الاقتصاد السوداني ... فرضيات الواقع ووهوم الأيديولوجيا / د منصور خالد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-01-2024, 03:33 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة د.منصور خالد
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-18-2004, 01:01 PM

elhilayla
<aelhilayla
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 5551

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاقتصاد السوداني ... فرضيات الواقع ووهوم الأيديولوجيا / د منصور خالد (Re: Yasir Elsharif)

    بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات- المقال

    المقال الثامن (1-2)

    د. منصور خالد

    الاقتصاد السوداني ... فرضيات الواقع ووهوم الأيديولوجيا

    لا يقل عمق الآثار التي ستترتب علي بروتوكول اقتسام الثروة عن ذلك الذي سينبني ويستقر على بروتوكول اقتسام السلطة. وإن كان أصل المشكل السوداني هو التهميش بشقيه، السياسي والاقتصادي، فإن الحل يكمن في التمكين بشقيه، السياسي والاقتصادي، ولن يستقيم سلام في السودان أو يستدام دون تحقيق كليهما. وكثيراً ما نقول ويقول غيرنا، أن الحرب لعبت دوراً كبيراً في تعميق الفقر في السودان حتى انتهى إلى حيث يجب أن لا يكون: دول القاع في منظومة الدول النامية. ولكن، لاعتبارات خارجية وداخلية تفشى الفقر في كل دول القارة الأفريقية، ولم تنج منه حتى الدول ذات الثروات الطبيعية الوفيرة مثل نيجيريا. ففي نهاية القرن (1999) أعدت اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة بأفريقيا (ECA) تقريراً لا تبعث قراءته على البهجة حول الفقر في أفريقيا أشرف على إعداده اقتصادي سوداني ذو قدارة (علي عبد القادر علي). يقول التقرير أن 44% من الافارقة يعيشون تحت خط الفقر (حُدد خط الفقر بدخل لا يقل عن تسع وثلاثين دولاراً في الشهر حسب قيمة الدولار في التسعينيات). وقبل خمس سنوات من ذلك التقرير (1994) أصدر البنك الدولي تقريراً عن الفقر في القارة انتهى فيه إلى وصف عقد الثمانينيات بعقد التنمية الضائع، وعقد مقارنات مذهلة عن الأداء الاقتصادي في أفريقيا وآسيا تكشف عن التردي الكبير الذي انتهت إليه قارتنا. فمثلاً، حين ظلت معدلات الفقر تتزايد في أفريقيا انخفض عدد الفقراء في الصين خلال عشر سنوات من 33 % من السكان إلى 10% (وسكان الصين يزيدون عن البليون نسمة)، وفي كوريا وماليزيا انخفضت النسبة على التوالي (خلال عشر سنوات أيضاً) من 23% و18% إلى 5% في كليهما. في أفريقيا، ومنها السودان، كانت الصراعات الداخلية على راس العوامل التي قادت إلى تدهور الاقتصاد وعمقت من الفقر. ويقدر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في تقريره السنوي (2003 - 2004) إنفاق السودان السنوي على الحرب بقرابة 5% من الناتج القومي الإجمالي، وهذا رقم عالٍ إن أخذنا في الاعتبار أن الإنفاق عن الصحة والتعليم مجتمعين يبلغ بالكاد 2% من الناتج القومي الإجمالي. هذا القدر من الإنفاق لا يأخذ في الاعتبار الخسائر البشرية، وإهدار الموارد الطبيعية، وفرص التنمية الضائعة، كما لا يتضمن ما تنفقه الأطراف الأخرى في الحرب.
    وإن تركنا الصراعات والانفاق الضخم عليها وذهبنا مباشرة إلى المشاكل الجذرية التي قادت للصراع (التهميش) نقول أننا فَطِنا منذ أكتوبر 1964 إلى أن جذر المشكل على المستوى الاقتصادي هو نهج التنمية اللا متكافئة وما قاد إليه من تكريس للتركيب الاجتماعي والاقتصادي الموروث من عهد الاستعمار. السمة الرئيسية لللاتكافؤ هي التركيز الجغرافي للثروة في الشمال النيلي من جانب، والإقصاء المترتب على ذلك التركيز للأطراف من فيض تلك الثروة، من الجانب الآخر. وبدوره، كرس الإقصاء تفاوتات اجتماعية واقتصادية ترسخت جذورها. على مر العهود من أكتوبر 1964 إلى ابريل 1985 فَطِنا أيضاً إلى أن العلاج هو التنمية المتوازنة، إلا أن تلك الفطنة لم تجاوز النظرية إلى الفاعلية، لماذا؟ في زعم هذا الكاتب، كَمُنت المشكلة في أن الطبيب أصبح أهم من المريض. فثمة يقين واثق عند الأطباء المتعاقبين أن هناك بلسماً شافياً لكل داء أغناهم أجمعين عن تقصي طبيعة الداء. وبدهي، لا يفيد الجراحُ المريضَ في شيء إن أعمل مبضعه في العضو السليم وأخطأ المعطوب. ماذا نعني بهذا؟
    طوال تلك الفترات، خاصة فترتي الستينيات والسبعينيات، كان الإقبال على علاج المشكل الاقتصادي إقبالاً أيديولوجياً. فاليسار الاكتوبري، مثلاً، لخص المشكل الاقتصادي كله في الإصلاح الزراعي ومراجعة علاقات الإنتاج، وإنهاء ''سياسة التبعية للمعونة الأمريكية والاحتكارات الألمانية والإنجليزية التي جعلت التطور مستحيلاً وانتقصت من ذلك التطور بسبب الحجر على حرية التعامل مع دول المعسكر ''الاشتراكي'' (مجلة الكادر 1961). أما الأحزاب ''التقليدية'' فقد استهيم فؤادها بذلك الطِرز (الموضة) الاقتصادي فَرقَع كل واحد منها برامجه برقعة اشتراكية، وأبدع في ذلك: اشتراكية عربية، اشتراكية إسلامية، اشتراكية أفريقية. والرُقعة إن لم تكن من جنس الثوب شانته. ثم جاء نظام مايو في مرحلته الأولى ليعلن في ميثاقه التأسيسي أن رغبة الجماهير منذ ثورة أكتوبر هي ''السير على طريقة التنمية غير الرأسمالية حتى تقف على آفاق الاشتراكية حيث الحرية الاجتماعية التي ننشدها بالسيطرة على وسائل الإنتاج، وتوسيع قاعدة قطاع عام قادر على قيادة التقدم الاقتصادي، وتوجيه القطاع الخاص ليشارك في خطة التنمية''. لاحظ: ''رغبة الجماهير''، وليس رأينا. ولم يترك الميثاق مجالاً للتخمين حول المراد بالاشتراكية التي ترغب فيها الجماهير إذ أضاف ''الاشتراكية العلمية المطبقة على واقعنا السوداني، والمرتكزة على تاريخنا وتراثنا الحضاري وعلى عقائدنا وتقاليدنا التي تهدف إلى تحرير الإنسان السوداني من قيود الحاجة وتحقق له حريته كإنسان لهي المرشد الذي تهتدي به ثورتنا في نقل الجماهير من حياة البؤس إلى الحياة الرغدة''. عن ذلك التوجه إرتدت مايو بعد حركة يوليو 19 1971 ولكنها لم تبطئ في التلفع تلفعت بثوب آخر من ذات الطِرز ''الاشتراكي'' بعد أن نزعت عنه صفة ''العلمية'' وحددت له مواصفات. من تلك المواصفات: ''يكون القطاع العام قائداً ورائداً للتنمية الاقتصادية والعلاقات الإنتاجية الجديدة يساعده القطاع التعاوني والقطاع المختلط والقطاع الخاص''، وكل ذلك لتحقيق ''الكفاية والعدل'' من أجل ''أصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة''. أهو نزار قباني الذي نظم، أم هي ماجدة الرومي التي تتغنى: كلمات، كلمات، كلمات.
    ذلك الهوس بالإيديولوجيات في فترتي الستينيات والسبعينيات أمر مفهوم لأن انكار ''الاشتراكية'' أو ''القومية العربية'' في ذلك الزمان كان ضرباً من قلة الأدب. ولكن الذي حدث بعد سقوط نظام مايو يدعو حقاً للدهشة، خاصة بعد سقوط المسلمات الأيديولوجية وانهيار نماذجها من (A) إلى (Z)، والـ (A) هي انقولا، والـ (Z) زمبابوي، أو إن أردت زامبيا. في زمان سقوط النماذج هذه أطل علينا ميثاق انتفاضة ابريل ليحدد في فقرته الرابعة مهمة إستراتيجية للاقتصاد الوطني هي: ''التحرر من التبعية الاقتصادية للإمبريالية العالمية وخلق بنية اقتصادية اجتماعية تحقق الكفاية والعدل وذلك بالتصدي الجاد والحاسم للازمة الاقتصادية عن طريق تنمية الثروات والموارد الوطنية وتعبئة الموارد القومية لمواجهة الجفاف والمجاعات والغلاء وشح المواد ''التموينية''. لا شك في أن الذين وضعوا ذلك النص كانوا موقنين تمام اليقين أن الإطاحة بنميري هي نهاية التاريخ، فبسقوطه تُحلُ مشكلة السودان السياسية ولا يبقى غير أمرين: الأول هو الاتفاق مع ''الجنوب'' بإعادة الحياة إلى اتفاقية أديس أبابا، والثاني عقد مؤتمر اقتصادي لوضع السياسة الاقتصادية التي تحرر السودان من التبعية للإمبريالية فتتحقق بذلك الكفاية والعدل. لن نتلبث كثيراً أو قليلاً عند ذلك الشعار، شعار التحرر من التبعية للإمبريالية المحتشد بالدلالات الأيديولوجية، لأنه لا صلة له كما لا صلة لمن صاغه بالواقع. وليس أدل على ذلك من أن الخطوة الأولى للسيد عوض عبد المجيد، أول وزير مالية لحكومة الانتفاضة، كانت البحث عن رقم تلفون صندوق النقد الدولي للاستئناس برأيه في كيف يستنقذ البلاد اقتصادياً، لا كيف يحررها من الإمبريالية العالمية. فلو كان للإمبريالية العالمية عنوان فعنوانها في واشنطون هو St 1818 H مقر البنك والصندوق. لذلك، فإن ما نتوقف عنده هو التركيز في اولويات البرنامج الاقتصادي على مواجهة الغلاء وشح المواد التموينية. ذلك، بلا ريب، يعني السكر والشاي والأرز وزيت الطعام وحليب الأطفال، وكلها من السلع التي تعني أهل الحاضرة. هذا أمر مهم بلا شك، وواجب أساس لأي حاكم يأنس في نفسه القدرة على الحكم، ولكنها ليست وحدها القضايا التي تستلزم حلاً عاجلاً، كما ليست هي بالقطع القضايا التي كانت تهجس في رؤوس من حملوا السلاح في جبال النوبة وفي جنوب النيل الأزرق من ولايات الشمال، من قبل أن يلحق بهم أهل شرق السودان ودارفور. لهؤلاء جميعاً قضايا أُخر تتطلب علاجاً سريعاً ومباشراً لا يقل ضرورة عن حل ضائقة أهلنا في المدينة.
    وفي فترة الإنقاذ لم ينجُ الاقتصاد من التديين الشعاراتي. فبالرغم من انتهاج النظام لسياسات براقماتية في تعامله مع العالم الخارجي، أبى إلا أن يضيف للاقتصاد في دستور 1998 أبعاداً يصعب حسابها وإحصاءها، لا سيما في غيبة البرامج التي تحقق، والموارد التي تتحقق عبرها، الأهداف الذي تغيأها المشرع. فالدستور يقول في الفقرة عن الاقتصاد القومي: ''تدفع الدولة نمو الاقتصاد الوطني وتهديه بالتخطيط على أساس العمل والإنتاج والسوق الحر منعاً للاحتكار والربا والغش، وسعياً للاكتفاء الوطني، وتحقيقاً للفيض والبركة، وسعياً نحو العدل بين الولايات والأقاليم''. لقد تعاقب على السودان في عهد ''الإنقاذ'' عدد من وزراء المالية ولا أحسب أن وأحداً منهم أدرك ما الذي يعنيه تعبير ''البركة'' بلغة الإحصاء الاقتصادي ناهيك عن أن يجد سبيلاً لتحقيقها في الموازنات التي يعدها. وفي مادته 11 (العدالة والمكافلة الاجتماعية) يقول الدستور: ''تراعي الدولة العدالة والمكافلة الاجتماعية لبناء مقومات المجتمع الأساسية توفيراً لأبلغ مستوى العيش الكريم لكل مواطن توزيعاً للدخل القومي عدلاً بما يمنع التباين الفاحش في الدخول، والفتن، والاستغلال للمستضعفين وبما يرعي المسنين والمعوقين''. ''الاكتفاء الوطني''، ''العدل بين الولايات والأقاليم''، ''توزيع الدخل القومي بما يمنع التباين الفاحش''، ثم من بعد يحمل أهل دارفور السلاح، كما يقولون لإيقاف، ''التباين الفاحش''. ودارفور ليست ولاية أو إقليماً عادياً يترجى العدل والفيض والبركة من الله، بل هي الإقليم الذي يضم اكبر رصيد استراتيجي للحركة الإسلامية، والذي أنجب بعضاً من خيرة أبنائها. ثمة خطأ ما، في مكان ما! أو هل هو الاختلال في فقه الاولويات.
    إن أهم الواجبات التي تجابه الدولة والمجتمع في الفترة الانتقالية هي تحقيق العبور من التهميش إلى التمكين في أربعة محاور. ففي المحور السياسي عبور من الإقصاء إلى المشاركة، وفي المحور الاقتصادي عبور من الفقر الشامل إلى الإيفاء بالاحتياجات الأساسية والتأهيل للنمو والانطلاق، وفي المحور الثقافي / الاجتماعي عبور من ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام، ومن غلواء التعصب إلى رحابة التسامح. ولقد تناولنا في المقالات السابقة كيف يكون التحول في المحور السياسي، فما الذي جاء به بروتوكول اقتسام الثروة لتحقيق العبور المطلوب في المحور الاقتصادي.
    بدأ البروتوكول بإرساء مبادئ هادية للتحول الاقتصادي ستكون هي المرتكز والأساس لكل الخطط والبرامج التي ستتخذها الدولة على المستوي القومي والولائي، وتلتزم بها كل مستويات الحكم الأخرى
    × اقتسام وتوزيع الثروة الناجمة من موارد السودان لضمان ترقية نوعية الحياة وكرامة المواطن وتحسين ظروف المعيشة دون تفرقة على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو الانتماء السياسي أو اللغة أو الإقليم. وان يُنطَلق في تقسيم وتخصيص الثروة من أن التنمية حق لكل أجزاء السودان.
    × يتفق الطرفان على أن جنوب السودان يواجه احتياجات خطيرة لكيما يكون قادراً على، أولاً أداء وظائف الحكم الملقاة على عاتقه، وثانياً تأسيس إدارة مدنية فاعلة، وثالثاً إعادة تأهيل وتعمير البنية الأساسية والاجتماعية في مرحلة ما بعد الصراع.
    × يتفق الطرفان على أن جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وابيي وغيرها من المناطق التي تأثرت بالحرب تواجه حاجة عاجلة أولاً للقيام بالوظائف الأساسية للحكم وثانياً لتشييد الإدارة المدنية، وثالثاً لإعادة تأهيل وتعمير البنية الأساسية والاجتماعية في سودان ما بعد الصراع.
    × يتعهد الطرفان برفع متوسط الخدمات الاجتماعية والاقتصادية في هذه المناطق لنفس متوسط الخدمات الاجتماعية والاقتصادية في الولايات الشمالية، وبما أن هذا يتطلب وقتاً وجهداً يُؤسس صندوقان خاصان لهذا الغرض.
    × عند اقتسام وتخصيص الثروة يلتزم الطرفان باللامركزية ونقل سلطة صنع القرار فيما يتعلق بالتنمية والخدمات لمستويات الحكم المختلفة
    × يُراعي عند توزيع الموارد أن يتم ذلك في شفافية وفي ظل إدارة مسئولة، كما يُراعي حسن استخدام الموارد واستغلال الموارد الطبيعة على وجه يضمن تجددها.
    × تتعهد الحكومة القومية بعدم حجز أي اعتمادات مخصصة لحكومة جنوب السودان، أو لحكومات الولايات، ويحق لأي مستوى من مستويات الحكم يُحرمُ من نصيبه المقدر له اللجوء للمحكمة الدستورية.
    من بين القضايا التي تناولها البروتوكول قضية الأرض والموارد الطبيعية تحت سطحها. تلك قضايا ذات جذور عميقة منذ إلغاء الحكم الاستعماري لنظام حيازة الأراضي الموروث من الممالك السودانية الأولى (وثائق التمليك في مملكة الفونج، اقتطاع الحواكير في سلطنة دارفور). ونسبة لطبيعة السودان الجغرافية والأيكولوجية فإن أهم مناطق الإنتاج الزراعي والرعي تقع في ما بين خطي العرض 7 - 15 شمالاً، وهي نفسها المنطقة التي تدور فيها الحروب والصراعات الآن: أعالي النيل، جبال النوبة، دارفور، جنوب النيل الأزرق. وزاد اكتشاف البترول من تعقيد الأمور إذ أن أهم حقوله الحالية تقع أيضاً في هذه المنطقة.
    قضية ملكية الأرض في حد ذاتها لم تُفجر المواقف، بل فجرها أمران. الأول هو كيفية استغلال هذه الأراضي منذ عهد عبود، وبصورة أكثر كثافة منذ عهد مايو بعد صدور قانون الأراضي الجديد (1970) والذي اعتبر كل الأراضي غير المسجلة في السودان ملكاً للدولة. الأمر الثاني هو انهيار البيئة الطبيعية ليس فقط بسبب عوامل طبيعية (الجفاف)، وإنما أيضاً بسبب الاستغلال السئ من جانب البشر للموارد الطبيعية، خاصة الرعي الجائر والتطور غير المخطط في الزراعة الآلية المطرية. تعبير البشر هنا يشمل الدولة باعتبارها الفاعل الأساس في عملية الإنتاج؛ فالدولة هي التي تضع السياسات، وهي التي تمنح التراخيص، وهي التي تنظم وتضبط استخدام وسائل الإنتاج، وهي التي يُفترض أن ترعى حقوق المستضعفين. ويروي الدكتور محمد سليمان في مؤلفه القيم (السودان، حروب الموارد والهوية) أن مساحة الرقعة التي تتمتع بتراخيص الزراعة الآلية المطرية بلغت أكثر من 7 مليون هكتار (أكثر من 18 مليون فدان) وبهذا تجاوزت مناطق الزراعة التقليدية البالغة مساحتها 4 مليون هكتار (9 مليون فدان)، كما ذكر أن ثمانية ألف أسرة فقط (أغلب أفرادها من أصحاب التراخيص المتغيبين) تسيطر على الزراعة الآلية في حين يعتمد على الزراعة التقليدية أربعة ملاين من فقراء المزارعين. تلك كانت هي السياسة منذ عهد عبود، كما قلنا، واستمرت بعد سقوط نظامه في الديمقراطية الثانية، كما في عهد مايو بتمويل مكثف من البنك الدولي، بهدف التوسع في الإنتاج الزراعي. ذلك هدف مشروع شريطة أن تؤخذ في الاعتبار الآثار السلبية لذلك التوسع وكيف تُعالج. وفي تقرير أعدته منظمة الحقوق الأفريقية حول جبال النوبة (1995) ورد إحصاء مدهش حول توزيع مشروعات الزراعة الآلية في منطقة هبيلا. فمن بين مائتي مشروع لم يُحظ أهالي المنطقة إلا بأربع مشروعات مُنحت لتعاونيات زراعية ومشروع واحد لبعض التجار المحليين. جميع المشروعات الأخرى وزعت على مزارعين غائبين وكلهم من التجار والمتقاعدين من الموظفين وضباط الجيش الشماليين. حكومة ''الإنقاذ'' أكدت تلك السياسات التوسعية في استراتيجيتها الشاملة التي أُعلنت في مايو 1992 حين قررت زيادة مشروعات الزراعة الآلية ثلاثة أضعاف والمطرية عشرة أضعاف لأجل ''احياء الموات وعمارة الأرض''، هذا غرض نبيل، ولكن الدين الذي يحث على عمارة الأرض لا يُلغي حقوق العباد، بل يقول ان الأرض لا تُملك إلا بإرادة ظاهرة وأن والملكية حق واستخدامها رخصة. وان أدركنا أن أغلب مناطق الزراعة الآلية تقع في جبال النوبة (هبيلا)، أعالي النيل (القيقر)، النيل الأزرق (اقدي والقرابين)، شرق السودان (القضارف)، وان أغلب المنتفعين من المشروعات الزراعية، كما قلنا منذ هنيهة، هم المتقاعدون من رجال الخدمة العامة والجيش والتجار وكلهم من أهل الشمال النيلي، وان عائد الاستثمار في هذه المناطق يعود دوماً للخرطوم ليستثمر في الصناعات الناشئة والعقارات والإنفاق البذخي، تبينت لنا العلاقة العضوية بين الثروة والثورة، كما تبين لنا البون الشاسع بين المشاكل الحقيقية (التشخيص العملي للمشكلة) وبين الحلول المقترحة، جاءت تلك الحلول في الدساتير أو في السياسات والبرامج.
    ومن المؤسف أن أنظمة الحكم المتعاقبة بوصفاتها العلاجية المتنوعة بدءاً من الاشتراكية العلمية، إلى الاشتراكية العربية، فالاشتراكية المايوية ''النابعة من تراثنا''، ثم سياسات التحرر من الإمبريالية العالمية في عهد ابريل، وأخيراً سياسات عمارة الأرض لم تُعنَ حتى بتوفير المسكنات اللازمة كجزء من سياسة التوسع الزراعي، كما فعل الاستعمار. فلو فعلت ما فعله الاستعمار في مشروع الجزيرة لأسهمت في ترطيب الأجواء أو تهدئة الخواطر إلى حين. الاستعمار ابتدع طريقة لتوزيع عائد المشروع إلى ثلاثة أنصبة: نصيب للحكومة، ونصيب للمزارع، ونصيب للرعاية الاجتماعية للمنطقة. لو حدث هذا لما وقع الاختلال الذي تعانيه هذه المناطق حتى الآن في الخدمات الاجتماعية. فمثلاً، تشمل خدمات الصحة العامة 58% من سكان السودان منهم 87% في المراكز الحضرية و48% فقط في الريف، كما يبلغ عدد السكان الذين تتوفر لهم مياه الشرب الصالحة للبشر 67% من السكان منهم 86% في المدن و60% في الريف (إحصائيات البنك الدولي، 2000). أما الصراع على الموارد المنهارة فلعل أصدق مثال معاصر له هو دارفور حيث تحولت الحرب حول الموارد من نزاع منخفض الوتيرة Iow-intensity conflict حتى وان أسميناه نهباً مسلحاً ـ إلى تمرد عالي الوتيرة high-intensity rebellion، رغم كل ما قال به دستور 1998 في مادتة الحادية عشر، ورغم ما تمناه لها الدكتور غازي صلاح الدين إبان عمله بوازرة الخارجية: ''ستكون دارفور في القريب العاجل من أميز ولايات السودان مما يجعل خيراتها تقيض عليها وعلى الدول المجاورة'' (الإنقاذ الوطني 30/11/1992).
    تَناولُ بروتوكول اقتسام الثروة لقضية الأرض له، إذن، دواعيه. اتفق الطرفان أولاً على أن هناك قضية تستلزم العلاج، كان ذلك فيما يتعلق بحيازة الأرض أو الثروات التي في باطنها، وعلى العمل لإيجاد حل حاسم لها. كما اتفقا على أن تُمارس ضوابط الانتفاع والاستخدام للأراضي على مستويات الحكم المختلفة. وكخطوة أولى قررا إنشاء هيئة قومية مستقلة للأراضي، وأخرى للجنوب تكون سلطاتهما متطابقة على أن يتعاونا مع بعضهما في أداء الواجبات الملقاة عليهما، وينسقا فيما بينهما. كما ستقوم في الولايات لجان للأراضي تحت إشراف الهيئة القومية مما يضمن مراعاة مصالح أهل الولايات عند تخصيص الأرض للاستغلال. وسيعمل الطرفان على إعادة النظر في كل قوانين الأراضي تدريجياً بما يضمن مراعاة الأعراف والممارسات والمواريث المحلية والتجارب الدولية. وكُلفت الهيئة بالتحكيم في قضايا الأراضي دون إخلال بسلطات القضاء، وضماناً لاستغلالها كما تقرر وضع الهيئة تحت الإشراف المباشر لرئيس الدولة. ومن بين واجبات الهيئة إسداء النصح لمستويات الحكم المختلفة حول إصلاح الأراضي، التعويضات، تنسيق السياسات المتعلقة باستخدام واستغلال الأراضي، تسجيل الممارسات المتبعة في استغلال الموارد الطبيعية. ووُجهت الهيئتان لاستخدام مواردهما وخبراتهما بكفاءة، خاصة فيما يتعلق بالبحوث والمعلومات والإجراءات. وفي حالة أي نزاع بين الهيئتين يحال الأمر للمحكمة الدستورية.
    وحول الثروات في باطن الأرض اتفق الطرفان على أن يكون استخدام الموارد غير المتجددة (أي التي ستنضب نتيجة لاستغلالها مثل المحروقات الحجرية fossil fuels) للمصلحة العامة والخير العام، ولمصلحة المنطقة التي تنتج فيها مع مراعاة حماية البيئة، وصيانة التراث، والحفاظ على التنوع البيئي (biological diversity). وبالإضافة لحماية البيئة المحلية، الطبيعية والاجتماعية، أولى الطرفان اهتماًما للبيئة الخارجية واتفقا على توفير المناخ السياسي المناسب لضمان تدفق الاستثمارات المالية المباشرة عبر تقليص المخاوف التي قد ترتبط في الأذهان بالنتائج المترتبة على ممارسة حق تقرير المصير في نهاية الفترة الانتقالية حتى يتوفر الاستقرار المرغوب في قطاع النفط. تَم الاتفاقُ أيضاً على إشراك أهل المناطق التي يُنتج فيها النفط، عبر حكوماتهم، في أي مفاوضات تتم بشأن النفط المستخرج من المنطقة، وتعويضهم على أية خسائر تلحق بهم بسبب إتاحة. تقرر أيضاً إنشاء هيئة قومية للبترول يرأسها رئيس الدولة ونائبه الأول رئاسة مشتركة وتضم كأعضاء دائمين أربعة ممثلين للحكومة القومية، وأربعة لحكومة الجنوب كما تضم كأعضاء غير دائمين ما لا يقل عن ثلاثة ممثلين للمناطق التي ينتح فيها البترول. ويضمن البروتوكول لممثلي تلك المناطق الحق في الاعتراض على أي عقد يتعلق بإنتاج النفط في مناطقهم إن لمسوا فيه إضراراً بمصالحهم. وفي حالة الاختلاف بين أهل المنطقة المعينة وهيئة البترول حول العقد المقترح يحال الأمر إلى مجلس الولايات فإن رفض المجلس اعتراض أهل المنطقة يتم توقيع العقد، وان أيده بأغلبية الثلثين يحال الأمر إلى لجنة تحكيم يكون قراراها نهائياً. وبوجه عام، أوكل البروتوكول للهيئة القومية للبترول وضع الاستراتيجيات والسياسات لتطوير وإدارة قطاع البترول، ومراقبة تنفيذ سياسات القطاع. في ذات الوقت اتفق الطرفان على إتاحة الفرصة لمجموعة صغيرة تحددها الحركة لمراجعة العقود القائمة، ودون إعادة النظر في تلك العقود، تُقرر اللجنة عما إذا كانت تلك العقود قد ألحقت أضراراً اجتماعية أو بيئية بالمجموعات المعنية، وتحدد طبيعة وحجم هذه الأضرار بهدف معالجتها من جانب طرفي العقد.
    بيد أن من أهم ما أورده البروتوكول حول النفط بنوداً ثلاثة: الأول يتعلق بإنشاء حساب خاص لتركيز صافي عوائد البترول لحماية الدخل العام من التقلبات العالمية في أسعار النفط على أساس سعر قياسي متفق عليه يحدد سنوياً. والثاني يتعلق بإنشاء صندوق للأجيال القادمة متى ما بلغ إنتاج البترول السوداني 2 مليون برميلاً في اليوم، وقد يخفض هذا الحجم إلى مليون برميل في اليوم. الثالث هو أن تُضَمن جميع الحسابات المتعلقة بالبترول في الموازنة العامة، لا سيما وقد دار لغط كبير، خاصة في صفوف المعارضين، حول عدم إدراج عوائد بعض الموارد في الميزانية العامة.
    ومن بين القضايا التي أثارت جدلاً كبيراً تخصيص 50% من صافي إيرادات النفط للجنوب. هذا النص يتعلق أولاً بالبترول المُنتج في الجنوب، وكان من رأي الحركة أن يتوصل الطرفان لاتفاق يتم بموجبه توزيع نسب معينة من صافي إيرادات البترول السوداني الذي ينتج في الشمال والجنوب معاً على كل ولايات القطر وأقاليمه حسب احتياجاتها الخدمية والتنموية، مع الإبقاء على نسبة معينة للحكومة القومية لمجابهة واجباتها الإدارية والأعباء التنموية والخدمية الموكلة لها عبر القطر. هذا الاقتراح لم يجد قبولاً من جانب الطرف الحكومي المفاوض. ثانياً بروتوكول نايفاشا ليس هو الاتفاق الأول الذي تعهدت فيه الحكومة باقتسام بترول الجنوب مع طرف جنوبي، ففي اتفاقية الخرطوم 21/4/1997 (اتفاقية السلام من الداخل) وافقت الحكومة على تخصيص 75% من عائد بترول الجنوب للجنوب. ونذكر أن تلك النسبة (75%) هي النسبة التي اقترحتها ابتداءً الحركة كنصيب للجنوب، ومن الواضح أن ذلك الرقم لم يجئ من فراغ. ثمة احتمالان، إما أن الذين يدقون الطبول اليوم من بين أنصار النظام ضد من وصفوهم بـ ''المتنازلين'' لا يستذكرون ما جاء في اتفاقية الخرطوم، ولهذا من حقهم علينا أن نُذَكرهم به، وإما أنهم يعرفون أن اتفاق السلام من الداخل كان وعداً كاذباً، أي أنه كان إعادة تدوير لكل وعود الشماليين للجنوب منذ ديسمبر .1955 وإن كان ذلك هو الحال فيجب أن لا يُدهش أحد لإصرار الحركة ـ في هذا الشأن وفي غيره ـ على أن لا تترك أي شئ للفرص. فعلى سبيل المثال تقول المبادئ الهادية لبروتوكول اقتسام السلطة أن من أهم واجبات الحكومة القومية في الفترة الانتقالية (ونكرر أن توزيع هذه الأنصبة يتعلق بالفترة الانتقالية لتحقيق أهداف معينة) الارتقاء بمستوى الجنوب للمستوى الذي عليه ولايات الشمال، وتعترف تلك المبادئ أن هذا يتطلب جهداً ومالاً، فمن أين سيجيء المال إن لم يكن من المورد الوحيد المضمون؟ وليس صحيحاً البتة ما أورد د. فاروق كدوده في منتدى الأضواء (الأضواء 27/12/2003) أن المتفاوضين استهديا في توزيع النسب بالتجربة النيجيرية لأن نيجيريا لا توزع بترولها على هذا الوجه. نيجيريا هي التي ستستهدي بتجربة السودان إذ طلب الرئيس النيجيري، بعد إطلاعه على البروتوكول، من أحد مبعوثي الحركة إليه (دينق الور) أن يسلم نسخة من البروتوكول لوزيرة ماليته ويوجه انتباهها، بوجه خاص، للنص حول ميزانية الأجيال القادمة، وحول إشراك الولايات في التفاوض حول عقود الإنتاج.
    زأمر آخر لا يقل في أهميته عن تحديد الأنصبة من عائد البترول للولايات المنتجة هو النص على التكافؤ في توزيع العائدات القومية كلها وليس البترول وحده. ذلك النص يقضي أن تودع جميع العائدات القومية (بما فيها إيرادات البترول) في صندوق خاص يسمى صندوق العائدات القومية (National Revenue Fund) تديره الخزانة ويتضمن كل الحسابات والمودعات على أن يُشهر في الميزانية العامة المعلنة. وينص البروتوكول على إنشاء لجنة مسئولة عن تحديد وتوزيع المخصصات المالية ومراقبتها، وذلك، كما يقول النص، ''لضمان الشفافية والعدالة فيما يتعلق بتخصيص هذه الموارد لمستويات الحكم المختلفة''. وقضية التكافؤ أو الموازنة أمر ضَمنته بعض الدول في مواثيق الحقوق مثل ميثاق الحقوق والحريات الكندي الذي أصبح جزءً من الدستور في العام .1982 فالباب الثالث من ذلك الميثاق يشير إلى الموازنة أو التكافؤ والتباينات الإقليمية (يEqualization and Regional Disparities). في ذلك الباب يُلزم الدستور البرلمان والحكومة الكندية وحكومات الولايات بتوفير الفرص المتكافئة لكل كندي لتحقيق الرفاهية، والتنمية الاقتصادية بهدف تقليص التباينات، وتوفير الخدمات الاجتماعية بمستوى معقول لكل مواطن. كما يلزم البرلمان والحكومة الكندية بتوفير الاعتمادات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف.
                  

العنوان الكاتب Date
الاقتصاد السوداني ... فرضيات الواقع ووهوم الأيديولوجيا / د منصور خالد ahmed haneen08-18-04, 03:07 AM
  Re: الاقتصاد السوداني ... فرضيات الواقع ووهوم الأيديولوجيا / د منصور خالد برير اسماعيل يوسف08-18-04, 03:23 AM
  Re: الاقتصاد السوداني ... فرضيات الواقع ووهوم الأيديولوجيا / د منصور خالد Yasir Elsharif08-18-04, 06:32 AM
    Re: الاقتصاد السوداني ... فرضيات الواقع ووهوم الأيديولوجيا / د منصور خالد ahmed haneen08-18-04, 09:19 AM
      Re: الاقتصاد السوداني ... فرضيات الواقع ووهوم الأيديولوجيا / د منصور خالد برير اسماعيل يوسف08-18-04, 11:18 AM
    Re: الاقتصاد السوداني ... فرضيات الواقع ووهوم الأيديولوجيا / د منصور خالد elhilayla08-18-04, 01:01 PM
  Re: الاقتصاد السوداني ... فرضيات الواقع ووهوم الأيديولوجيا / د منصور خالد Asskouri08-18-04, 07:09 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de