الفاتح جبرا .. في ذمة الله
نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب د. الفاتح يوسف جبرا فى رحمه الله
|
المرأة النوبية وخواطر عن الحبوبات .. لقد عشنا ذلك الزمن النوبي الجميل
|
الشيف ( فافا سيدة المطبخ )
لم يكن هناك وقتاً متاحاً للركض واللعب إلا عند القيلولة تحت ظلال غابات النخيل الكثيفة التي تغطي كل القرية حتى الفضاءات والازقة بين بيوت وكانت هذه الظلال تمثل لنا مرتعاً خصباً لممارسة كل انواع الشغب والصخب مما كان يسبب الضجر والازعاج لكبارنا وهم في اتكاءة القيلولة بعد عناء دوام الصباح في الساقية وبالدنقلاوية ( فجر تاتي ) .. واستحضر هنا صورة الشاعر النوبي العظيم خليل فرح وهو يصف طفولته في صيصاب خلال رائعته عزه ( عزة ما نسيت جنة بلال .. وملعب الشباب تحت الظلال ) ويقصد بها مرتع صباه بين جنائن نخيل بلال بيرم في صاي .. ما أشبه الحياة على امتداد النوبة وكأن الزمان والمكان لا اختلاف بينهما.. وكما كان خليل في ( بلال إكي ) كنا نحن نمارس هوايات الصبا في ( سواري مار ) ولم يكن يردعنا او يحد من تحركنا اللامحدود إلا حبوبة فاطمة ( فافا ) تلك المرأة ذات الشخصية المميزة والحضور القوي والتي كانت تسكن وحيدة في بيتها او بالاحرى غرفة لا يحدها سور .. وعندما ترتفع وتيرة اللعب والضجيج والصراخ كانت تطل علينا بطولها الفارع ولونها الاسمر الداكن وبظهورها كنا ننزوي الى داخل الازقة او نختبيء خلف سيقان النخيل ثم تعود الى داخل غرفتها لتتمدد في ذلك العنقريب الذي يبدو اصغر كثيراً من امتداد ارجلها المغبرة .. ودارت الايام وتفتحت مداركنا واصبحنا نستوعب ما يجري حولنا وعندها فقط عرفنا ان لهذه المرأة دور اساسي في مجتعنا بل هي سيدة المواقف والمناسبات الكبيرة تشرف على جميع مناسبات الافراح وخاصة في مجال تجهيز الوجبات .. حيث يتم استدعاءها الى مكان المناسبة قبل يوم او يومين لتحضير المواد الاولية وتتولى الاشراف على مجموعة النساء التي تقوم بتجهيز المواد مثل تقطيع البصل وطحن البامية الجافة ( الويكة ) ومراقبة العشرات من النساء المدعوات لنفير العواسة داخل الحوش وتشرف كذلك على عملية ذبح الثور او العجل وتراقب الوضع بصرامة ووعي حتى لا يقوم الشباب بتهريب اللحم الى مواضع اخرى ولمآرب مختلفة .. وعند بداية مراسم الطبخ في ساعات الصباح الاولى كانت تقوم بتوزيع السيدات على القدور كل واحدة حسب اتقانها لنوعية الطبيخ .. فهذه سيدة (الكمونية ) والمعروف عن هذه الطبخة انها واحدة من اصعب الطبخات والتي لا تجيدها إلا المرأة ذات المهارة العالية والذوق الرفيع في الطبخ .. وتلك سيدة (الفاصوليا) أما أمهرهن صناعة فهي المرأة التي تشرف على طبخ قدر ( الويكة ) وفي ذلك الوقت كانت الطبخة تختلف حيث يتم خلط (الويكة) بما يسمى بـ (إيلين قاريد) وبالعربية ( الجريش ) او القمح المجروش بالرحى ( الرحاية ) وهي بمثابة خلطة سرية تتم بين طحين البامية وجريش القمح مما يجعل لها طعم آخر ومذاق مميز .. وأكاد أستحضر شخصيتها تماماً وهي تقوم بتذوق عينة من كل قدر وتبدي ملاحظاتها بكل حزم وجدية ولا تقتصر نفوذها على المطبخ فقط بل تمتد لتشمل نقطة توزيع اللحم المحمر والارز وهي من الاطعمة ذات القيمة والتميز في ذلك الزمان .. والغريب في الامر ان مهمة توزيع الارز واللحم المحمر كان يشرف عليها الرجال وليس ببعيد عن ذهني ( عوض بهارة ) رحمه الله الذي كان يقوم بعمل لفائف من رقاق القمح بداخله كمية من الازر واللحم وبقدر معين ومعلوم ويتم ارسالها الى المرأة التي لم تحضر المناسبة لعذر معين وتكون قد دفعت مايسمي ( كسييه ) اقصاها عشرة قروش وادناها سبعة قروش في كشف الدفعيات كمشاركة منها .. وكانت هذه لفافة تسمى ( كتيه ) بتشديد التاء .. أما الارز واللحم المحمر فكان لا يشاهد إلا في المناسبات .. وكنا ننتظر رجوع امهاتنا بتلك اللفائف ( كتيه ) ومن ثم بتوزيعها علينا بقدر ما تحمله اطراف الاصابع مع مراعاة أن للذكر مثل حظ الانثيين .. رحم الله الحاجة فاطمة ولقبها ( سولون برو ) .. ورحم الله ذلك المجتمع الذي كان كل فرد فيه يعي دوره تماماً ..
|
|
|
|
|
|
|
|
|