|
Re: ايميل اكتر من رائع......خواطر ونقيب بين النشوق والدمر (Re: علي الكرار هاشم)
|
والنشوق هو الفترة التي تسمن فيها الإبل وتطلق الفحول من الجمال لتلقيح النوق؛ ويرتاح الرعاة من عناء الصيف ولذلك تجد أن الشباب أو " الوناقيب" هم الذين يرعون نهاراً ويتفرغ الكبار للأمور الإدارية والإشراف والتخطيط فقط إذا جاز التعبير.
في البطانة يتجه الرعاة شمالاً في فترة النشوق نحو مناطق جبل قريعا والغُر والمندرة وأبو جراد وأبو قنافد وريرة والصفية ويستمرون في تلك الرحلة حتى جنوب أم شديدة وأبو عش وغيرها من المناطق في أرض البطانة. وتشابه رحلتهم هذه ما يحدث في شمال كردفان تماماً نظراً لتشابه الطبيعة والظروف المناخية و العنصر البشري الذي يشكل البدو غالبيته العظمى وجميعهم تقريباً من رعاة الإبل الذين آثروا حياة الترحال في البادية على الاستقرار وتتشابه تبعاً لذلك ثقافتهم وتراثهم الشعبي ومسميات أنشطتهم وكل ما يتعلق بحياتهم ونظامها الاجتماعي. ومع نهاية الخريف يعود أهل البطانة جنوباً للدمر حول موارد المياه بالقرب من نهر الرهد. أما في سنوات الجفاف فقد يتجهون نحو الدندر مروراً بمناطقهم التي ترد كثيراً في أشعارهم مثل ود زقل و جودية والقضارف وغيرها.
قاموا الليلة من دار الدمر وأنقلو
سقّد مايقي روقة الغمدة مابيه تطلو
حازمة ضعينتن منجمعة ما بنفلو
قلبي مع الجراسة البنقرن قام كلو
أما "الدمر" فهي تعني فترة وأماكن إقامة العربان صيفاً وغالباً ما تكون حول موارد المياه في العاديك والبشيري وأم بادر وأم سنطة وحمرة الشيخ و سودري وأم قوزين والسواني وجبرة ودونكي المغد و أم سنطة والجمامة وغيرها من مناطق شمال كردفان قريباً من المرعى و بين هذه وتلك هنالك فترة المواطاة وهي العودة من النشوق إلى القرى والفرقان مع نهاية الخريف. وهذه فترة استقرار يجتمع فيها الشمل وتحدث فيها المناسبات الاجتماعية من أفراح كالزواج وختان الأبناء وفي أثناءها يتم التجهيز والإعداد لرحلة النشوق. وفي أثناء الدمر يمارس الرعاة " السدور" وهو الذهاب إلى المرعى لمدة تتراوح ما بين سبعة إلى تسعة أيام يعودون بعدها لسقيا الأنعام وهي كذلك يتخللها كثير من التحركات التي يطلقون عليها مسميات خاصة تميز كل يوم عن غيره فهنالك يوم " الضل" وهو اليوم الذي يسبق الورود إلى الماء؛ و " الحواضة" وهو الركوب لحجز المواقع حول البئر ويركبون له على الجمال السريعة أيضاً إلا أنه ليس مثل " الدور" و قد ذكروا ذلك بأكثر من طريقة وفي ذلك يقول شاعرهم مخاطباً جمله:
بعد ما أخر حليلة الدمر يا الكير
حس جضيض كورك بودر حنة التفجير
دي ما اتابقت بي حوش لا اسنطت لصفير
على هجيمها سولب يا مقرعب طير
وتقول إحداهن عندما رأت أن الماء قد قلّ وحان تفرَق العرب وتوجههم نحو مناطق دمرهم و نتيجة لذلك سوف تفارق حبيبها الذي كان قريباً منها تراه في ذلك المورد ولما يعزّ عليها الفراق تكني عن هذا الإحساس بقولها:
الماء بقي بالوزنا
دا ر يفرّقنا
الضحوي الشايل مزنا
يشرب فيه الغايظنا
وقد سجل الشعراء تلك الرحلات والمناطق في أشعارهم وقصصهم وشكلت بذلك مادة التراث الشعبي الذي نجد فيه أسماء الأماكن والأشجار و النبات والأحداث التي قد تمر بهم. تقول أخرى في هذا المعنى وقد خلت أم سنطة من أهلها الذين رحلوا عنها:
الليلة أم سنطة خفيفه
وارداها أم بوح العيفه
سياد الفز بي ليفه
طردوا البطلق زيفه
وتصور أخرى ما آل إليه الوضع في الصيف من شح المياه وظهور علامات موسم الأمطار حيث لاح البرق في الأفق مبشراً بقرب حلول الخريف :
جانا خبيرهم لايح
شرابهم بالصفايح
داك براقاً لايح
بسقي الرق الضايح
حكا لي الأخ الأستاذ علي الطاهر العباس الشاعر والأديب عن الشيخ المر علي التوم وقد آلمه حال ناقته التي لم تتمكن من النشوق تلك السنة،و قد كانت عجفاء جار عليها الزمان فأقعدها عن اللحاق بالقطيع فرآها في الحمرة وهي " تحن" فقال مواسياً لها:
كان حنيتي ما بتلامي
ضايق النجعة في النعم البقوم قدامي
القش الربيعك فوقه صيد ونعامي
ما قام أصله بخلنبه المحول يا أم شامي
إن الحنين إلى سالف الأزمان والأماكن صفة ملازمة لكثير من البشر وقد كانت هذه محاولة متواضعة للتعبير عما يجيش بالخاطر من ذكرياتي كونقيب أمضى فترة من الزمن في ربوع شمال كردفان حين كان الزمان غير هذا الوقت المملوخ وكان الناس صافية نفوسهم وحلوة عشرتهم وبينهم من الود والإلفة الشيء الكثير فهل يا ترى يعود ذا الزمن؟
|
|
|
|
|
|
|
|
|