|
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)
|
نهضت من قعدتي في شرود تام مشبع بخوف مبهم غريب وغامض. كما لو أن الشروع في ما بدا قراءة لكتاب "دلائل الخيرات" زاد من متاهتي داخل دهاليز رؤيا بدا تكرارها أثناء منام آخر حدث في ذات الليلة بمثابة أمر لا يمكن التشاغل عنه بما مُنحنا إياه منذ الميلاد كملاذ أخير لعقل أشياء هذا العالم. وقد كنت أسمع كثيرا، مرارا وتكرارا، بوقوع المعجزة هنا وهناك، لكنني لم أتوقع أبدا أن تطرق المعجزة باب بيتنا بالذات في صباح كهذا الصباح. كنت أمشي بالكاد على أرض الحوش الترابية. أسير ولا أسير. لكنني أتقدم. كما لو أن قدميّ لا تنتميان لي. أو كما لو أن الأرض ما تنفك تغور هابطة في مكان وتعلو فائرة في مكان آخر. كما لو أن قوّة خفيّة لا تني ترفعني صوب السماء المغسولة بالبرد. وفتحت الباب ذي الضلفة الواحدة ناظرا إلى أعلى. كانت تلك جارتنا، الحاجة كاشفة، ذات الأعوام المائة والعشرين، وقد بدت في وقفتها تلك مستثارة تماما. كانت تقف هناك، داخل فراغ الباب، بظهرها المستقيم، تفوح منها رائحة قشر البرتقال المنقوع في الودك المغلي. وكالعادة، كانت حافية القدمين. والكلمات تندفع من فمها. تماما، كما يندفع سيل الرصاص عبر فوّهة آلة شديدة البأس. "وين أهلك، يا يوسف"، سألتني، لا لأنها لا تعرف مكانهم في مثل تلك الساعة، بل لأن تلك كانت طريقتها المتعالية في تحية الصغار من أمثالي. ذلك ما أدركه الآن وسط غيوم الحنين المتكاثفة إلى ذلك العالم الآفل برمته أويكاد. قلت "يجلسون هناك في المطبخ، يا جدة". أزاحتني عن طريقها على نحو كاد أن يفقدني ما تبقى لي من توازن في صباح تتوالى أحداثه وأفكاره توالي المقطورات في قطار مسرع. ولم تعد تشعر بي. كما لو أنني حشرة تمّ إزاحتها بيد مشيحة في ذروة الغضب مرة وإلى الأبد. "يا لها من أرنب صغير"، قلت في نفسي، بينما أتابعها، وهي تندفع نحو الداخل، كسهم أُطلق هذه المرة من قوسه للتو. هرولت وراءها بينما أسمعها تخرف لا تزال بصوت عال منطلق قائلة بلا توقف "لقد جيئتكم بالبشرى.. لقد جيئتكم بالبشرى.. يا آل يعقوب.. لقد أرسلني الملاك وبركة سيدي المهدي المنتظر بالبشرى". كانوا ينظرون إليها في صمت بدا نطقا. لم تنتظر حتى الإذن بالجلوس على بنبر داخليّ كان يتوسط عنقريب أمّي الصغير ومجلس جدّتي. ولم تنزل نظرتها عن بطن أمّي المنتفخ لحظة. كان كل شيء يصدر عنها ينمّ عن ذلك الحضور الكليّ الكثيف والغامض لسلطة الخُلد المنيعة على الفناء. هكذا، مرة أخرى، سقطت مسبحة أبي الحجازية قرب حافة قاعدة الكانون الأسود ذي الفتحات الجانبيّة المتعددة للتهويّة. وقد لاح هناك في باطنه المجوف. ذلك الرماد المتراكم مقدار شبر لحرائق سابقة. لا شك أنه كان من أكثر أيام أبي يعقوب قلقا ورهبة. وقال أبي يعقوب في صوت أقرب للتوسل مخاطبا الحاجة كاشفة: "إن شاء الله خير". على بعد خطوات قليلة من عتبة قبرها الفاغر منذ عقود، ضحكت الحاجة كاشفة، مظهرة كامل أسنانها ذات البياض الناصع، ثم حوَّمت براحتيها المفرودتين فوق نار الكانون التي علاها رماد خفيف، متابعة النظر إلى بطن أمّي المنتفخ من غير أن يطرف لها جفن واحد. كانت جدتي تقول في تلك الأيام إذا غدا عمر الإنسان بطول عمر شجرة اللبخ التي كان يجلس تحتها المفتش الانجليزي جامعا للضرائب من الأعيان والمشايخ سيتحول إلى أرنب صغير. لا يعنيه من أمر نفسه في نهاية المطاف أن يتبول جالسا، أوواقفا. قلت في نفسي مواصلا التخفيف من شحنة الغيظ تلك "ربما تتحول الحاجة كاشفة في الليل إلى أرنب بنعلين". وموغلا في مسار تخيلاتي أكثر فأكثر، أخذت أتصورها كأرنب سُلخ جلده على يد صيّاد، تمّ وضعه على فحم متّقد أعلى الشبكة المعدنيّة الملتهبة لكانون المناسبات، وقُدِمَ شهيا على مائدة العشاء. أخيرا، قال أبي يعقوب بينما يُدخل يده اليمنى داخل جيب جلبابه الأبيض الواسع "إن شاء الله خير، يا جدة". وكدت أضحك في عمق الرهبة الماثل حين قال أبي يعقوب "يا جدة". لم أتصور أبدا أن يتفوه أبي يعقوب رحمه الله بمثل تلك العبارة: "يا جدة". وقد بدت لي وقتها غريبة عليه تماما.
يتبع:
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 11-28-12, 07:23 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبداللطيف خليل محمد على | 11-28-12, 07:32 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبداللطيف خليل محمد على | 11-28-12, 07:33 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 11-29-12, 01:47 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | سيف النصر محي الدين | 11-29-12, 02:32 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 11-29-12, 06:33 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 11-30-12, 06:45 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | بله محمد الفاضل | 12-01-12, 09:06 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-02-12, 01:02 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | احمد ضحية | 12-02-12, 06:28 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-02-12, 09:04 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-03-12, 04:27 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | الرفاعي عبدالعاطي حجر | 12-03-12, 06:48 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-03-12, 09:52 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-05-12, 05:39 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | احمد ضحية | 12-05-12, 07:40 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-06-12, 11:44 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-07-12, 06:38 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-08-12, 11:12 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-16-12, 06:51 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-18-12, 06:19 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | Mohamed E. Seliaman | 12-18-12, 06:23 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-18-12, 06:49 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-19-12, 09:05 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-19-12, 06:36 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | Muna Khugali | 12-19-12, 07:05 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-20-12, 04:00 PM |
|
|
|