هذه هي مدينة عروس الرمال

Quote: (كردفان ) حين يستسقى الغمام بوجه الأبيض حين يستسقى الغمام بوجه الأبيض تسكن الكلمات أغصان التبلدى حينما طال الحنين بشاعرنا الراحل المقيم صلاح أحمد ابراهيم وفاض به شجناً بث أشواقه المشبوبة لكل اللوحات التى بذاكرة الوطن فهربت منه كل نداوة الألوان إلا الليل الذى بسط له يد الهوى فبث له أسرار العشق فى صوت متهدج كالضوء حزيناً ومضيئاً. غريب وحيد فى غربتو حزنان يغالب لوعتو حيران يكفف دمعتو يتمنى بس لأوبتو ولسان حاله يردد مع الفيتورى لو لحظة من وسنى تبعد عنى حزنى تحملني تُرجعنى لعيون وطنى فاعطى الضوء الأخضر لطائره المهاجر أن يتهيأ للإقلاع وان يفرد جناحيه إيذاناً بالرحيل فسفره وقت الخريف غير الفصول الأخرى وزوده هامساً ألاّْ يتوقف طوال الرحلة وان يواصل الليل بالصباح وسط الرياح تحت المطر وان تعب فيه جناح ماذا يفعل؟ يقول له فى السرعة زيد أطلق لجناحيك العنان تصفيقاً وتحليقاً وغناء فضل الدليب فى وطنه تعرف دفئه الطيور المهاجرة، وحتى لا يضل الطريق لأن السفر إليه لا يحتاج الى زاد ولا أوراق ثبوتية. وزى وطنا وقت اشتاقلو برحل ليهو من غير زاد وهمس الشاعر يداوى فى سمع الطائر: فوت بلاد وسيب بلاد وان جيت بلاد تلقى فيها النيل يلمع فى الظلام زى سيف مجوهر بالنجوم من غير نظام تنزل هناك وتحيي يا طير باحترام على نيل بلادنا وشباب بلادنا ونخيل بلادنا فلاحت له من على البعد خضر الروابى يتوسطها النيل موشحاً بسيفه المجوهر نجوماً فأمتزج الخرير بالتغريد فحيا النيل صادحات العنادل فالبدر هنا له لمعان ففاضت الأشواق دون حد موكباً يغزل الطرب ها هنا يختلط القوس الموشى من كل دار من كل ممشى وهبط الطائر فى أرضه السمراء مثل قطرة من الندى يحفها موكب بالعطر ريان محملاً بالتباريح الدقيقة المنقولة لبيت صغير تخيل معى انك أمام بيت داخل خميلة تتوشحه الخضرة من كل الجوانب وأمامه تجرى جداول عذبة وبداخله «زول» جميل بينك وبينه تباريح قديمة وصبابات متدفقة لم تلتق به سنوات طويلة، ثم يفتح لك الباب ويحدق فيك ثوان ثم يفتح ذراعيه ليعانقك عناقاً حاراً فتذوبا فى لحظات بالغة التواصل الإنسانى. بالله يا طير قبل ما تشرب تمر على بيت صغير من بابو من شباكو بيلمع ألف نور فيقف الطائر أمام شباكها المضئ ويقبل يديها ويبثها بلغة الطير أسرار الهوى ويجدد لها العهد على دوام كاس المودة رغم طول النوى والبعاد. وكما تلتقى النوارس فى موسم هجرتها وتغسل عيونها بنسيم الفجر، فإنسان الأبيض تستطيع ان تميزه بين أهل السودان إذا ناديته من قبل الإنسانية والحب والفن والتصوف. وإذا أصغيت إلى «ريلاً ادعج العينين يترنم بهذا اللحن: مكتول هواك أنا من زمان مكتول هواك أنا يا كردفان أسير غزال فوق القويز كلام غزل معسول لذيذ دمعات عتاب من زولاً عزيز سالت بحر شالت قليب أتمنى يوم زولى القبيل يقطع معاى درباً عديل رحلة عمر مشوار طويل نمشيهو فى رمل الدروب فى كردفان يقول الشاعر عالم عباس: شاء ربنا بسر حرف كن ولفظ كان أن يوجد الإنسان كامناً فى داخل الإنسان فشال من جنان الخلد قطرة ومن دموع الحور وهزها ورجها رجتين فكان إنسان كردفان ذلك النسيج الإجتماعى النادر وذلك الانصهار الرائع الممزوج من جنان الخلد ودموع الحور الذى أعطى إنسان المنطقة معنى الحياة والتدفق، فالأبيض مدينة عريقة فى حيادها لم تلوث أرضها أدخنة المصانع ولم يصدأ قلبها لانه «مصنفر» بالذكر. فهى ملتفحة بازاهير الروابى وورود الوديان وكثبان الرمال الذهبية، يأتى إليها الناس فى يوليو ليغسلوا فى خريفها وربا خضرتها هموم ما مضى من العمر. لانها ديوان السودان الجميل وقدحه الكبير ومرآة لزمن الفن الجميل والعصر المتوهج فإذا كان الجمال يسر الروح حيثما وجدته فتتغنى به وتحتشد له لانه محسوس ويدركه البصر، فالأخلاق أعلى صور الجمال فى الخليقة لان الجمال المعنوى لا يرى بالعين المجردة وانما تتحسسه النفس المرهفة ويدركه العقل فمجتمع أهل الأبيض لا تفرق بينهم الألوان السياسية، دافعوا عن ارض هذا الوطن حمل أجدادهم وآباؤهم السلاح لتحرير السودان فشهدت لهم شيكان وكررى والخرطوم والأبيض وما زالت ثقوب الرصاص بمبنى المديرية وساماً يحكى دورهم القيادى فى استقلال السودان، وحين تمرد أغلبية أهل السودان لم يتمردوا ولم يحملوا السلاح وهذا أن دل على شئ إنما يدل على وعيهم السياسى وحسهم الوطنى ويكفيها فخراً انها قدمت أغلى رموز الاستقلال أول رئيس سودانى إسماعيل الأزهرى الذى طرق باب الحرية بذكاء واقتدار فوهب هذه الأمة نسيم الحرية فى طبق من ذهب واعطت للوطن أحلم بنيها المشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب الذى وعد بتسليم السلطة وهو يجلس فى قمتها فعلم العالم كيف الزهاد فيها وهى التى يقاتل العسكر فى الإستيلاء عليها أو يموتوا دونها، وكلما دخل المشير فى حوار هادئ طرفاً ثالثاً فى خلاف غاضب انفض الخلاف واستأذن الغضب فى الإنسحاب، وجوه التقيت بها فى مشوار حياتى بمدينة الثغر تجمع بين الجمالين المعنوى والمحسوس. قديماً دخلت القوافل هذه المدينة من كل حدب وصوب وارتفعت رايات الإسماعيلية الشيخ إسماعيل الولى وسوار الذهب والشيخ عبد الباقى والتيجانية وتجمعات القادرية وأبو شرا ومن ود أب صفية ودليل المحس. الإدارة الأهلية وأمير البديرية حسين زاكى الدين ومن الرعيل الأول بالمدينة إبراهيم حسنين من قادة الحركة الإسلامية بالابيض الحديث عنه وعن دوره يطول وحتى نوفيه حقه نحتاج لملف خاص به. مهدى عبد المنعم من سادات الأبيض و أقطابها المميزين ومن مؤسسى الغرفة التجارية وعلى اكتافه أينعت زهور البعثة التعليمية الدينية بالأبيض له علاقات مميزة بأرض الكنانة وأهلها. وتيمنا بلقائه بالرئيس جمال عبد الناصر بالأبيض عام 1961م سمى المهدى ابنه جمال. وبمناسبة قيام منظمة الأبيض التطوعية للتنمية والتعمير بالخرطوم الرياض قامت اللجنة بتوزيع الأدوية لمستشفى الأبيض الواصلة من أبناء الأبيض بالخليج وبطاطين وملاءات للمرضى بالمستشفى وسجن الأبيض ودار الهجرة. واللجنة برئاسة الباشمهندس سيد احمد الحسن، ومن الشخصيات التى التقيت بها فى العاصمة ولا يزال الود بينى وبينها عامر عمر البشير احمد سليمان، وعبد الله محمد الحسن. وحينما يستسقى الغمام بوجه الأبيض تسكن الكلمات جدائل التبلدى وتلح فى الذاكرة قارورة عروس الرمال لترحب بفيض السحر عبر شرفة تطل على فردوس بديع جمع بين جمال الحقيقة بحقيقة الجمال. ومن هنا نبعث بالشكر كل الشك لابى المجتبى (بكرى إسماعيل الطاهر )