لن تكون هناك منافسة او تصويت وانفض الاجتماع (راجع التجاني عبد القادر ص 72 وان كان قد ذكر توقيتا مختلفا" فبراير 1994م " وهو ما لا يتفق مع سياق الوقائع، وما ذهبت اليه مصادر اخرى مثل حسن مكي راجع مقاله المنشور بصحيفة "الرأي العام" مارس 2001م).
    الطريق الى الرابع من رمضان:
    لم تعد اللحمة بين الامين العام ونائبه على سابق عهدها بل مثلت خطا متباعدا في الشهور التالية بدأ الشيخ يستخدم لهجة فيها الكثير من الحدة التصعيدية بإضطراد، ولم تعد حالة التمحور والاستقطاب داخل الحركة تخفى على احد في الصف القيادي. ومرت عدة احداث كبيرة عززت من ابتعاد الترابي عن مركز القيادة مثل رحيل النائب الاول الزبير محمد صالح وابعاد البشير لاسم الترابي ود. علي الحاج واختياره لعلي عثمان نائبا اول(6)،كذلك ما خلفته مذكرة العشرة من تداعيات عززت ذات السياق وان جعلت الترابي يفقد النصراء في المقربين منه، ثم سفره للقاء الصادق المهدي في جنيف برفقة زوجته "شقيقة الاخير" وما راج وقتها من البحث عن حلف مصاهرة بين الاثنين يقضي بالإطاحة بالبشير مقابل اقتسام السلطة...الخ، ثم جاء اتفاق جيبوتي بين البشير والصادق، وقبلها كان انعقاد مؤتمر الآلاف العشرة في اكتوبر 1999م الذي حوله الترابي من مؤتمر عام للحزب الى أداة عقابية لخصومه من الجيل التالي له في الحركة. ثم كانت القشة التي قصمت ظهر البعير باستفزاز الترابي للبشير في البرلمان في قضية تعديل الدستور، فحسمها البشير بما بات يعرف بقرارات الرابع من رمضان (12/12/1999م) حين حل البرلمان وأردفها بقرارات الثاني من صفر بعد أسابيع قليلة والتي حل بها الامانة العامة للحزب كما هو معروف، وبالتالي خرج د.الترابي وأسس حزبه الخاص (المؤتمر الشعبي ) وانقطعت الى غير رجعة علاقته بالقيادة داخل المؤتمر الوطني وتحول بعدها إلى خانة المعارضة الصريحة المكشوفة والمسلحة المدعومة في بعض الاحيان من انصار حزبه الجديد، أو "الأب الروحي لتمرد دارفور" كما وصفه ناتسيوس في كتابه الاخير.
    زعيم خارج السياق:
    بلا شك يتمتع د.حسن الترابي بقدرات قيادية عالية من النادر توفرها في اي شخص، فعلاوة على المقدرات الشخصية الرفيعة التي يحظى بها مثل إتقانه لعدد من اللغات الحية، والتأهيل الاكاديمي العالي الذي ناله من ارقى الجامعات العالمية (جامعة لندن، السوربون)، وتحصيله للعلوم الشرعية في القرآن والحديث، كذلك مكانته الاجتماعية الكبيرة (من جده حمد النحلان زعيم طريقة صوفية أو مصاهرته آل المهدي) لكن كل ذلك مما يمكن توفره في اقرانه او منافسيه داخل الحركة الاسلامية بصورة قد تفوقه في منحى من هذا او ذاك. ولكنه يختص بمميزات لا توجد عند غيره– على الاقل في محيط الحركة الاسلامية- فبالإضافة الى ما سبق كانت لديه أولا قدرة عالية على الاستشراف ومد البصر خلف الحجب في المجال السياسي، وذلك بالتنبه الى قضايا ومؤشرات لا يراها في حينها اترابه او المحيطون به، بدرجة أقرب ما تكون الى الفطنة، ومع أن هناك مساحة رؤية الهدف ومراحل تنفيذه مما يقتضي التدرج في التخطيط حتى الوصول للغاية المرجوة، خاصة في العمل السياسي في حركة جل قاعدتها من المتعلمين ممن يقدمون الحجة والاقناع على الطاعة العمياء، وحكمة النبوءة تجلت في التوجيه بالمشي بسير ضعفائنا ، فتلمس الطريق عن بعد ينجي من الانزلاق كما يقولون ولكن تبصير العامة به تلمسا لبركة الاجماع والتوحد أجدى، كذلك يمتاز د. الترابي بشجاعة وجرأة نادرة في اتخاذ القرار أوعند التحدث فلا تجده يلتفت حوله تلمسا لنصير أو دليل، وإن كانت هذه الخصلة قد تحولت مع مرور الزمن وتطاول العمر إلى رفض كل رأي مخالف والعرب تقول "حبال الصبر تقصر مع طول العمر"، ونفاد الصبر على تكملة سماع الرأي الآخر فبات لا يحب معاشرة اصحاب الحجج القوية الذين يجهرون برأي معارض أو يبارزونه في المنطق، فاصبح يقصي كل من له رأي خاصة في ايامه الاخيرة في السلطة، كذلك لا يتورع ان يتحدث في اي انسان امام اي شخص بصرف النظر عن مكانته او حساسية موقفه فصفة الشجاعة دائما تقترن بصفة اخرى ملجمة لها وهي الحكمة والا تحولت الى مزيج من التهور والحماقة والاستفزاز بإدعاء فارغ وهو الشجاعة، الامر الاخير لديه تصميم وعزيمة قوية على انفاذ ما يستقر عليه من رأي مستخدما كل ما ذكرناه من علم وثقافة في محاولة لتبرير ذلك وتمريره على من هم حوله يصل به الى درجة الكبر فلا يراجع نفسه حتى في منتصف الطريق مهما كان الثمن او الخسائر، يصف د.احمد محمد البدوي استاذ الادب العربي والنقد ببريطانيا د.الترابي بانه شخص يمكنه التضحية باستراتيجيته من اجل انجاح تكتيك دون مبالاة لهدفه المركزي الذي هو ماضٍ لهدفه، وذلك وصف يعجز عنه الشرح. أصبحت النتيجة من كل ذلك جملة خليط من الاستفزاز و اللامبالاة بالغير، حتى وان كان هؤلاء الغير هم اخلص الناس اليه.
    تركة الترابي الثقيلة:
    بخروج الترابي فقد الحزب العقل الضابط –بعد انكشاف غياب الرؤية عنده- وتلخصت ورثة الدكتور الترابي في القيادة عند شخصين الاول الرئيس البشير الذي اصبح رئيسا بحق في الظاهر وفي الباطن للحزب والدولة الحاكم والمؤتمر بأمره، الثاني هو الاستاذ علي عثمان نائب أول الرئيس في المعلن والمستتر، فبإنتقال الزبير محمد صالح للرفيق الاعلى وخروج د. حسن الترابي الذي أخذ معه د.علي الحاج خلص الامر الى الرئيس ونائبه وأصبحت البلاد بكل ما تحمله من قضايا ومشاغل ومغريات – وافقت هذه الفترة تدفق أموال النفط- تحت أمرهم وتصرفهم، زادت عليهم متاعب عضوية المؤتمر الشعبي خاصة الشباب " المتطرف والمتهور" الذي انضم للدكتور الترابي وأصبح هاجسا أمنيا اكثر منه عبئا سياسيا. كان مشهد القيادة يبدو وكأنه شخص واحد، لا شخصين، فالنائب الاول شخصية وفاقية لا يثير آراء ولا يقدم مبادرات كل ما يهتم به هو احكام السيطرة على الامور بحيث لا تبدو نشازا في اي جانب وليس وضع السياسات مهمته او مما تعود عليه، فهو رجل تنفيذ وإدارة، والبشير لا يحب التدقيق في التفاصيل، لذلك هو يميل الى ان يترك له الامر وهو يتصرف في كل شئ بانيا على الثقة التي نمت خلال الاحدي عشرة سنة الماضية والتي كانت كفيلة للتأسيس فوقها.
    بدأت القيادة جدول الاعمال الملحة والتي جاء في مقدمتها عملية اعادة بناء الحزب فاختير البروفيسور ابراهيم أحمد عمر وهو شخصية مقبولة جدا للعضوية الداخلية وللمثقفين، وإن كان بطبيعته الاكاديمية اقرب إلى المحافظة والنظام، منه الى أن يكون زعيما شعبيا أو شخصية جماهيرية محدود الحركة محسوب الكلمات، ولكن وجود د.نافع علي نافع في موقع أمين أمانة الاتصال التنظيمي (أيضا كوزير الحكم الاتحادي) جعل الاتصال بالحزب في الولايات تحت امره، وهي كعب أخيل القيادة الجديدة في الحزب، فالعاصمة تحت سمع وبصر القيادة العليا تستطيع أن تملأها بكل سهولة من خلال نشاطها وحركتها اليومية، ولكن الساحة التي لا يجب الانكشاف فيها هي الولايات لذلك جرى تركيز عمل أمانة الاتصال التنظيمي في الولايات مما جعل مسؤولها أقرب إلى أن يكون أمين الحزب في الولايات منه عضوًا اعتياديا في امانة المركز العام، مكنه من ذلك القدرات الشخصية العالية التي يتمتع بها من نشاط شديد بالاضافة الى حضور ذهني وملكة في قراءة المعلومات مع التحليل في ترتيبها والربط بين ما هو ظاهر بما يمكن ان قد يكون خفيا، ساعد في ذلك وضعه لتلاميذه علي رأس الاجهزة الامنية (عبد الكريم عبد الله وصلاح قوش في الامن الداخلي- ويحيى حسين نائب مدير للامن الخارجي، أحمد الرشيد في الامن الشعبي) لم يستمر هذا الوضع طويلا خاصة مع ضغوط التسيير اليومي للحزب، واعتذار الامين العام اكثر من مرة نسبة لظروفه الصحية او ربما لإستشعاره بانه في بعض الاحيان غير منسجم مع التشكيلة الحاكمة، فقد بدا وكأن مركز أمين عام الحزب اقرب الى ان يصبح شاغرا ويحتاج الى مرشح كفء ليتقدم. مما بدا معها محاولات لتحريك دوائر النفوذ داخل الحزب في ما يشابه دورة تنافس جديدة بين مكونات الصف القيادي في الحزب.
    صراع الأنداد في حزب الدكاترة:
    لقد أسهمت قوى كثيرة في اقتلاع د.الترابي وهي تريد ان تنال حظها من المسؤولية بعد أن استتب الامر ولا تستطيع أن تنظر بعين المتلقي والامور تتجمد على ما هي عليه، فما لبث ان ظهر تنافس خفي داخل الحزب، غذته عوامل كثيرة داخلية وخارجية الا ان العناصر ذات التأثير الابرز كانت تتحلق حول ثلاثة رجال. كل يرى فيه من هم خلفه الخيار الامثل لملء الفراغ خاصة مع حالة السيولة السياسية المتبدية والتي لا يريد لها احد ان تتجمد وهو بعيد عن مراكز التأثير وصناعة القرار، كان الخيار الاول يطرحه نائب الرئيس علي عثمان كمرشح للامانة العامة للحزب هو د. نافع أمين الاتصال التنظيمي ويتركز الخط الداعم له في الأجهزة الرسمية وخاصة الامنية، والثاني كان تيار أهلي يقف من خلفه بعض قيادات الطرق الصوفية ورجال الادارة الاهلية خاصة في منطقة الخرطوم، بالإضافة إلى بعض القيادات الوسيطة في الحزب ومرشحهم د.مجذوب الخليفة أحمد والي الخرطوم وقتها، التيار الثالث كان ما يمكن وصفه "تيار قيّمي" وهو مسنود بالنخبة المثقفة من صفوة الحزب والقطاعات النوعية الحية مثل الشباب والطلاب والمرأة وبقية رموز الحركة الاسلامية الذين كان مرشحهم د. غازي صلاح الدين.
    يأتي د.نافع علي نافع كشخص اول في سباق قيادة الحزب، وهو رجل متجرد، صادق لدرجة التطرف في آرائه، التي لا يُميز فيها بين ما يمكن ان يقال علنا او في الخفاء، اكسبته مهنته السابقة على السواء في "تدريس علوم الزراعة او المخابرات " براغماتية شديدة من الصعب قبولها في حركة تتصدى لاقامة مشروع رسالي يؤمن بوعد سماوي لها بالتمكين، فبات ببراغماتيته تلك شيئا مما وصفه التجاني عبد القادر (عقلية أمسك لي واقطع ليك)، مع ان منطقه انه لايمارس السياسة بطريقة التسويف والمماطلة بل يرى الحسم والقطع أقصر الطرق بأية وسيلة كان الحسم باليد (المال او السلاح) أو اللسان، وكان مدعوما في تنافسه على مسئولية الحزب من قبل الاجهزة الرسمية –خاصة الامنية- ومُزكى من قبل النائب الاول – بكل ما توفره هذه التزكية من النائب من دعم سلطوي غير محدود و قدرات مالية هائلة -وكان يعتبره ساعده الايمن حتى تلك اللحظة، فهو العضو الأبرز في الامانة الخاصة، ومسئول مركز معلومات الجبهة الاسلامية قبل انقلاب يونيو، ثم مدير جهاز الامن لفترة كانت حاسمة وحساسة من عمر النظام، كذلك كان النشاط الذي يقوم به في الولايات فترة ما بعد الرابع من رمضان جعل صلاته برجال القبائل والادارة الاهلية تتقدم به للغاية على منافسيه. وجعلت جانب رجل البادية في شخصيته أكثر وضوحا ليشابه زعماء العشائر حتى في زيهم ولسانهم وتعبيراتهم.
    الشخص الثاني في المنافسة كان هو الراحل د.مجذوب الخليفة أحمد وهو شخص له همة عالية ومقدرة على المثابرة والتصميم على الاهداف التي يخطها لنفسه او يُكلف بها حتى ينالها مهما كلف الامر او إرتفع الثمن، كذلك له موهبة في تنظيم الاولويات وتوزيع المهام غير معهودة في اقرانه وهو وبحكم مسئوليته كوال للخرطوم لعب دورا رئيسيا في ترجيح كفة البشير وتثبيته سياسيا في فترة مؤتمر العشرة آلاف (أكتوبر 1999م) او في احداث الرابع من رمضان من بعدها، أيضا بحكم ما كان يشغله من مهام قبل التغيير الذي جاء في يونيو 89، حيث كان مسئول الفئات والعمل النقابي وبعدها فان له قاعدة وسط نخب الحزب بحكم كونه مسئول التوظيف السابق في الحزب الذي كانت مهمته الاساسية تتلخص في توفير الكوادر المناسبة في الوقت والمكان المناسبين ومع انها مهمة تنظيمية روتينية الا انه افلح في ان يجعل منها مركز قوة، و صار له إمتداد نفوذ وسطوة "دين اخلاقي" على الكثيرين من الذين قام بترشيحهم لشغل وظائف مهمة وكبيرة، بالاضافة الى علاقاته المتشعبة مع رجال الطرق الصوفية الذين كانوا ينظرون اليه كوريث اسرة له اسهام كبير في إحياء الدين في مناطق نهر النيل، ورجال القبائل المؤثرين على الاقل في محيط الخرطوم، وميزاته التفضيلية الاخرى التي ذكرناها كرجل شديد النشاط والحركة قليل المنام لايهدأ ابدا وتلك صفات يحتاجها الحزب بشدة في مسئولية الامين العام في هذه الفترة بعد الانشقاق الذي وقع.
    التيار الثالث كان يتحلق حول د.غازي صلاح الدين وهو اقرب ما يكون الى مفكر أو رجل دولة عصري، منه الى ناشط سياسي او شخصية تعبوية تتصدى للاعمال الموسمية وحشود الجماهير، ومع ذلك كان ينظر اليه تيار عريض داخل الحزب –خاصة قاعدة المثقفين- بإعتباره الأجدر بمسئولية الامين العام فهو أول مدني يتقلد هذا المنصب بالإنتخاب من قواعد الحزب في مؤتمر عام(7) في يناير 1996م، وهو مقرر مجلس الشورى السابق لأكثر من عشر سنوات، كذلك الوحيد المتبقي من مكتب القيادة السابق الى جانب الرئيس ونائبه الاول (المشار اليه الذي ضم الى هؤلاء د. الترابي د.علي الحاج والراحل الزبير محمد صالح) وهو بذلك مطلع على كثير من أسرار وقرارات تلك الفترة، ويجعله اكثر اقترابا من مكونات القيادة الرئيسية الفاعلة الآن (الرئيس ونائبه الاول)، بالاضافة الى ذلك لديه خطاب جاذب للقوى الحية في الحزب وقد لعب دورا رئيسيا في استمالة قطاعات (الشباب والطلاب والمرأة) في فترة الانشقاق، الا ان العقدة الرئيسية هي ان القيادة كانت محكومة بنظرة الترابي الذي كان في ايامه الاخيرة يفضل الهرب من اجواء الافندية والنخب والثقافة، إلى حشود العامة وجموع الأتباع لذلك كان منطق تأمين مراكز القوى وترضيتها هو الابرز شيوعا.
    اللافت أن الرئيس البشير كان يرى ان الامر لا يعنيه، وأن هذا الصراع في المستوى الادنى منه – بمعنى انه لن يطال كرسيه- وبالتالي ترك الامر يمضي بما تتوافق معه الظروف وسيتعامل هو مع المنتصر من هؤلاء، فهذا الصراع بين "الملكية" وفي ختام المطاف الكلمة الاخيرة له. في وقت كانت فيه البلاد والحزب احوج ما يكونا للاتحاد كقول البرعي اليماني:
    تشتيتهم جمع الاحزان في كبدي
    فالهم مشتمل والركب اشتات
    سياسة المنحنيات الحادة:
    في يونيو 2001 قام الرئيس بتعيين د.غازي عتباني في منصب مستشار الرئيس للسلام وعهد إليه بالبحث عن صيغة سلام مقبولة مع الجنوب، وفعلا بعد جهد كبير استطاع مستشار الرئيس للسلام ان يقنع الوسطاء بدفع الحركة للقبول بمبدأ نظامين في دولة واحدة ومن ثم القبول بالفدرالية لكل السودان مع الشريعة في الشمال ونظام محايد في الجنوب من ناحية التشريعات الاسلامية (كانت العقبة الكؤود في كل جولات مفاوضات السلام هي مسألة الشريعة والكونفدرالية) وتم في 20يوليو2002 التوقيع على بروتكول ميشاكوس الاطاري الذي أعتبر اتفاقا مفتاحيا هيأ لما جاء بعده من اتفاقية سلام، وان اختلفت عنه في جوهر القضايا. تقدم الوسطاء بعد ذلك بمقترح شامل للحل في ما سُمي بوثيقة ناكورو في يوليو من العام التالي والتي رفضتها الحكومة سعيا لحل افضل (راجع فصل سجالات السلام وغياب الرؤية في هذا الكتاب).
    في سبتمبر 2003 التقى النائب الاول للرئيس علي عثمان بـالعقيد جون قرنق زعيم الحركة الشعبية في ضاحية نيفاشا بترتيب امريكي كيني شارك فيه مساعد وزير الخارجية الامريكي المستقيل والتر كينشتاينر ووزير خارجية كينيا كالنزو مسيوكا الذي زار الخرطوم نهاية اغسطس والتقى بالرئيس البشير وحمل له رسالة من الوسطاء وشركائهم تفيد باهمية حضور نائب أول الرئيس الى كينيا للقاء جون قرنق وحسم كل القضايا العالقة (الوسطاء كما هو معروف دول الايقاد، وشركاؤهم الترويكا الاوربية، بالاضافة الي الولايات المتحدة وبريطانيا) وقد كان.
    المنافسة الشرسة:
    على إثر تلك التطورات تقدم مستشار الرئيس باستقالته من منصبه الرسمي لما اعتبره تدخلا من الرئاسة في صميم عمله، وإن اعلن انه باق في الحزب والبرلمان يمارس منهما عمله السياسي. بعد خمسة أشهر من قبول استقالة مستشار السلام انعقد المؤتمر العام للحركة الاسلامية في ابريل 2004 (في نوفمبر2003 اعلنت رئاسة الجمهورية قبولها الاستقالة) وتقدم الوزير حسن عثمان رزق بتعديل على النظام الاساسي بحيث يعاد انتخاب الامين العام للحركة من المؤتمر العام بعد اجازة المقترح، تقدم الشيخ محمد محمد صادق الكاروري بترشيح الاستاذ علي عثمان محمد طه الى منصب الامين العام للحركة وقام الاستاذ احمد ابراهيم الطاهر بتثنية الترشيح – لا يخفى دلالة ان يقوم رئيس البرلمان بتثنية الترشيح- وفي المقابل تقدم د.محمد الحسن التكينة الطبيب الإختصاصي المعروف بترشيح د.غازي صلاح الدين العتباني لمقعد الامين العام قام الشيخ عبد الله بدري القيادي التاريخي بتثنية الترشيح بطريقته الهادئة، جرى التصويت في وضع غير مثالي شابته الكثير من التجاوزات وقام بعض انصار المرشحيّن اللذيّن قفل باب الترشيح عليهما بإستخدام طرق غير مقبولة بالمرة، فمثلا أتى بعض انصار احد المرشحين – وكان وزيرا- بأفراد الحراسة والتأمين للتصويت لأحد المتنافسين وهم يتبعون لجهاز امن الحزب الذي يعرف "بالأمن الشعبي" وليسوا ضمن الأعضاء المؤتمرين ولم يكن لهم حق التصويت (تم عزل الأستاذ احمد الرشيد من مسئولية الامن الشعبي بعد انفضاض المؤتمر بسبب رفضه وإحتجاجه على ذلك) كذلك عملية التصويت استخدمت فيها كاميرا الفيديو بطريقة فيها الكثير من الترهيب وفي انتهاك صريح لقدسية خصوصية الإقتراع أمام الصناديق (وضع صندوقان كل يمثل مرشحا وعليه اسمه ويطلب من كل عضو ان يضع البطاقة التي فيها اسم المقترع في الصندوق المسمى للمرشح المعين في وجود كاميرا الفيديو) ومع ذلك صوت البعض بشجاعة وان افقدتهم منصابهم بعد المؤتمر مثل الوزير صديق المجتبى وزير الدولة للثقافة وآخرون كُثُر. بعد عملية فرز الاصوات فاز الاستاذ علي عثمان بفارق ضئيل(حوالي 4.5% من جملة الذين يحق لهم التصويت) والذي لم يكن باي حال من الاحوال يتناسب والامكانات الضخمة التي حشدت او الاعتبارات التي تسانده في مقابل خصمه المنافس. قضية د.غازي في الحزب تذكر بشخصية عبد الخالق السامرائي (الملقب أبو دحام) في حزب البعث العراقي وهو المفكر والمنظر الاول لافكار البعث في جيله والكاتب لكل الادبيات والرسائل الفكرية التي صدرت في نهاية الستينات ومطلع السبعينات وعين وزيرا للثقافة في أول حكومة لحسن البكر بعد انقلاب البعث في 1968م، ثم قام باعدامه صدام حسين عقب مؤامرة ناظم كزار، وكل جريرته انه كان يؤمن بجدية بافكار الحزب "الاشتراكية والقومية" ويطبقها على نفسه، حيث جاء في عريضة الاتهام انه يأكل السندوتشات من نفس النوع الذي يتناوله سائقه، ويسكن وهو وزير في ذات المنزل الذي كان يشغله وهو يعمل مدرسا، ويستكثر على الآخرين من قيادة الحزب التمتع بمنازل كبيرة وبحبوحة العيش التي ينسى أنها ضرورية لمن هو في السلطة حتى يعرف كيف يعمل ويفكر بطريقة لائقة للمصلحة العامة...الخ.
    منطق العدوى في الحزب:
    خلفت هذه الحادثة أعظم الاثر على القيادة السياسية الموجودة في الحزب، فقد كان المؤتمر العام للحزب على وشك (اكتوبر من نفس العام) والامين العام وقتها د.إبراهيم أحمد عمر الذي يوافق هوى الجميع يضغط بشدة لاخلاء موقعه، والتيارات السابقة تتلاطم حول الحمى في انتظار الفرصة المواتية، وما وقع في مؤتمر الحركة الاسلامية بسوبا شكل درسا قاسيا، وكشف عن اوضاع غير مأمونة للقيادة التي كانت تعتقد انها قد تسنمت زمام الامور بيدها وقضت على كل بؤر المقاومة بخروج الترابي، في من هم دون الرئيس على الاقل، وإن كانت الحركة الاسلامية هي أمر بالدرجة الثانية باعتبار ان عضويتها من الصفوة المنتقاة، لكن المؤتمر الوطني يُعتبر اساس المشروعية المباشرة للسيطرة على مقاليد الحكم وتتركز فيه كل السلطات، وكل مفاصل الدولة تدار عبره، ولا يحتمل الامر حتى مجرد المغامرة. عمدت القيادة الى طريقين لاعادة إحكام قبضتها التي اهتزت في سوبا، الاول التخويف من سيناريو الانشقاق او العودة الى الترابي فجرت عملية احياء وإعادة نشر وتداول لمصطلح "لا للازدواجية" الذي كان له مفعول السحر في أزمة الرابع من رمضان أشبه بطريقة (Never again)، باعتبار أن مستشار السلام السابق مثلا واحدة من أبرز النقاط التي أُخذت عليه هي دعوته المتكررة ومحاولاته المستميته لتوحيد الحركة الاسلامية، وقد نجحت فزًّاعة الترابي الى حين، الا أن ازدياد نقمة العضوية مما تسميه القبضة الامنية لأمور الحزب وحالة النفور والتململ التي بدت مستشرية وسطها كانت –ولاتزال- تدق اكثر من ناقوس. الطريق الثاني جاء مع اقتراب موعد المؤتمر العام للحزب والتركيز على ان المنافسة المتوقعة ستكون على دائرة الامانة العامة في الحزب باعتبارها مركز الثقل المحوري في إدارته، تقدمت القيادة بمقترح لمجلس الشوري العام للحزب بتعديل النظام الاساسي وإلغاء الامانة العامة للحزب من اساسها بمن تشمل" الامين العام وأمناء الأمانات " وما تمثله من رمزية اعتبارية للحزب باعتبار رئيس الحزب هو رئيس الدولة وبالتالي الخلط يجعل الحزب وكالة او فرعا تابعا للدولة وليس شيئا مميزا بذاته،(العذر الذي كان مستخدما هو الحيلولة دون تكرار تجربة الترابي باعتبار ان الامانة العامة تنافس المكتب القيادي وتخلق هيكلا موازيا لا ضرورة له وتعيد "الازدواجية" في القيادة مرة اخرى). وبذلك أوصد الباب وبشكل نهائي امام اي تنافس غير مأمون العواقب واصبح المؤتمر العام مجرد روتين ينعقد، أهم ما فيه الإستماع للرئيس والتقارير الدورية الاعتيادية التي لا تقدم ولا تؤخر، واعتماد اعضاء مجلس شورى الحزب الذين جلهم من الدستوريين وزعماء العشائر ووجهاء الاقاليم وغيرها من الاعمال الديوانية المكتبية. واستعيض عن الأمين العام بنواب يقوم بتعيينهم الرئيس وبالتالي اصبحوا أشبه بالسكرتارية أو الموظفين في الحزب، ولاؤهم وصوتهم لمن بيده إقالتهم وإعادة الثقة فيهم "رئيس الحزب" وليس جماهير الحزب ونظامه الاساسي الذي على اساسه جرى انتخابهم. وصف د.حسن مكي حال الحزب بعد هذا التعديل بأنه أشبه ما يكون رئيس الحزب هو حائط والآخرون مجرد ديكور عليه من ستائر ولوحات زينة وخلافه، وهو تشبيه دقيق وأقرب ما يكون الى الصحة.
    صراع متقدم:
    بتعيينه نائبا لرئيس الحزب مع اضافة تعريف فرعي "للشئون السياسية والتنظيمية" انضم الدكتور نافع الى دست القيادة، وكان وجوده في تلك الفترة (من نوفمبر 2003م وحتى 9 يناير 2005م) موزعا بين الخرطوم ومنتجع نيفاشا حيث تجري المفاوضات بين النائب الاول وجون قرنق، مما كان يتيح له الاتصال بالرئيس البشير الذي ينقل اليه بعض الرسائل من النائب الاول خاصة فيما يتعلق ببعض القضايا التفاوضية التي كانت تحتاج الى مشاورة اوسع من الخرطوم لا تحتملها خطوط الهاتف أو رسائل الشفرة. يجدر بنا أن نشير إلى أن كل أعضاء الامانة الخاصة او الحزب لم تكن لديهم أي خطوط سالكة حتى ذلك الوقت مع الرئيس مباشرة، حيث يتم استصدار القرارات أو التوجيهات عن طريق النائب الاول أو نائب الامين العام وقتها.
    وفي الفترة التي تلت هذه الاحداث وقعت ثلاثة أشياء غيرت من نمط التحالفات داخل البيت الحاكم وأفرزت مسارات جديدة للصراع، اولا غياب النائب الاول لأكثر من ستة عشر شهرا -وهي المدة المشار اليها بأعلى - عن الخرطوم "مركز القرار" وفرت فرصة ذهبية، وفتحت المجال لعدد من رجال الصف الثاني والثالث للتواصل المباشر مع الرئيس كما ذكرنا، مستخدمين حجة منطقية وهي أن طبيعة الأحوال وتصريف شئون الدولة تحتاج الى قرارات عاجلة وفورية لا تنتظر، وسرعان ما توثقت صلة هؤلاء بالرئيس الذي بدأ يستلطف وجودهم مثل (صلاح قوش مدير الامن، أسامة عبد الله وزير السدود، وكمال عبد اللطيف وزير الدولة بمجلس الوزراء،...الخ) فلما عاد نائب الرئيس الأول لمركزه في الخرطوم وجد شيئا طارئا لم يكن قد تحسب له – كما حدث للترابي في فترة غيابه بالسجن تماما- فقد أصبح لهؤلاء رأي وكلمة لدى الرئيس قد تكون متساوية في بعض الاحيان معه وفي بعض الاحيان تتضارب وتتعارض الرؤى!!. الأمر الثاني الذي تغير هو اختفاء شريكه في الاتفاق جون قرنق الذي غيبه الموت والذي جهد النائب ليبني معه تحالفا منسجما يجعل على الآخرين في الحزب من الصعب بمكان التفاهم معه من غيره. الأمر الثالث: نفسي ذاتي مرتبط بطبيعة الرئيس وتكوينه وهو كثرة الحديث عن نائبه الأول الذي أصبح في نظر العامة قد حقق السلام وأصبح رجل الدولة القوي المتواصل والمقبول من المجتمع الدولي(وغيرها من احاديث المجالس) من الاقاويل والوشايات إضافة اليها ارهاصات القرارات 1993 وما بعدها التي صدرت عن مجلس الامن وتتحدث عن محكمة الجنايات الدولية، مثل تلك الاقاويل لم يكن النائب يلتفت اليها في السابق ولا يعيرها اهتماما بناء على الثقة التي تجذرت واشرنا اليها سابقا، ولكنها كانت مسموعة بدرجة مُلفته ومؤثرة ومقلقة في بعض الاحيان.(انظر إلغاء النائب لزيارته التي كانت مقررة إلى لندن بدعوة رسمية من رئيس الوزراء البريطاني _10 Downing Street_والتي كان مقررا لها ديسمبر 2011م ولكن قيل انه قد عدل عنها بسبب حملة صحفية شنها الطيب مصطفي يقول انها دعوة لمؤامرة جديدة على البلاد، لماذا لا تتم الدعوة للرئيس؟؟..الخ) ومع ان الزيارة لو تمت لكانت الاولى من نوعها منذ اكثر من نيف وثلاثين عاما.
    معالم وشواهد للعيان
    عبرت هذه المحاذير عن نفسها في مناسبتين الاولى عند التشكيل الوزاري الاول بعد توقيع اتفاق السلام في سبتمبر 2005م وكان لافتاً ان يكون خاليا تماما من الفريق الذي ساعد النائب الاول في التفاوض من الذين توقع كل المراقبين ان ينالوا نصيب الاسد في الحقائب الوزارية باعتبارهم اقرب الناس الى الشريك الاساسي الجديد في الحكم (الحركة الشعبية) وتوفر هامش من الثقة بين الطرفين بالاحتكاك الذي جرى في فترة التفاوض مما قد يجعل التواصل عبرهم سهلا، فكانت القائمة الوزارية تكاد تكون خالية من الاسماء التي شاركت في نيفاشا حتى الذين كانوا وزراء من قبل ذلك جرى إخراجهم في هذا التشكيل (أمين عمر، يحي حسين،..الخ)، المناسبة الثانية وقعت بعد أشهر معدودة وذلك باستغلال تصريح نقلته وسائل الانباء العالمية منسوبا إلى نائب الرئيس علي عثمان إبان زيارته إلى بروكسل في مارس 2006م قال فيه أن (السودان يمكنه النظر في مسألة القوات الدولية في دارفور بعد التوصل إلى تسوية سياسية في الاقليم) هاجت بعض دوائر السلطة في الخرطوم واضطربت عند عودة النائب الذي دعي على عجل إلى اجتماع قيادي في بيت الرئيس صبيحة وصوله، حضره الرئيس ونائبه وحوالي( 25 ) شخصا دعاهم مكتب الرئيس جلهم من الصف الاول الموثوق بهم، ما لبث الاجتماع أن تحول إلى ما يشبه المواجهة، التي وصلت حد عرض الأمر للتصويت، حيث صوت خمسة اشخاص إلى رأي النائب في مقابل تسعة عشر في الاتجاه الآخر والتزم البشير الحياد، ولما رأى الرئيس ان وقع الامر ثقيل على الحضور بهذه الطريقة اقترح تكوين لجنة من ستة اشخاص ترأسها د.نافع الذي كان يعد حتى تلك الفترة في معسكر النائب وشملت اللجنة (الزبير بشير،غازي صلاح الدين، عبد الرحيم حسين من الاتجاه الرافض للقوات الدولية، أمين عمر، مطرف صديق ونافع) لدراسة الأمر والخروج بمقترحات عملية، عقب الاجتماع دعا مكتب النائب الى مؤتمر صحفي في القصر الجمهوري، وأفاد النائب بلغته العربية الرصينة ان الدولة لها قرار وموقف واحد وهو رفض القوات الدولية وأن وسائل الاعلام نقلت تصريحه بتصرف وحملته دلالات لم يشر هو اليها، فهو كان يعني ان التسوية السياسية يجب ان تسبق كل تفكير في قضايا خلافيه او امر آخر مرت الأزمة في الظاهربسلام بطئ. الحقيقة هي ان النائب بعدها بقليل (في يونيو 2006م) تقدم باستقالة مكتوبة للرئيس وغادر الى تركيا مع اسرته. في محاولة لتلطيف الأجواء صرح عبد الرحيم حسين وزير الدفاع واحد ابطال المواجهة السابقة لوسائل الاعلام ان العلاقة التي تربط بين النائب والرئيس هي من اقوى ما يكون و(ان الرئيس هوالذي طلب لنائب ان يأخذ اجازة حتى يستجم ويرتاح قليلا) وكانت كلمات الرجل على عكس ما أراد لها، فبدلا ان تصب ماءً على النار لتطفئها إذا بها تصير زيتاً يزيدها اشتعالاً وإضطراماً. فقد كان لافتا ان يتغيب نائب الرئيس والرجل الذي قام الانقلاب في يونيو ورمضان على كتفيه عن احتفالات العيد السابع عشر لثورة الانقاذ، التي بدت وكأن أحد اعمدتها الاساسية تهتز.
    أسفين سلفاكير:
    في اغسطس 2009 نقل سلفاكير ميارديت للرئيس معلومات أبغلتها إياه دولة اقليمية صديقة للطرفين مفادها أن مدير مخابراته وبالاتفاق مع نظيره المصري يعملان على تدريب قوات جنوبية في معسكرات في دولة جارة لشمال السودان تحت ستار ان هذه القوة تتبع للعدل والمساواة وفي الحقيقة انهم قوة جنوبية صرفة والمقصود بها تخريب الجنوب قبل نهاية الفترة الانتقالية وايقاف الاستفتاء، وقدم للرئيس أدلة تفيد أن مدير مخابراته يعمل مع نائبه على الاطاحة به وانهم قد فاتحوا الحركة الشعبية لتهيئتها لهذا الامر، إشتاط الرئيس غضبا وكتب أمر إقالة لمدير المخابرات بخط يده(9)، الا ان الرسالة كانت قد خرجت الى من يعنيه الامر(راجع برقية مسربة على موقع ويكيليكس في شكل تقرير من السفير الامريكي البرتو فرناندز نقلا عن دينق الور وزير الخارجية وقتها الى رئاسة الخارجية الامريكية-واشنطون).
    لم يعد خافيا إرتفاع حدة الصراع المستتر بين نائب رئيس الجمهورية من جهة ومساعد الرئيس ونائبه لشئون الحزب في الجهة المقابلة، وان كان بعض أصحاب المصلحة يحاول تجيير الصراع بحسبانه صراعا قبليا (جعليين ضد شايقية)، أصبح كل طرف يترصد للآخر في غياب تام لدور شخص مركزي يشكل مرجعية فوق الصراع تردع الكبار عن الانزلاق في هذه الصغائر الذين ينساقون وفق الاجندة التي تضعها سكرتارياتهم التي تزودهم بالمعلومات المغلوطة وفق اجندتها هي، في وقت كانت البلاد فيه تتجه نحو الانقسام، والكل يحتاج لكل قطرة دم وعرق لمعركة الانفصال وما يتولد عنها، في نهاية شهر مارس 2011 وقعت حادثة في سلاح المدرعات بالشجرة (10) وقد كانت مزلزلة ولكن مطالب الضباط كانت محصورة في اصلاحات مطلوبة داخل الجيش، قام ضابط من السلاح مدفوع من عناصر في الامن (اعترف الضابط لاحقا تلقيه اموال ووعد بالنقل من عنصر في الامن وآخر يشغل وظيفة مهمة في مكتب الرئيس) قام هذا الضابط بالاتصال بالمهندس صلاح عبد الله مستشار الامن القومي الذي دفعه الفضول لمعرفة تفاصيل ما جرى خاصة ان المذكور كان الضابط المناوب تلك الليلة وكانت الحادثة شائعة على لسان العامة في الطرقات بل وتسربت عبر بعض المواقع الاسفيرية، تكررت زيارات الضابط –بالاتفاق مع جهاز الأمن ليرصده- إلى مكتب مستشار الامن والذي قابل الامر ببرود بعد عدة ايام جيء بالضابط في مبنى استخبارات الجيش وقيل انه "شاهد موثوق" وأن المستشار طلب منه تجنيد ضباط آخرين للقيام بانقلاب، كان الامر يدعو للرثاء، فصلاح كما هو معروف عنه أذكى من يُستدرج بهذه الطريقة الساذجة، انكي من ذلك قام الثلاثي الذي اصبح يتحكم في قيادة الدولة والحزب (الاول يخدم في مكتب الرئيس والثاني في مكتب د.نافع والثالث في جهاز الامن) بحملة ترويج وبث للشائعات مستخدمين المال وغطاء السلطة الذي يوفره صمت الكبار الذين يبدو ان اللعبة قد راقت لبعضهم، بالاضافة الى البحث عن بالونة تنفيس لاجواء الاحباط والسخط التي باتت تسيطر على عضوية الحزب وعامة المواطنين جراء الازمة الاقتصادية الطاحنة التي بدت تشد خناق البلاد بعد توقف النفط جراء الانفصال ،و تدهور سعر العملة بطريقة مريعة، فبدت صورة المهندس قوش يُروج لها كبعبع مخيف يريد أن يتآمر على البلاد، وبعد ان بلغ الامر حدا لا يطاق ذهب مستشار الامن للقاء الرئيس بمنزله ليصارحه في الامر ويطرح عليه الازمة التي يريد صغار الموظفين – بممالأة الكبار- الزج به فيها، وطبقاً لرواية المقربين له فقد وجد الرئيس على يقين كامل لا يحتمل حتى النقاش من أن هناك مؤامرة كبرى على وشك الوقوع وأنه أي صلاح الرأس المدبر لها وأن قبيلتهم في الاصل ذات عقلية تآمرية وهو نفسه – أي الرئيس – قد انتفع من هذا الامر من قبل وذكر له رواية مؤتمر مجلس الشورى التي جرى ترشيح البشير فيها للرئاسة عوضا عن حسن الترابي كما كان متوقعا، كان الامر اشبه بدراما اغريقية او غرس سكين الميتادور، فمدير الامن السابق كان من أشد المخلصين للنظام وصل به الامر انه وضع شقيقه الأكبر في السجن لمدة عامين –يُدعى عبد العظيم بسبب ورود اسمه ضمن خلية شيوعية من بورتسودان موطن إقامة الاسرة- لذلك لم يكن يتوقع هذه النهاية في علاقته بالرئيس، استهجن الرجل الامر الذي وجد نفسه في وضع الضحية او كبش فداء-scapegoat- وسط صراعات الكبار، وبحسب الرواية فقد بادر بسؤال البشير برثاء ( أعمل معك بطريقة مباشرة منذ اكثر من عشر سنوات ولا تعلم اني انتسب الى قبيلة العبدلاب وان جدي هاجر الى الشمالية فقط في فترة المهدية ولم أكن ارى اهمية لذكر الامر من قبل)، نقل مستشار الامن لرئيسه الوضع السئ في الجيش والسخط العام وسط ضباطه من وزير الدفاع – في ذلك الاسبوع "الثالث من شهر ابريل" تحطمت أربع مروحيات للجيش لم ينج منها حتى الأطقم العاملة فيه، وقد كانت جميعها ناتجة عن ضعف التشغيل وقلة خبرة الطاقم كما ثبت في التحقيق- كانت إجابة البشير مدعاة للتعجب حيث قال (إن عبد الرحيم من افضل الناس وإنه يحبك – أي صلاح- ولا يذكرك إلا بالخير!! فلماذا الوشاية به؟) كان الأمر مدهشاً للغاية، شخص يتحدث عن مؤسسة مرتبط بها مصير الوطن وكيفية ادارتها، والآخر يتحدث عن العلاقات الشخصية، الا انها تكشف عن حالة فقدان الترابط والتفسير الشخصي بين رئيس ومستشاره، في نهاية اللقاء قال البشير سأبلغك بردى على مقترحاتك عن إصلاح الحزب والدولة والجيش التي ذكرتها بعد اسبوعين. وبعد خمسة ايام دعي صلاح لاجتماع في منزل الرئيس وسلمه الأخير خطاب الاقالة وقال له هذا ردي لك ولمن هم وراءك وكانت – الكاف – ابلغ من الاستفهام عنها.
    أزمة فكر القيادة:
    بعد إقالة صلاح عبد الله الذي كان يعتبر ابرز المخلصين للرئيس في السابق اصبح الطريق داخل القيادة سالكا من مسار واحد .وصار الامر اشبه بقاعدة بوش "من ليس معنا فهو ضدنا" الا انها جعلت الامر داخل التكوين القيادي أشبه بلا توازن أو فرامل. الجميع يتسابقون لارضاء الرئيس وكسب وده، فبعدها بأيام وفي مخاطبته لمجلس الشورى العام قال البشير إن من يريد أن يخرج على "الحزب وقيادته" فإن مصيره سيكون الحسم الفوري، بعدها باقل من شهر (في مطلع يوليو) اجتمع المكتب القيادي للحزب وقدم د.نافع ما قال انها مسودة اتفاق وقع في اديس ابابا بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال تحالفت ضدها قوى من ابعد ما يكون الاتفاق في ما بينها (الطيب مصطفي وعلي عثمان، وعبد الرحيم حسين) الا انها وحدت مواقفها في مواجهة الاتفاق ومن جاء به، وقام المكتب القيادي برفض الاتفاق وجرت حملة اعلامية قوية للترويج لهذا الرفض دون تسبيب موضوعي لهذا الرفض وهو ما اثبتته الايام. فالذي توصل اليه إدريس عبد القادر في مطلع ابريل الماضي –اتفاق الحريات الاربع- كان اصعب من هذا بكثير وبكل المقاييس، أصبح اتفاق د.نافع مثل اليتيم حتى من وقعه احجم عن الدفاع عنه. بعدها بأيام وفي 31 من الشهر نفسه قال نائب الرئيس علي عثمان وهو يخاطب المواطنين في ولاية الجزيرة وأراد لصوته ان يذهب الى من هم أبعد من الحضور( إن كل من يحاول الخروج على الرئيس سنواسيه بسيوفنا) وكان نصل الكلمات احد من السيوف على عضوية الحزب التي كانت تبتغي الاصلاح أو تنادي به ووجدت نفسها تعاود التوهان في مفازة سرابها كان يحسب ماء. أصبح بعد ذلك الطريق الى البشير مثل قضبان السكك الحديدية لا نزول فيه لراكب اختياري بل الصبر والانتظار للمحطة القادمة والتلهي بالحق والباطل لدفع قيمة هذه التوصلة. ففي افطار رمضاني يوم 13 أغسطس بولاية نهر النيل قال د. نافع ان من يحاول ان يخرج على وحدة الصف فان "مصيره الهلاك" بعد أربعة أيام (17 أغسطس)كتب اسحاق احمد فضل الله في عموده بالصحف اليومية " أن ضباط الجيش في حالة غليان من الأوضاع السياسية والاقتصادية وأن الحال أشبه ما يكون الدعوة الى انقلاب وافاد بان الرئيس وعبد الرحيم حسين قد اجتمعا بالضباط ويعملان على تهدئتهم، وذلك عين ما حذر منه مستشار الامن المقال قبل أقل من ستين يوماً. بعدها بثلاثة اشهر "في ديسمبر " الطيب مصطفي – خال الرئيس – يكتب مطالبا القوات المسلحة باستلام الحكم وتوحيد الشعب ضد الجنوب بعد الهوان الذي تضعنا فيه الحكومة قبل ان يعود ويعتذر عما كتب ربما بضغوط اسرية لا دوافع وطنية. قبلها كان الشيخ المخضرم ابوزيد محمد حمزة الزعيم التاريخي لجماعة انصار السنة المحمدية وعلى إثر اندلاع القتال في جبال النوبة وجنوب النيل الازرق يقول في مطلع ديسمبر 2011م في خطبة الجمعة بمسجد الثورة الحارة الاولى (إن الذي يحدث على حدودنا الجنوبية "خطير خطير" ونحن نطالب القوات المسلحة باستلام السلطة حتى تكون هناك قيادة يثق الناس بها ويقاتلون من خلفها لان المستهدف الآن بالتغيير ليست السلطة السياسية بل المجتمع والاسلام في جذوره) ولعل ما ادركه الداعية شيخ ابو زيد بسريرته النقية فشل في التعرف عليه دهاقنة السياسة المتحكمون في الخرطوم.وقد كان مشهده مؤثرا وهو شيخ يخطو نحو الثمانين ويطوف على جرحى العمليات بالسلاح الطبي يضمد أوجاعهم، والآخرون مدّعو البطولة يرفلون مع ربات الخدور في المنازل وداعي الواجب ينادي في هجليج في ابريل المنصرم لايحسنون غير الطواف مع الرئيس او النائب والظهور على وسائل الإعلام، هذه الوقائع منشورة وموثقة في (الرأي العام).
    أوتقراطية منتظمة:
    بعد كل ما ذهبنا اليه لا بد من وقفات في سيرة بعض مكونات القيادة بطريقة ذاتية، وهي بكل تأكيد ليست محاولة لرد السلوك السياسي لخصائص نفسية او شخصية ولكن محاولة لفهم قضية عامة عبر خطوط تماس معقدة فردية.
    يعتبر الرئيس البشير شخص سوداني بحق يتمتع بافضل ما لدى السودانيين من صفات في التعامل الاريحي مع مرؤوسيه بتواضع واحترام وله روح دعابة عالية يرسل الطرفة في الهواء كما يتنفس، ولقد وضعته تقاطعات الظروف في المكان الذي صار اليه دون تدبير منه، فأولا هو يجد نفسه متنازعا بين سلطة ربما يكون زاهدا فيها طوال الوقت انظر الي التعبير المغلف الذي كتبه احد مستشاريه السابقين (شخصية الرجل غير الميالة إلى حصر الأمور في يده لا تزال هي هي . ولذلك ربما يحسن بالمؤتمر الوطني العمل على تمتين مؤسسة الرئاسة) راجع امين حسن عمر مقال منشور بصحيفة (الرأي العام) يناير 2007م، فشخصية الرجل ابعد ما يكون عن الديكتاتورية حيث لا ينفرد بقرار لوحده بل يعمل على اشراك منظومة القيادة التي من حوله، وذلك مما يشهد له به حتى خصومه الألداء (راجع مقال للاستاذ عمر العمر بعنون ديكتاتورية بلا ديكتاتور في السودان)، ولكن غير قابل ليدفع الثمن المطلوب منه في القيادة وهو التركيز في تفاصيل العمل والمتابعة والمحاسبة، في ذات الوقت يجد نفسه مضطرا الى قبول هؤلاء الذين يزيلون عن كاهله هذا العبء ويقومون بالعمل انابة عنه، وهو يعلم انهم لن يفعلوا إلا بما يتوافق مع مخططاتهم من تعليماته، لذلك يعملون على احاطته باشخاص يُفضلون تزجية الاوقات بالتسلية الكلامية والعبارات المضحكة. ومن الأشياء التي تثير الجدل دائما خطبه العامة فهو لايكترث كثيرا لما يقول داخليا او خارجيا فمثلا خطابه في الساحة الخضراء عشية الانتصار الباهر للقوات المسلحة وتحرير هجليج وبتصريحه علانية بتبني اسقاط حكومة الجنوب ونقل الصراع مع جوبا إلى اقصاء أي من الطرفين قدم خدمة كبيرة للحركة الشعبية ودولة الجنوب التي يعاديها ويدعو لاسقاطها، فهذا التصريح قد قدم الامر على طبق من ذهب حيث أعاد الى الحركة التي يود إقتلاعها كل التعاطف الدولي الذي فقدته بتصرفها الاخرق في هجليج، أيضا بذلك التصريح نسف ليالي وأياما وساعات قضتها مؤسسته الدبلوماسية ساهرة في حركة دؤبة على مدار الساعة في كل العالم عبر سفاراتها وبعثاتها ووفودها المتصلة تكشف للعالم الجناية الكبرى التي قامت بها وكان ذلك حدثا باهرا نجح في كسر حالة التعاطف التي تجدها الحركة وحولتها الى جان بعد ان كانت تعيش لعقود طويلة في إهاب الضحية مما حمل علي كرتي وزير الخارجية ليقول في البرلمان في مايو ان التصريحات غير المُرشدة في الاعلام تضر بعمل الخارجية وتنسف جهودها دون ان يذكر الرئيس عينا. والامثلة كثيرة فيما لا يخفى على مراقب مثل حديثه في الفاشر الذي اعتمدته محكمة الجنايات الدولية عن الاسرى وغيرها، لم يتدبر الرئيس في قوله ما الذي سيفيد هتاف وحماس الشباب الذين يقفون امامه وتلك ميزة الحكمة التي جعلت الاربعين هي سن النبوة.
    لقد جرى تحديد وظيفي منذ فترة الترابي لمنهج إدارة الاجتماعات القيادية، بحيث صار الرئيس دوره ينحصر في ان يقوم بإدارة فوقية للإجتماعات وتوز يع فرص الحديث (Mr Speaker)، دون بلورة رأي او طرح مبادرة او الهام الحضور بافكار جديدة، وهو ما انعكس على السلوك القيادي في نهج بقية أجهزة الدولة الاخرى، فمثلا أصبحت الرؤية ان تولي الفريق هاشم إدارة الشرطة وبالتالي البشير مسؤول عن هاشم وليس مسؤولا عن الشرطة، بمعنى إذا وقع خلل أو تقصير في جهاز الشرطة فهي مسئولية هاشم وحده، وهذا قطعا غير صحيح وغير منسجم مع كل مدارس الادارة في كل العصور لان المسئولية تضامنية مشتركة فالبشير مسئول عن هاشم ومسئول عن الشرطة ايضا، وفي ذات الوقت لو ارتكب شرطي خطأ فهي مسئولية هاشم امام البشير، ومسئولية البشير امام الشعب وهكذا.
    الأمر الآخر الذي يجب التنبه اليه وقراءته جيداً، هو جدول أعمال رئيس الجمهورية او برنامجه اليومي الذي يلاحظ امتلاؤه بالفقرات الاجتماعية والزيارات والمناسبات المستمرة، حيث يعتقد بعض المراقبين بطريقة جازمة بانه كانت هناك خطة متعمدة لإشغال الرئيس وضعت فى فترة الترابي لإلهائه بالامور الاجتماعية، وجعله بذلك لا يجد الزمن المناسب لمراجعة تقارير الدولة، ومن ثم المحاسبة والمساءلة، وبالتالي يقوم آخرون بذلك نيابة عنه، ومن ثم اصبح دائم الاعتماد على هؤلاء، لا يبصر الا بعيونهم، ولا يسمع الا بآذانهم كما ذكرنا، حتى اصبح في نهاية الامر كل شئ وفق رؤاهم وتطلعاتهم، فصار لا يقوى أحد على الخروج من النسق الذي يختطونه له، صادفت فترة منتصف التسعينات اشتداد العمليات الحربية في الجنوب، ومن ثم طرحت مسألة زيارة اسر الشهداء وجرحى العمليات، وبالتالي المساهمة في قضية الساعة - وقتها- وهي التعبئة العامة، وكان ذلك مما يمكن تبريره وقبوله بسهولة. إلى أن وصل بهؤلاء الأمر ان قاموا بتسجيل الرئيس – وهو رئيس دولة- في إحدى الجامعات، ليقوم بتحضير رسالة ماجستير عن الثقافة الاسلامية، يذهب عدة مرات في الأسبوع الى الكلية المعنية لتلقي المحاضرات وكذلك لمراجعة الدروس، و كانت تلك واحدة من محن السياسة في فترة الانقاذ.
    البشير والجيش:
    بعد سنة وبضعة أشهر يكمل المشير البشير خمسين عاما في الخدمة العسكرية قضى نحو ربع قرن منها قائداً عاماً للجيش وهي اطول فترة خدمة لضابط أو قائد عام في تاريخ الجيش السوداني على الاطلاق - وربما في جيوش المنطقة المحيطة بنا كذلك – وتقتضي الامانة أن نذكر ان الرجل في ذاته يكن حبا ووفاءً للقوات المسلحة لا حدود لهما، ويشعر بكبرياء شديد تجاه من يمسها او يتعرض اليها ولو بكلمة، ومع ذلك هو بالحساب المتجرد تجد أنه المسئول الأول وربما الاوحد الذي شهد عهده اكبر تراجع في أداء هذه المؤسسة ما جعلها عرضة للتساؤل عن فاعلية المهام التي تناط بها وهي تتحمل بلاوي غيرها – من فشل السياسة وسوء الحكم، فعند فشل الدبلوماسية يزج بالجيش في حرب مع الدول كما في هجليج، وعندما تفشل ادارة الدولة للتنوع الثقافي او العرقي يزج بالجيش لقتال مواطنيه كما في دارفور- يمكن الجزم أن هذا وقع دون قصد مقصود ولكنه نتج عن سوء إدارة وضعف قيادة من تولوا الامور الفنية فيها مثل هيئة الاركان او القيادة العامة أو غيرها من اجهزة المؤسسة القيادية، وفي الحقيقة لو اجريت دراسه متعمقة لاوضاع القوات المسلحة من حيث أفرادها والمنتسبين إليها من حيث الكفاية المهنية أوالفاعلية الوظيفية ، لوجد ان العهد الحالي من أشد الفترات بؤسا في العهود التي مرت على هذه المؤسسة العريقة والحيوية في البلاد. وكما ذكرنا لم يحدث ذلك نتيجة لغرض أو هوى منهم بل العكس تماما ربما كانوا من الاخلاص والتجرد دافعا ملازما لهم ولكن ضعف الملكات القيادية وتراجع الكفاءة لصالح الولاء وتردي الخدمات مما أنتجت سوء الادارة والاهمال، وترك القائد العام الامر للآخرين دون محاسبة او متابعة كافية بل يكتفي في بعض الاحيان بقراءة الملخصات التي يعدونها له وبالتوقيع على المراسيم والفرمانات التي تذبح رجالا وتطيح بأمم. كانت نتيجة ذلك ترد في الاوضاع المعيشية لضباط وجنود الجيش السوداني تراجعت الى مدى مريع وانحدرت الى درك سحيق وقد أشرنا الى ذلك بالتفصيل في فصل خاص به.
    البشير والحركة الاسلامية
    النقطة المركزية في علاقة الحركة الاسلامية بالبشير هي الرابع من رمضان فبعد ذلك التاريخ انتهى عهد التحالف بين الحركة الاسلامية ممثلة في تكوينها المدني بقيادتها التاريخية (الترابي، علي عثمان)وشقها العسكري الذي تمحور خلف قيادة البشير، فبإستخدام العصا العسكرية أصبح الشق المدني في اضعف حالاته، فالجزء الأقوى والحامل لرداء الشرعية والذي تحلق حول الترابي تم ضربه حتى أصبح في حالة احتضار قبل ان يتشظى الى تكويناته القبلية والجهوية، والآخر الذي تبقى مع البشير أصبح يحتمي ويتقوى به، وبالتالي ليس في مقدورهم مناوئته أو مناصحته، وذلك ما أثبتته الايام و التجارب مثل الخلاف الذي نشأ بين نائبه ومستشار السلام حول منهجية ادارة ملف التفاوض مع الجنوب، وما جره ذلك من تنافس في انتخابات الحركة الاسلامية، أو الخلاف بين نائبه ود.نافع في شئون الحزب، فكان السمت الابرز لدوره في كل ذلك هو الحياد السلبي، بدعوى ان هذا صراع في مستوى دونه وبالتالي هو غير معني به. ويعفي نفسه من لعب اي دور مرجعي حين وقوع الخلاف.
    الرجل الثاني في الحركة والدولة:
    الوصف المشهور عن الاستاذ علي عثمان هو أنه شخصية توفيقية لا يحب الصراع والمواجهات، لذلك تجده يصلي الفجر مع جماعة انصار السنة والسلفيين ويدعو إلى مائدته للعشاء المتصوفة عقب صلاة العشاء ويجد السلوى في مدائحهم ومؤانستهم، أو على أقل تقدير يحاول تجنب الدخول في معارك مباشرة، وينتهج اسلوب إدارتها من خارج الميدان (كما وصفه تجاني عبد القادر في كتابه المشار اليه)،وهو يحب دائما ان يكون بعيدا عن المغامرات غير المحسوبة أو مضمونة النتائج ، ولديه طاقة تحويلية في فترة الأزمات المستعصية ليصير كتلة من النشاط والحركة الذاتية التي تولد عنده عقيدة راسخة انه يستطيع ان يحول الحديد بين يديه إلى ذهب موظِفا كل جهد سبقه الى رصيد في يده، كان الاستاذ محمد طه محمد أحمد يطلق عليه لقب (هداف الثواني الاخيرة) بمعنى اللاعب الذي يلج الى ميدان الملعب في الدقائق الاخيرة ويجد الكرة الى جانب مرمى الخصم فيسددها هدفا، وبما انه لا يحب الاضواء ولا يعمل في الضوضاء فإن ظهوره في الدقائق الاخيرة يجعل صورته اكثر رسوخا. كما أن لديه حذر دائم من أن الأقدار تضعه بين خيارات صعبة ومصيرية وفي بعض الاحيان مكلفة. فمثلا الصراع مع الترابي كان عليه ان يختار اما الانحياز بقلبه الى الترابي وفاء لتاريخه وعلاقته معه أو الى العسكريين ليحول دون وقوع فتنة كارثية، ليصبح عقلا ضابطا لهم يمنعهم من الانجراف الى الدم (التجربة الماثلة امامه دائما نموذج نميري في يوليو 1971م وتجربة السوريين في حماة)، ففي تحمله لأخطاء الآخرين ولو على كره دون محاسبتهم يكون قد رم الجرح على فساد، او على طريقة ابراهيم اللقاني صاحب الجوهرة:"ليس مجبورا، ولا اختيارا، وليس كل يفعل اختياره " (راجع حوار صحيفة الانتباهة مع د.علي الحاج مؤخرا، وحديثه عن عدم إجتماعات نائب الرئيس "الزبير" ووزير الخارجية ومدير جهاز الامن وابراهيم شمس الدين...الخ عن السلام وموقف الوزير من ذلك).
    الصراع مع الترابي خلف لديه أثقال تحميل الامور بأكثر مما تحتمل فصارت عقدة حجبته عن الصدح بالحق وبذل النصح في أوقات تكون القيادة فيه احوج ما تكون اليه من الطبطبة وتسكيّن الألم بدعاوى خشية الفتنة وذهاب الريح، حتى وان كانت الفتنة تكبر بالصمت عنها، ففي ذهابه بمشروع السلام مع جون قرنق الى الحد الذي مضى به وما ترتب عليه من إنفصال جنوب السودان بتلك الطريقة العدائية وما جرته من ويلات وتبعات في الاقتصاد والامن الحدودي في النيل الازرق وجبال النوبة او القضايا المعلقة مثل أبيي وغيرها، صارت خصما إستراتيجيا من رصيده السياسي وربما الشخصي ولاجيال قادمة ستتحمل هذا العبء، دون ان يقبض هو او الحزب او الوطن اي ثمن في المقابل، فحتى السلام الذي كان مؤملا في تلك الفترة بات اشبه بالسراب بعد مناكفة الشريك اللدود "الحركة الشعبية"، كذلك استمرار اشتعال الاوضاع في دارفور بطريقة لم يشهد لها مثيل ودور الشريك في ذلك.(راجع فصل السلام في هذا الكتاب). ولن يجدي معه مظاهر التشدد التي يحاول بعض مساعديه طرحها عنه الآن في الاعلام وتصويرها وتسويقها للرأي العام كرجل حسم مثل (Shoot to kill) وهو قاضي سابق ومحامي قديم لا يمكن ان يضع رجال الادارة في موضع القاضي والخصم.
    رصيد القيادة:
    أزمة القيادة والرؤية كما أشرنا اليها تتجلى في المنظومة القيادية وتركيبها وتراكم الاحداث الذي قاد الى الوضع الحالي، لقد أنتجت كل هذه السياسات مخلفات لا تطاق فأولا هشاشة التكوين القيادي والذي يظهر بصورة واضحة في القرارات التي تصدرها رئاسة الجمهورية ولا تجد طريقها الى التنفيذ، إن رئاسة الجمهورية تقف على قمة نظام رئاسي في بلاد تمر بأزمات عاصفة وأن إعادة الرؤية في تنظيم رئاسة الجمهورية التي هي اشبه بالمخ في الجسد وما يتبعه من اعصاب وخلايا وأنسجة دقيقة تتحرك بدقة فائقة وفاعلية شديدة تستدعي وجود شخصيات تمتاز بالأناة والتعقل والانسجام والمقبولية في السمت والتصرف،وحين تطلب تجاب، وعندما تأمر تطاع بما فيه مصلحة الوطن، ولا يجب ان يكون الدافع المحرك هو ثقافة البادية التي يمتهنها اهل السودان والتي تجعل الرعاة متساوين في المأكل والمنشأ وبالتالي لا يعرفون فضلا لبعضهم على بعض، من ذلك ان كل موظف في الدولة يعتقد انه شريك للرئيس – الاحساس بالشراكة في المسئولية والهم الوطني جيد ومطلوب ولكن قطعا ليس في سلطة اتخاذ القرار حيث يرى الموظف الجانب الذي يخصه ولا يراعي المؤسسات الاخرى وهذا دور الرئاسة كمؤسسة فاعلة- يروي الراحل السفير أحمد عبد الحليم القصة التالية(( بعد أن خف التوتر بين مصر والسودان بنهاية التسعينات، قبلت الحكومة السودانية إعادة عقارات مملوكة لمصر كانت قد صادرتها إبان التنازع. ويروي أنه رافق مسؤولاً مصرياً كبيراً وصل إلى الخرطوم للقاء الرئيس السوداني الذي أصدر توجيهات بتسليم العقارات المعنية فورا، وذهب ومعه المسؤول المصري للقاء مدير مؤسسة حكومية كانت تشغل بعض العقارات لتنفيذ التوجيه "الرئاسي". إلا أن الموظف المعني بدأ يتلكأ قبل ان يرفض تنفيذ الأمر. وعندما أبلغه وزيره المعني بأن هذه تعليمات الرئيس أجاب الموظف: إن للرئيس اجتهاده ولي اجتهادي! فتساءل المسؤول المصري مستغرباً: هل تعليمات الرئيس عندكم هنا تخضع لاجتهادات كل موظف؟) ولعل هذه القصة توضح بجلاء كيف ينظر بعض موظفي الدولة الى تعليمات رئيسهم الاعلى).
    أساس الملك والحكم
    (أرجو ان نعيد التأكيد على نقطة اننا نعني بكلمة القيادة المنظومة القيادية للحزب والدولة والحركة وليست شخص الرئيس او نائبه او مساعده، حتى وان نقلنا نصا محكما لأحدهم فهو للتعبير بمثال حي).
    الامر الآخر الغائب في تكوين القيادة هو صفة العدل خاصة بين مناصريها ناهيك عن بقية الشعب، فالذي يتابع مسيرة القيادة الحالية منذ تعاملها مع عثمان احمد حسن مرورا بخلاف محمود شريف مع عوض الجاز وصراع اسامة عبد الله مع د.مكاوي، وحتى الطريقة التي تمت بها ادارة ملف) سونا( مؤخرا وإقالة وزير الاعلام ووزيرة الدولة، يلاحظ ان القيادة لديها جوانب ترجيحية في قراراتها لا تتعلق بصفة العدل بل تغلب الجانب الشخصي، ففي مثل هذه القضايا يجب التعامل بالتساوي بين كل الاطراف المتنازعة والذي يقتضي ان تقف الدولة وقيادتها على مسافة متساوية من الخصماء ولا تغلب جانب احد بدافع تأثير العلاقة، والامثلة والشواهد كثيرة على هذا النمط من التعامل والذي اوشك ان يكون سياسة عامة او سمتا مميزا لهذه الحقبة من الزمن، كاد في بعض الاحيان يقضي على قضايا استراتيجية تمس الاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلاد مثل الانحياز الى بعض المكونات القبلية في دارفور ضد خصومها والذي إنتهى إلى تفجير أزمة عالمية، ومثل تبني استراتيجية سياسية لحل مشكلة الجنوب بناء على الثقة الشخصية في فرد واحد، دون قراءة أوارق او مناقشة مختصين بل اسكات وقمع المعترضين بقوة الاجهزة الرسمية، هذا فيما يتعلق بالسياسات اما على صعيد الاشخاص فيمكن التدبر في الكيفية التي جرى بها ادارة ملف مستشار السلام الاسبق مكي علي بلايل حين اختلف مع وزير الدولة التابع له فتمت اقالة الاثنين اطيح بالأول الى خارج السلطة وجرى تعيين الثاني بعد ايام في منصب سياسي كبير، كذلك ما وقع من تلاحٍ بين د. نافع علي نافع والمهندس صلاح قوش كان انحياز الرئيس بدافع قبلي كما قالت بذلك الصحف وتداولته وسائل الإعلام المملوكة للسلطة (راجع كتابات الطيب مصطفي وكمال حسن بخيت وان كان الاخير كتب لينفي ابريل 2011م).وعلى غرار الطريقة التي حلت بها مستشارية مكي بلايل يتوقع ان تتطابق مع وزيرة الدولة بالاعلام التي راحت ضحية صراع متنفذين في السلطة وربما يجري تعيينها في منصب آخر حتى قبل طباعة هذا الكتاب!! الشئ ذاته يمكن قوله عن إخراج رجال امثال قطبي المهدي وحسن رزق والراحل عبد الله بدري وغيرهم من القائمة الطويلة التي لا تستسيغها بعض مكونات القيادة لجهرها برأي لا تحبه، ويواليها البشير بالصمت على ذلك فلا يُنصر ضعيفا من الذين يقاتلون خلفه ناهيك عن رعيته الأبعد، لا تنظر الرئاسة الى مثل هذه التصرفات و ما يمكن ان تجره من سلوك ارتدادي معاكس من غبن ومشاعر سالبة تجاه اناس ناصروها في يوم من الايام، وهذا يقود الى مناقشة المثلب الآخر لسلوك هذه القيادة وهو الوفاء.
    ذكاء العاطفة:
    الخلاف الذي جرى مع د. الترابي رغم خروج الأخير على كل القواعد المتعارف عليها في الصراع النظيف الا انه لا يبرر التعامل الامني والقمعي الذي تمت به ادارة الخلاف مع من هم دونه في الحزب من الذين شايعوه أو تعاطفوا معه، فمعظم الشباب الذين استهدفتهم الآلة الامنية للحكومة كانوا من الذين انخرطوا في يوم من الايام في معارك الشرف والكرامة ضد المتمردين في الجنوب او الشرق، ولم يكن من اللائق ان يجري التعامل معهم بهذه الطريقة الفجة والمهينة ،وهم الذين حملوا أرواحهم على اكفهم في يوم من الأيام بذات القناعات التي حملتهم على الاختلاف في الرأي مع القائمين على الامر، وكان أجدر بالوفاء والعرفان ان يُتبع في مثل هذه الحالات، أيضا التعميم الجائر دفع الالف من هؤلاء الى التعصب الاعمى كرد فعل لما شعروا به من غبن و جور ودعاهم الى تكرار قولة عبد الله ود سعد (من ما خِلقنا نسويها عوجة وعقب الله بعدلها) هذا العوج دفع بهؤلاء الى سلوك اسوأ الطرق بعد أن ادلهمت بهم السبل. فشاهدنا ما فعلوه من حرائق بديار اهلهم في دارفور، بل وبعضهم بالتصريح بقبول الذهاب الى اسرائيل إن هي دعته وقال بذلك على الملأ كناية عن ضيق وليس تلمسا لنصير هم ادرى الناس به، لا يمكن ان تكون القيادة بغير احساس تاريخي او انساني فلا تتدبر في عاقبة هذه الامور التي أوكتها بيدها فتعلل كل شئ بأنها عمالة وارتزاق وغيرهما من المبررات الرخوة، ولا تراجع نفسها ولو مرة واحدة وتتحمل مسئوليتها ولو بواحد في المائة مما يجري وتحجم عن منطق مسألة الاصابع اجنبية وغيرها من التفسيرات الفطيرة وغير المقنعة، ان الله عز وجل قد مدح النفس اللوامة التي تجهد نفسها في المراجعة واعادة التدبر والاعتراف بالخطأ ومن ثم العمل على ضمان عدم تكراره، مهما تقطعت بنا السبل. كيف ننظر الى حدث مثل مقتل خليل ابراهيم على انه قصاص رباني؟؟ ان خليلا اقد أشعل فتنة بين اهل القبلة الواحدة وهو مسئول عن هذا، وبلا شك ارتكب اخطاء قاتلة وتعدى على كل المحرمات والمحاذير وهو ليس بمعصوم، وأمثاله في التاريخ كثيرون، ولكن الحكومة نفسها اعترفت بأن لديه شيئًا من الحق – نقول شيئا من الحق- وبعثت له الرسل وعرضت عليه الوظائف ودخلت معه في تفاوض، فكيف كانت تسعى القيادة للشراكة مع من تعتقد ان عليه قصاص رباني ، في ذات الوقت الذي تترحم فيه علي جون قرنق !! ( راجع قول رئيس البرلمان في الجلسة التي اعقبت موت قرنق حيث قال) نسأل الله أن يسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء)لمراجعة نص الدعاء سمعته يقول "رحمه الله" استدعى هذا غضب الشيخ عبد الحي يوسف فعلق في خطبة الجمعة اغسطس 2005م ما هذا الهراء الذي نسمع اين الوفاء للشهداء.
    قيادة ردود الأفعال:
    إن الصفحات المؤلمة التي قلبناها سابقا يجب أن لا تحجبنا عن قول الحق في الصفات الحميدة والمكاسب الكبيرة التي حققتها القيادة الحالية ولكنها حين تضع مستقبل البلاد والحزب في كفة ومصيرها هي في كفة اخرى معتمدة على ملخصات سكرتاريتهم وخلصائهم الذين لا يرون الى ما خلف خط الافق، يتدرعون بهم في السلطة ويتحامون بهم عن الطريق القويم، لا نجد لأنفسنا عذرا عن الجهر بالحق والقول بما نؤمن دون تلجلج ومما نؤمن به وتؤكده الايام وما اقتبسناها من سيرتها في الصفحات السابقة أن القيادة الحالية هي على هذا المنوال لا يمكن بأي حال من الاحوال ان تكون هذه قيادة انتقال نحو تطور ديمقراطي، أو أن تبادر إلى إصلاح سياسي، فالحزب ظل منذ أكثر من عشرة أعوام لا يطرح أية مبادرات، بل يعيش يستلف أردية الآخرين الفكرية والسياسية (تطلق قاعدة الحزب بتهكم وصف هذا النمط من ممارسة السياسية بـ "سياسة رزق اليوم باليوم" كناية عن تعامل الدولة والحزب مع القضايا بأسلوب ردود الأفعال) ليصبح الحزب عالة على هؤلاء الذين يبادرون فيبيعونه بضاعة مزجاة قد تكون صالحة للترويج السياسي في الخمسينات او الستينات من القرن الماضي، ولكنها قطعا لن تجدي او تفيد في بلاد تعيش في عصر الديجتال والشرائح السيلكونية من القرن الحادي والعشرين.
    إن قيادة تقضي سحابة يومها رهينة للسكرتارية التي تتحكم فيها من خلال رفدها بمعلومات تتوافق ومصالحها الذاتية وتقييدها ببرامج ومقابلات استهلاكية تجعلها تدور في محور حلزوني متصل لا ينقطع فلا تجد الوقت المناسب للتفكير في القضايا الاستراتيجية او البعيدة المدى، وتلاحظ ذلك من طريقة التحدث تجد القيادة تخاطب الرأي العام وكأنها محلل سياسي وليس شخصا مسئولا ينهي ويأمر، بل تسمع تصريحات من قبيل "طالب" النائب الاول بكذا أو "انتقد" الرئيس كذا وكأنه معلق رياضي وليس رئيساً مسئولاً يسمع ويطاع أو يأمر فينفذ له. ولعل تلك من أبسط سمات القيادة من الأمر والطاعة. وما ستتبعه من تحمل المسئولية فحديث الرئيس في مجلس شورى الحركة الاسلامية الأخير وإنتقاده لعضوية الحركة وقوله إنهم افسدتهم السياسة والسلطة، ناسياً أنه هو المسؤول الأول عنهم، وبالتالي عن فسادهم وكل تصرفاتهم التي اجترحوها، فلو كانت شيمة اهل البيت الرقص في ظل وجود رب الدار فلا غنى عن القول إنه إن لم يكن قارعا للطبل فهو مقر للفعل على أقل تقدير.

    • كانت الجبهة الاسلامية قد قامت بخطوات متقدمة تخطب بها وُد القوات المسلحة فقد سيرت عقب الانتفاضة موكب أمان السودان، وأردفته بدعوات متكررة لحملات نصرة القوات المسلحة أبرزها تبرع نواب الجبهة في الجمعية التأسيسية بسياراتهم لصالح دعم الجيش وسلموها للقيادة العامة، واتسم خطابها بالعداء الشديد لحركة التمرد (قرنق) وكانت تقوم بتجريم اليسار الذي يصف قرنق بالمناضل وتسميهم الطابور الخامس، وقد نظمت القيادة العامة للجيش إجتماعات رسمية وزيارات لزعيم المعارضة لجبهات القتال في جنوب النيل الازرق ومناطق العمليات الاخرى، في مبادرة فريدة في تاريخ السودان. وكان لذلك اعظم الاثر في نفوس القوات راجع السر احمد سعيد، السيف والطغاة ص 148.
    • ذكر الترابي في مؤتمر صحفي يوم 14/12/1999م -بعد الرابع من رمضان - هذا النص )قلت له اذهب الى القصر رئيسا وذهبت أنا الى السجن حبيسا) ويرى الأستاذ محمد طه محمد احمد أنها كانت مغامرة للبشير ربما يدفع حياته ثمناً لها لأن الطريق إلى القصر لم يكن سالكا بهذه السهولة في حين ان الترابي أمّن نفسه ما لو ان الانقلاب فشل او انكشف امره فلديه تبرير واضح انه كان في السجن وربما يقول ان الجيل الثاني في الحركة هو من دبرها، راجع صحيفة الوفاق ديسمبر 1999.
    • وقع الاختيار على الدكتور غازي العتباني ليكون سكرتيرا لهذا المكتب وليس عضوا فيه.
    • راجع كتاب د.تيجاني عبد القادر نزاع الاسلاميين في السودان.فصل دحرجة العسكريين الاسلاميين.
    • بعد أحداث الرابع من رمضان ذهب البشير وكقائد عام في طواف على الوحدات العسكرية ليقوم بشرح القرارات الاخيرة التي اتخذها وعندما اتاح الفرصة للأسئلة في اللقاء الذي كان طابعه تعبويا، قام أحد الجنود وقال بصورة مستثارة (بعد كده مافيش دقون) وأشار بيده الى نحره في اشارة الى الذبح.
    • راجع كتابي: التجاني عبد القادر نزاعات الاسلاميين في السودان، والاسلاميون فتنة السلطة لـ د.عبد الرحيم عمر محي الدين حيث نقل الاخير رواية يس عمر الامام عن ترشيح الترابي لنفسه.
    • يشكك البعض في نتيجة تلك الانتخابات، ولكن لو صحت واقعة التلاعب بالنتيجة فانها قطعا تحسب على من أمر بها أو شارك فيها وأقرها ولو بالصمت (على السواء: البشير، الترابي، غازي)باعتبارهم كانوا من الحاضرين ولم يأمروا بإعادتها أو بمحاسبة المتواطئين فيها وتعاملوا على اساسها وكأن شيئا لم يقع. وان كانت الواقعة تكشف الكثير من التمحور القبلي والجهوي الذي بادره المجموعة التي حول الترابي بطريقة تقارب الخيانة، ولم تكن الحركة الاسلامية تعرفه من قبل.
    • في الاصل كان مرشح هذا التيار لشغل مسئولية الامين العام هو د.عوض الجاز وهو شخصية صفوية لا تتمتع بحضور جماهيري ومن ثمّ جرى تغييره إلى ترشيح النائب الاول علي عثمان، نقل بعض الحضور ان الرئيس سيقوم بنفسه بترشيح علي عثمان، فما كان من احد الشباب المتحمسين إلا ان سارع للبروفيسور عبد الرحيم علي رئيس الجلسة أن يثني الرئيس، وإلا فإنهم سيحرجونه بأن يطلبوا منه إقالة نائبه الاول الآن، لأنهم يريدون أميناً عاماً متفرغاً، أو سيتقدمون بمرشح آخر مما سيضاعف الإحراج، ويبدو ان عبد الرحيم علي نقلها بطريقته التوفيقية الهادئة للرئيس، الذي عدل عن مسعاه.
    • بحسب افادة مساعد المستشار القانوني للرئيس فقد بعث مكتب الرئيس في وقت باكر ورقة مكتوب عليها بالقلم الاسود بخط يد الرئيس النص التالي "يرفت صلاح عبد الله الشهير بقوش من منصبه ويعين نائبه محله الى حين صدور امر آخر" ولاحقا جرى تعديلها الى مستشار رئيس واضاف صلاح "مستشار أمن" من عنده ولم تصدر في القرار الرسمي. يمكن ملاحظة اللهجة العسكرية في كتابة الرئيس مما يدل على الغضب الشديد وهو بلا شك لم يكن غضبا لانتهاك حرمات الله في دارفور او جنوب السودان.
    • راجع فصل القوات المسلحة تجد هذه الواقعة بالتفصيل.
                  

العنوان الكاتب Date
الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-08-13, 02:48 PM
  Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس محمد حامد جمعه04-08-13, 02:51 PM
    Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-08-13, 03:12 PM
      Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس عبدالله عثمان04-09-13, 06:27 AM
        Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-09-13, 07:02 AM
          Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-09-13, 07:04 AM
            Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-09-13, 07:07 AM
              Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-09-13, 07:48 AM
                Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-09-13, 07:50 AM
                  Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-09-13, 07:52 AM
                    Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-10-13, 07:26 AM
                      Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس Mohamed Hamed Ahmed04-10-13, 08:05 AM
                        Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-10-13, 08:47 AM
                          Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-13-13, 10:23 AM
                            Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-15-13, 10:00 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de