وداعا جاك دريدا

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-27-2024, 01:12 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الشاعر اسامة الخواض(osama elkhawad)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-15-2004, 08:36 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20436

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
المسرح العربي بين الحداثة وما بعدها (Re: osama elkhawad)

    في هذه الدراسة عن موقع المسرح العربي في زمن الحداثة وما بعدها يطرح بول شاوول مسالة العلاقة بين الحداثة الغربية والحداثة العربية ويقترح مفهوما جديدا لما بعد الحداثة الا وهو مفهوم الحداثة المضادة


    موقع المسرح العربي في زمن الحداثة وما بعدها

    بول شاوول
    (لبنان)

    هل يمكن اعتبار أن نشوء المسرح العربي، مع أول مسرحية بالمواصفات الغربية مع مارون النقاش "البخيل" (1847) و"أبي الحسن البصري"، تم قبل زمن الحداثة، أم كان فاتِحة له، أم، جزءاً من الحيوية الملوحة بالتغيير مع كبار المفكرين النهضويين؟ هل أثرت بداية غربلة التراث، ومقاربة الواقع الاجتماعي (والسياسي)، في منتصف القرن التاسع، إشارة مهمة، أدركت بنية العقل العربي الخارج من عصور الانحطاط الألفية، إدراكها هاجس البحث عن أنماط تفكير جديدة، وأنماط فنون، وتالياً أنماط مشاعر وطرق عيش وحياة؟

    نقول هذا استناداً إلى أن المفارقة اللافتة في الظاهرة المسرحية المبكرة، تكمن في أن المسرح كان من الإشارات التجديدية الأولى قبل الشعر والرواية والفن التشكيلي، علماً بأن المسرح كنوع مستقل بلا تراث عندنا وهذه الأنواع تكاد تكون راسخة في التراث العربي. فكيف يمكن أن تبدأ الحداثة أو تباشيرها باجتراح معجزة تتمثل في تأخر الشعر نحو نصف قرن ليبدأ بتململه، وخروجه من المتحف التراثي إلى فضاء التجديد، برغم أن الشعر "ديوان العرب"، سبق كل الفنون والأنواع منذ الجاهلية وحتى نهايات العصور العباسية؟ السؤال: لماذا كان يُتوقع أن يُبادر الشعر إلى الريادة، ففوجئنا بالمسرح. الأول موصول بكل المتن العربي. والثاني بلا متن. الأول تاريخ طويل يمتد قرابة 2000 عام، والثاني بلا تاريخ، اللهم من طقوس وتقاليد وعادات دينية واجتماعية مناسبية رأى بعضهم فيها مواد للمسرح أو للمسرحة، وهي أصلاً معممة وتلازم كل الشعوب والأقوام، بحيث إذا قبلنا هذا المنطق، علينا أن نقبل أن المسرح وُجد عند كل الشعوب (لا سيما البدائية) منذ عشرات ألوف السنين وهذا لا يعني أن المسرح غائب كمادة عن هذه الظواهر، أو أنه على نقيضها. والواقع أن قوة المسرح في أنه يمسرح كل شيء. من هذه الطقوس والأساطير والخرافات إلى أي مظهر من مظاهر الحياة القديمة والحديثة، بنقلها من هشاشتها وأمكنتها وأزمنتها ومفرداتها إلى الصوغ المسرحي. إضافة إلى أن هذه "المواد" هي أولية، وعمومية، يمكن أن تستخدم عبر عمليات تحويلها، في أي متن من متون الأدب والفن: من الرواية، إلى الشعر، إلى الفولكلور، أقصد أن هذه المادة سديمية تنتظر دائماً، أن تشكل بصوغ ما، لتنتقل من نصوص عمومية إلى نصوص خاصة. والواقع، أن هذا حدث فعلاً، عندما انخرطت هذه المواد في المرويات العربية: السير، وأنواع الوصف، وألف ليلة وليلة، لتشكل بذلك، عبر تلك المتون، عناصر أساسية في ما يسمى السرد العربي الذي اتخذ بنية مفتوحة لا سيما في "ألف ليلة وليلة". من هنا السؤال: إذا كانت المرويات العربية وقد تضمنت، في ما تضمنت، أشكال الطقوس والخرافات والحكايات، أدركت أشكالاً متقدمة في بنيانها الروائي، وأثرت بشكل لافت، على الرواية الغربية الحديثة، فلماذا لم تسبق "المسرح" في السباق إلى الحداثة، على الرغم من تراكماتها الفنية والتاريخية؟
    المسرح عندنا هو أول الحداثة، وأقصد الحداثة الغربية، أو فلنقل، اصطلاحاً، إن المسرح هو حداثة ما قبل الحداثة، ويعني ذلك، أنه من الصعب جداً، أن يخرج جديد أو مبتكر من دون أن يكون فيه تماس ما مع المجتمع. صحيح أن المجتمعات العربية، كانت في منتصف القرن التاسع متصلة بالأنماط التقليدية، الماضوية، وشبه غائبة عن مستحدثات العصر، وإنجازاته، وعن تطوّر البنى الاقتصادية والسياسية والثقافية في حداثة التنوير الأوروبية، لكن الصحيح أيضاً أن المجتمعات العربية كانت بدأت أيضاً، ومن خلال انتشار كتابات بعض الرواد النهضويين، تشعر بضرورة الخروج من عصر الثبات، والاسترجاع، والتجمّد، والانحطاط، والتحرّك في مستنقع الذات. صار ثمة شعور وملامح إدراك، بأن البقاء في دائرة الذات المتقوقعة على قيم الحاضر والماضي، إنما هو استمرار لموت الذات هذه، وتعميق لغيابها، وأن أي محاولة خروج لا يمكن أن تتم إلا عبر مَنْ يسمى "الآخر"، أي الظواهر المختزلة أو المتجسدة في إنجازات الغرب (أوروبا آنئذ).
    فالتململ على الصعد النفسية والفكرية والفنية، كان علامة قبول هذه الحداثة الوافدة من بلاد الإفرنج. على هذا الأساس، (ولو استثنينا بعض الجهات الدينية المتشددة والمحدودة) أبدى المجتمع استعداداً لمبدأ الخروج إلى العالم، وتبني ما يمكن تبنيه من أفكاره وآدابه وفنونه وأنماط عيشه، وإن بطرق مقننة، فكأنه كان في حالة "افتتاح" عام جديد. وهذا ما يفسّر سرعة تقدُّم المجتمع العربي أو شرائح منه، نحو المسرح، كأحد التعابير القوية عن هذه الحداثة، تماماً كما تقوم بوتائر متفاوتة نحو الأفكار الجديدة، الإصلاحية والترميمية، وحتى التغييرية، التي طرحها كبار الرواد من أمثال الكواكبي والطهطاوي وعلي عبد الرازق ومحمد عبده والأفغاني والشدياق وفرح أنطون... وجبران ونعيمة.

    فالخطوة نحو الآخر واحدة. هي خطوة نحو حداثة اصطفائية، وأكاد أقول جزئية، لأنه كان يستحيل آنئذ التحرّك تحركاً شمولياً، لأسباب ذاتية وموضوعية، تتصل بالقدرات المتاحة، والامكانات المتوفرة في تلك المرحلة لا سيما في مجالات العلوم والتقنيات...
    زمن حداثة ما قبل الحداثة كان زمن التأسيس الخاص على الأسس العمومية، أي زمن تأسيس النهضة العربية (الذاتية) على معطيات النهضة الأوروبية، كان تأسيس "الأنا" الجديدة على "الأنا" الأخرى.

    ولكن هذا التأسيس، وإن بدا لدى بعضهم خروجاً مطلقاً إلى أوروبا كنموذج مكتمل، قد تحرّك في اتجاه ثنائي: واحد نحو الآخر، وآخر نحو الموروث. واحد يحاور الحضارة الغربية وآخر متصل بالماضي. وهذا ما تمثل تحديداً في المسرح (وفي مجال الفكر والسياسة)، عندما برز اتجاهان لدى مارون النقاش: واحد "معاصر" متماهٍ مع حداثة غربية شكلاً ومضموناً عبر مسرحيته "البخيل"، كأوبريت متأثر بكتابتها بالغرب (وهي ليست مترجمة عن "بخيل" موليير كما يزعم بعضهم خطأ)، مزجت الحوار بالموسيقى والأغاني ذات النسيج العربي (الآلات الموسيقية حددها النقاش ارتباطاً بالأناشيد والمقاطع وهي عربية)، والثاني تراثي في مسرحية "أبي حسن المغفل"، والمأخوذة من مناخات "ألف ليلة وليلة".

    إذاً حداثة تتطلع بعين الحاضر، وأخرى تتطلع نحو الماضي. وهاتان الوجهتان سترافقان مسار ما أسميناه حداثة ما قبل الحداثة نحو مئة عام أي حتى الخمسينات عندما انتقل المسرح من الزمن الاجتماعي والتاريخي إلى الزمن المُسيَّس وصولاً إلى الزمن الأيديولوجي أي إلى الزمن الحداثي بامتياز في السبعينات حتى نهاية الثمانينات.
    فالقرن التاسع عشر كسر الحواجز الأولى التي على النفحات الجديدة، والإطلالات الأولى أن تعبرها، إدركاً إلى وعي المجتمع والشرائح المختلفة. صحيح أن مارون النقاش ويعقوب صنوع وأبا خليل القباني افتتحوا الريادات المسرحية المختلفة، واقتحموا واقعاً جديداً، وجمهوراً، إلا أن الصحيح أيضاً أن مئات الفرق والجمعيات والمؤسسات الاجتماعية والتربوية والدينية والسياسية والمدرسية انخرطت على امتداد القرن التاسع عشر، في مصر ولبنان خصوصاً، لتشارك في هذا البناء الحداثي، ولتخرج "إنجازه" من الحيز النخبوي الخاص إلى الحيز العمومي. وهذا يعني أن المجتمعات العربية، في أقسام متسعة منها، سجلت خروجاً من عالم قديم إلى آخر جديد. مفتتح جماعي، كان ضرورياً لتأمين تراكم لهذا الفن، أو الأحرى لتأمين تراكم حداثي فني، يشكل التأسيس المتين للقرن العشرين. ويعني ذلك أيضاً أن مئات المسرحيات المترجمة والمقتبسة والموضوعة من تاريخية ودينية واجتماعية، قد قدّمت على خشبات المدارس والجمعيات والفرق. كل ذلك يفضي إلى أن الحداثة (أو حداثة ما قبل الحداثة) المسرحية لم تعد مسألة استثنائية أو فردية بقدر ما كانت تقترب من أن تكون "حركة"، على الأقل من حيث تقبلها تقبلاً متواصلاً ومتعدداً ومتفاعلاً. وقد تكون المناسبة طاغية في التعاطي مع المسرح، إلا أن تجمع هذه المناسبية واتخاذها منحى الاتصال، وبداية تكرّسها كحالة أو كعادة... جعلت منها ظاهرة مطردة نفذت إلى عمق الوجدان العمومي وإلى قرار إدراكاته الثقافية. فالمعنى الثقافي لهذه الحداثية المسرحية الجديدة يتضمن أبعاداً مهمة، عبر اكتسابه عنصراً جوهرياً في بناء الذائقة الفردية والجماعية.

    فلنقل أن حالة مسرحية ما قد بدأت تتكوَّن وتتراكم وتشمل أهل المسرح من "محترفين" وهواة وطلبة. إنها الحالة ـ الحركة التي تتفشى وتنتشر لتكون مقومات للحداثة المسرحية العربية التي ستتخذ في القرن العشرين طابعاً مؤسساتياً يتجاوز المناسبة، والفِرق الطارئة.

    إذا كان المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر، بمنحاه التكويني، بدا من دون اتجاهات واضحة، وهذا شيء طبيعي، فلأن مرحلة حداثة ما قبل الحداثة هذه، تنوّعت بمصادرها، ومراجعها، على أن هذا التنويع (ولو محدوداً) الذي خطا في اتجاهات التاريخي، الاجتماعي والغنائي، استخدم "قديم" الآخر ليؤلف عناصر حداثته. وهذا أمر مألوف في تاريخ الشعوب. كل حضارة تنهض تأخذ من "قديم" الآخر، أو ما تكرّس في تراثه. هذا ما فعله الرومان عندما تأثروا بالإغريق وهذا ما فعله أيضاً الفرنسيون في مسرحهم الكلاسيكي عندما أخذوا النموذج الأرسطي للمسرح (ككورنيل راسين)، وهذا ما فعلته الرومانطيقية الفرنسية عندما تفتحت على المسرح الانكليزي في القرن التاسع عشر لا سيما النزعة الشكسبيرية، ومن رموز تلك المرحلة الشاعر هيغو الذي كسر النظام الأرسطي وقوانينه على الطريقة الشكسبيرية (التراجيدية). هذا التأثر سيرافق المسرح العربي حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين.
    هذه المرحلة الممتدة من بداية القرن حتى نصفه هي امتداد ما للاتجاهات التي تبلورت مع رواد المسرح في القرن التاسع عشر من حيث استغراقها التوجيهين الأساسيين: الغربي والتراثي (التاريخي والشعبي)، والاجتماعي سواء في الاعتماد على الكوميديا أم على التراجيديا أو الدراما أو حتى الميلودراما من دون إغفال العنصر الغنائي (الأوبريت، المسرح الغنائي). على أن الاستعانة بقديم الآخر لبناء التحديث تحول إلى نوعٍ من التأثر ببعض المعاصرة وتحديداً الكتّاب الأوروبيين اقتباساً وترجمة. هذا ما شهدته مصر على امتداد الجزء الأول من القرن العشرين، وكذلك تونس والجزائر والمغرب وبيروت ودمشق وبعض دول الخليج وبغداد. وهذا يعني أن بؤر الحداثة التأسيسية قد بدأت تتوزع، وإن على غير تفاوت، على امتداد العالم العربي، لكن بكثير من العناصر المشتركة. لكن إذا شئنا قياس الحركة المسرحية العربية بموازاة الحركة الأوروبية، فنجد أن عامل "التأخير" بدا واضحاً. ففي حين قامت الثورة المسرحية في أوروبا على سلطة المخرج ومن الممثل والتقنيات السينوغرافية المرتبطة بدرامية النص ومن ضمن رؤيا المخرج بقيت هذه الثورة خامدة عندنا طيلة أكثر من نصف قرن. أي أن المسرح العربي في القسم الأول من القرن العشرين مسرح القرن التاسع عشر وما قبل، من حيث بقاء السلطة الأساسية محصورة في النص. من دون رؤيا إخراجية أو أدائية أو تقنية. مسرح النص. ومسرح غياب المخرج. إنه مسرح اجتماعي (كلاسيكي) تقليدي متأثر بزمن ما قبل الثورة الاخراجية، والتكنولوجية (اختراع الكهرباء) والإيديولوجية. صحيح أن كثيراً من الأعمال حملت مضامين فكرية (كمسرحيات فرح أنطون)، وتضمنت أفكاراً جديدة كالاشتراكية، والقومية، وحتى الليبرالية، إلا أن كل ذلك لم يتموضع في اتجاه مسرحي، أو رسالة مسرحية. كأنما بقيت حدود المسارح الاجتماعية في حدود النقد المباشر، والسخرية المباشرة، وإن متأثرين بإرث التنويريين الأوروبيين وكذلك بالقيم الدينية والإنسانية العربية الموروثة.

    هل هذا يعني أن الفجوة القائمة بين المسرح العربي وأشكال تطوّر المسرح الغربي في القرن العشرين تعود إلى طبيعة المجتمع وأحواله ومستويات تقبّله وانخراطه في الجديد، من أفكار وآداب وفنون؟ وهل يعني أن المسرح العربي الذي سبق (إلى حد) كثيراً من الأفكار والفنون في القرن التاسع عشر بمجرّد وجوده الريادي، قد تأخر عن مواكبة الأفكار النهضوية التي خطت باتجاه اقتباس عناصرها وبنياتها والإبداع عليها، ليدوم هذا التأخر مطرداً حول نصف القرن؟ وعلينا هنا أن نقارن بهدوء بين هذه الظواهر، لنجد أن هذا التسابق إذا جاز التعبير، كان أحياناً كثيرة تماهياً ولو مبسطاً بالقيم الفكرية العربية المتأثرة أوروبياً. وهذا نتلمسه بالقضايا والمسائل الاجتماعية والسياسية (والتاريخية) التي تنكبها المسرح، بحيث كان، أحياناً، وإلى حد ما، مرآة لهذه الأفكار "التنويرية" والنهضوية من قضايا المرأة والحجاب والطلاق ومفهوم الدولة، والسياسة، والزواج والعائلة، والغنى والفقر، والإقطاع، وسيرورة المجتمع من ضمن هذه العوامل. بمعنى أن الحداثة الفكرية والسياسية والاجتماعية التي رفع لواءها كبار الرواد وجدت في لحظات تجسّدها على الخشبة، بحيث باتت هذه الأخيرة، وإن بحدود متواضعة، تعبيراً عن هذه الحداثة نفسها والإشكاليات المنبثقة عنها، والأسئلة المرافقة لها. أوليس هذا ما نجده في أعمال نجيب الريحاني وجورج أبيض ويوسف وهبي ومن ثم سيد درويش وعلي الكسار وعلي باكثير (ومسرح فاطمة رشدي)؟ أي الجانب الانتقادي المشفوع بنظرة مستحدثة وإن مترددة إزاء "العادات" والتقاليد الغربية التي تجتاح المجتمع المصري. (هذا ما نلقاه إلى حد كبير أيضاً في السينما منذ العشرينات وحتى الخمسينات أيضاً). هذه المرحلة الاجتماعية، التاريخية في الحداثة المسرحية مشت بخطوات حثيثة إلى الأمام، وبخطوات مدروسة إلى الوراء. فلا المسرح تجدد بما تجدد به في الغرب، ولا تسيّس بالمعنى الانتقادي، ولا راهن على تغيير المجتمع تغييراً يمكن أن يصيب بعض الفكر التنويري. وهكذا ظل مسرح النصف الأول من القرن العشرين استمراراً مطرداً ومتنوّعاً لمسرح القرن التاسع عشر، مع إشارة إلى كثافة الإنتاج، وتطوّر الحرفية، وبروز شبه تآزر بين مختلف الظواهر المسرحية: تراثية، شعبية، اجتماعية وموسيقية وغنائية. وشبه التآزر هذا يُعبّر عن أن الذين كانوا ينتجون هذا المسرح اضطروا أحياناً إلى نقض ذواتهم بالتصدي عبر المسرح لبعض الاقتراحات التنويرية والحداثية. حداثة بقديم هنا. وقديم بحداثة هناك. وعلينا أن ننتظر فترة الخمسينات لنشهد تحوّل الاجتماعي إلى سياسي، والتراثي إلى مادة إسقاطيه على الحاضر، والشعبي إلى التزام بقضايا ومسائل أبعد من مسائل الزواج والطلاق، والغنى والفقر، ولقاء الطبقات...
    فمع نعمان عاشور وسعد الدين وهبي انتقل المسرح إلى حالة شحن فكرية، وسياسية وحتى أيديولوجية، تطال عمق علاقة السلطة بالمجتمع. وهي فاتحة سترافق المسرح العربي لاحقاً مرافقة عضوية.

    على أن هذا المنحى السياسي (المسيس) بالأفكار الحداثية الجديدة، والمُطل على ما آلت إليه طروحات النهضة العربية على صُعد كثيرة كالاشتراكية والشيوعية والالتزام، لم يتم عبر تغيير في بنية العمل المسرحي، أو في رسائله، بحيث ظل الشكل خاضعاً للأنماط التقليدية التي عرفت لدينا في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.

    بمعنى آخر بدأت ملامح تحوّل في دور المسرح كمكان احتجاجي ـ فكري (لا انتقادي ـ اجتماعي) ـ سياسي، تحت تأثير الانفتاح على الغرب لا سيما الاشتراكي منه، عزز ذلك أيضاً التزام بالتعبير عن القضايا العربية، والصراع مع إسرائيل (والامبرياليات)، لا سيما بعد نكبة 48، والعدوان الثلاثي على مصر، ونكسة الـ67,.

    على أن التحوّل الجذري الذي أصاب مضمون المسرح لم يرافقه تحوّل يذكر في مجال لغة المسرح. وفي هذه الفترة التي عرف فيها الغرب ثورة نصبت المخرج سيداً للعمل يلعب بكل أدوات المسرح، وغيّرت دور الديكور (التزيين الجامد) إلى سينوغرافيا تشكل جزءاً من درامية العمل، إلى سينوغرافيا تشكل جزءاً من درامية العمل، إلى دور الممثل... كل هذا كان بعيداً عن متناول حداثة (ما قبل الحداثة) المسرحية.
    فثورة الأفكار والقضايا الكبرى وانخراط الدراما حتى في الأيديولوجيات "المكتملة" (قومية، شيوعية، اشتراكية...) لم تُؤد في تلك المرحلة إلى ثورة في الخشبة، ولا في لغة المسرح، ولا في أدواته. على أن هذا التردد بين الجديد الفكري والقديم الشكلي في المسرح، والذي رسم المرحلة المئوية الممتدة من 1947 إلى الخمسينات من القرن الماضي، وجعلت هذه المرحلة مشتركة في مواصفات كثيرة: قانعة وطموحة، متجزئة ومحافظة، رافضة وقابلة، هذا التردد كان يجبل بالثورة الحداثية المسرحية التي بدأت تتفجر منذ قرابة 50 عاماً، مستندة استناداً شبه تام على المدارس والاتجاهات الغربية. وإذا اعتبرنا أن القرن العشرين هو قرن الأيديولوجيات، عرفنا أن هذا المنحى الأيديولوجي الذي أصاب كل شيء: الفلسفة (الوجودية، العبثية) النفسية (الفرويدية)، السياسية (الرأسمالية والشيوعية الليبرالية)، الشعرية (الدادائية، السوريالية...)، الروائية (الرواية الفرنسية الجديدة)، الاجتماعية (الأنتربولوجية) المسرحية (البرشتية (قبلها الأرسطية والستنسلافكية) ومسرح القسوة (أنطونان أرطو)، والمسرح الفقير (غروتوفسكي...)، و"مسرح داخل المسرح" (البيراندولية). فكأن كل القرن العشرين الغربي الموسوم بالمدارس والاتجاهات (المغلقة) أي الأيديولوجية بمعنى من المعاني، تدفق في فترة قصيرة تمتد نحو ثلاثة عقود (من الخمسينات حتى الثمانينات)، ولتشكل فيها الحداثة الغربية شبه اكتمال في المسرح العربي وسواه. وبهذا تم الانتقال من زمن حداثة ما قبل الحداثة (استمرت مئة عام)، أي سيادة النص، إلى زمن الحداثة ("سيادة المخرج" استمرت ربع قرن!).

    وإذا كانت الفترة السابقة شكلت مشكلة بطولها (وترددها)، فإن الفترة الحداثية شكلت أيضاً مشكلة:

    أولاً ـ مشكلة وقت. إذ تدفقت كل المدارس المسرحية الغربية علينا دفعة واحدة وفي مدة أبعد من أن تكون كافية لتبلور اتجاهات ناضجة، وأقل من أن تكون وافية لتحول مفردات تلك الحداثيات الغربية العمومية إلى حداثيات بمفردات ورؤى عربية. وهذا شكل نوعاً من القطيعة مع تراكمات المرحلة السابقة، بحيث بدا وكأن كل شيء طالع من توّه. من حاضره. ولعل هذا تحديداً ما أضعف "تأصيل" الإبداع المسرحي العربي، بحيث يصبح التوقيع الإخراجي، والأدائي، والسينوغرافي، وحتى الكوريغرافي، دافعاً. والمفارقة أن ما أسميناه "حداثة ما قبل الحداثة" المسرحية دامت نحو قرن، فيما الثورة الحداثية العربية لم تصمد أكثر من ربع قرن، وهذا يعني أن التراكم الذي لاحظناه في المرحلة السابقة وأدى، كما قلنا إلى "المسرح المسيس" (عاشور، وهبة)، لم نلحظه في الموجات المتداخلة من المدارس المسرحية الغربية، والتي أفضت إلى ردود فعل عليها.
    فالمرحلة السابقة، على أهميتها، لم تصدم المجتمع، ولا ذائقته المتفتحة، ولا مشاعره، برغم المضمون التغييري الكبير الذي حوته، في حين أن ثورة المسرح الحديث، والتي تزامنت إلى حد كبير، في مختلف المدن العربية (القاهرة، العراق، بيروت، دمشق، تونس، المغرب، الجزائر، الكويت، البحرين...)، شكلت صدمة ما. بل صدمة كبيرة، لأنها افترضت، عبر تغيير موقع المسرح، تغيير موقع الجمهور منه. إضافة إلى أنها احتضنت التناقضات المتعاقبة في المسرح الغربي، في حاضنة زمنية واحدة. مما أدى إلى تبلبل، وارتباك، في الحالة المسرحية العمومية: عند أهل المسرح وعند الجمهور.

    هذه الظاهرة الصدامية هي مهمة. وضرورية. لهز الضمير وخلخلة الذائقة. والعبور إلى دور جديد للمسرح: دور سياسي وجمالي وأيديولوجي ومجاني ونضالي... وعدمي. مهمة في هذه الراديكالية في مفهوم المسرح. وبنيته. بمعنى آخر في التبني الواضح لاقتراحات المسرح الغربي نفسه. ولعل استمرار المسرح الحداثي في الاعتماد على الصيغ والمنظورات والمفاهيم الغربية (كما كان شأن المرحلة السابقة) عنى في ما عنى، أن لا تجديد ممكناً، أو تنوير للخشبة خارج المفهوم الغربي. فالحداثة المسرحية تعني حداثة غربية: من استانسلافسكي، إلى مايرخولد، إلى برشت، وبكيت ويونسكو، وبيتر فايس، وأنطونان أرطو، وغروتوفسكي... وبيراندلو يعني أن هذه الاتجاهات المتضاربة كلها على امتداد نصف قرن في العالم، اختزلت في عقد أو عقدين عندنا.

    ثانياً ـ إن هذا الطغيان الغربي على مسرحنا، أدى إلى ردود فعل أرادت التمرد على تلك النماذج، وطرح إشكاليات "الهوية"... الخاصة، سواء كانت شعبية، محلية، دينية، تراثية، أدبية، تاريخية. وهذا ما يفسّر آراء توفيق الحكيم ويوسف ادريس، وبعدهما أصحاب اتجاه الاحتفالية (برشيد، الصديقي، الزروالي)... والتي تدعو إلى تأسيس مسرح عربي، بأدوات عربية، وبأفكار عربية... وبرؤيا عربية، كنقيض لهوية الآخر، أي الغرب.
    على أن هذه "الاحتفالية" أو هذه الدعوة إلى تأصيل المسرح العربي، تمت عموماً ضمن البنية المسرحية الغربية، وحتى ضمن المرجعيات "المفهومية" والنقدية الغربية. والأخطر أنها وقعت في نوع من الايدولوجيا المطلقة في رؤيتها إلى المسرح الغربي، وفي دعوتها إلى مسرح عربي، قادتها إلى البحث عما ينسجم مع هذه المفاهيم، في التراث، لتكتشف جذوراً وهمية للمسرح ـ العربي في خيال الظل (وهو ليس عربياً) وفي الطقوس والعادات والتقاليد والمناسبات الدينية. (وهي معطيات يمكن أن نجدها عند كل الشعوب). بل لتقع في نوع من "الأصولية" المسرحية، التي تهدد في بعض نواحيها، بالانغلاق والانطواء وبالسقوط في نرجسيات ذاتية مرضية.

    ثالثاً ـ صحيح أن المسرح العربي الحداثي تأثر بكل ما في الغرب... حتى التقليد في بعض الأحيان. بل حتى اكتشاف أن وراء كل مسرحي عربي مسرحياً أجنبياً، ولكن الصحيح أيضاً، أن المرحلة الممتدة من منتصف الخمسينات ومن منتصف الثمانينات، هي المرحلة الذهبية الكبيرة التي ثوّرت فيها الخشبة تثويراً لم نعهده من قبل، على صعيد الكتابة المسرحية، وعلى صعيد الإخراج، وعلى صعيد المدارس والرؤى الدرامية. إنها الصدمة الايجابية للحداثة المسرحية، قدمت كباراً في الإخراج وفي الكتابة والسينوغرافيا والكوريغرافيا، وفرقاً جماعية أسست لاتجاهات تجريبية جديدة. ونظن أن الفضاء الذي يلف مجمل الحالات المسرحية، يمكن تلخيصه بظهور "التجريبية" و"الاختيارية" والورش المسرحية عندنا. وهذه التجريبية التي جعلت اللغة المسرحية إشكالية وقضية، ومجالات التجديد والتجاوز من المقاييس الأساسية للحرفة المسرحية. إذ لم يعد مهماً إنجاز عمل بمواصفات التوصيل التقليدية المبسطة، بل بات مهماً كيف علينا أن نجدد بنية المسرح الجديدة، ونثور العلاقة بين الخشبة والجمهور، وبين الخشبة وعناصرها، وبين المخرج والخشبة والتقنيات والممثل. ودخول "الكيف" يعني دخول اللغة المسرحية بعناصرها كافة، في هاجس التغيير والتجريب، باعتبار أن الفن ليس منجزاً كاملاً، وإنما معطى خاضع باستمرار لاختبار مواده، وكيميائية عناصره. وبات السؤال: أين يقف المخرج أهم من السؤال ماذا يفعل المخرج. هذا الأخير الذي كان لا بد من أن يؤسس لورشة دائمة في مختبراته وتقنياته، سواء كان يحمل رسالة سياسية أو اجتماعية أو أيديولوجية، أم كان يتقدّم إلى إنجاز فني متجرّد من الرسائل والخطب. إنها الحداثة في أصفى صورها تحرّكها الأفكار والبنى والنظريات لكن أيضاً تحرّكها رغبة في اجتراح ما هو جديد. ومتجاوز. ومبتكر. ومتحرّك. أي جعل كل شيء قضية على المسرح. أو الأحرى جعل المسرح مكاناً لتفجير القضايا الفنية، والأيديولوجية، والاجتماعية، والتراثية، كأنه صار مساحة حية، أو من المساحات الحية الأخيرة للصدام وللحوار، للتغيير وللاحتجاج، للاختبار والاعتراض على الاختبار، هذه المساحة الحية بدت وكأنها مساحة للحرية. الحرية المفقودة في هذا العالم العربي الشاسع بقمعه، الرحب باستبداده. وقد استدعت هذه الساحة ممتزجات عديدة من الأفكار الأيديولوجية والسياسية والقضايا: من الماركسية، إلى الشيوعية، إلى القومية، إلى الليبرالية إلى اليمينية والعبثية واللامعقول والالتزام... كل ذلك مرفود بالمذاهب والاتجاهات المسرحية العالمية: البرشتية، الغروتوفسكية، الأرطوية، التسجيلية، الواقعية، الرمزية... حتى بدت الخشبة المسرحية العربية، في حدود زمنية لا تتعدى الربع قرن، مكاناً لتصادم هذه الحداثات المسرحية، ولحوارها، ولاختبارها، وجنونها وفنونها، برغم النكسات الكبرى التي "حققها" النظام العربي في هزائمه المبيَّنة بإذنه تعالى.

    رابعاً ـ إن هذه الفورة المسرحية الكبيرة، أكدت أن الحداثة المسرحية العربية، كفرع من فروع النهضة والتنوير، هي جزء أساسي من الحداثة الثقافية العربية. بل جزء تمكن من مضاهاة وموازاة إنجازات الشعر والرواية والنقد والسينما والفكر. بل كأن ما تم من إنجازات على الخشبة المسرحية من المغرب الكبير إلى المشرق، كان أخطر مما كانت عليه بعض الفنون الأخرى، لأنه فن المواجهة المباشرة، الحيّة، اليومية بينه وبين الجمهور، بدون وسيط.

    إذا كانت الحداثة تحمل بذور نقيضها وضدها، وما قبل الحداثة، تحمل بذور الحداثة، وحتى الانحطاط يحمل بذور النهضة، فإن المسرح العربي، في صعوده القصير، كان يتضمن ما يمكن تسميته "اللاحداثة"، أو "الحداثة المضادة". فحتى في عز التجريبيات الصعبة كان بدأ يتسرب إلى المسرح "النهضوي" الجدي ملامح طاغية من الفنون والأنواع الأخرى، بطريقة تصيب الجوهر الدرامي. بعضهم يُسمي ذلك "ما بعد الحداثة"، ونحن نسميها "الحداثة المضادة"، لاعتبارنا أن ما بعد الحداثة مهما تشعبت، وانعطفت، وانقلبت هي فرع من فروع الحداثة، بل ورافقتها منذ نشوئها "الرسمي" أو "الاصطلاحي".

    من هذه الملامح:

    1 ـ اختراق اللغة التلفزيونية (حواراً وديكوراً وإخراجاً وأداء) العديد من الأعمال، مما جعل الالتباس كبيراً بين اللغتين، والتداخل علنياً.

    2 ـ هجرة بعض أهل المسرح إلى التلفزيوني مما أفقده كثيراً من قوته.
    3 ـ وقوع المسرح أحياناً كثيرة في البعد الواحد للصورة التلفزيونية. أي طمس الدلالات المتعددة المفترضة في الصورة المسرحية. (وهذا يفضي إلى ما يدعو إليه "ما بعد الحداثيين".

    4 ـ اختزال مفهوم المتفرّج أحياناً كثيرة إلى علاقة تبسيطية قائمة على اعتباره متفرّجاً موقتاً للمسرح، أو متفرّجاً استهلاكياً، وعلينا تقديم وجبات سريعة له كزبون ثابت، أو كزبون ثابت في أعمال غير ثابتة.

    5 ـ استخدام الشاشة التلفزيونية في بعض الأعمال الجدية استخداماً غير مبرر. أو بالأحرى لا يخدم لا فكرة العمل ولا متنه. وفي هذا تسريب ما لطغيان هذا الفن على اللغة الدرامية.

    ومن هذه الملامح:

    1 ـ استعمال السينوغرافيا كأدوات وتجهيزات وملابس ومؤثرات وإضاءة وماكياج، استعمالاً شكلانياً مضخماً ليفترس العمق الدرامي بما في ذلك دور المخرج والممثل والنص. مما يعني أن هذه الشكلانية تسطح العمل، وتوقعه في الأفقية، والتخبط، والإغراءات البصرية والسمعية الهشة. أي تصيب جوهر التجربة والمحاولات التجريبية عليها. ولعل هذا ينقل المسرح من زمن حداثي مكثف، مبطن، كاسح، إلى زمن استهلاكي، (افتراضي) (يسمونه ما بعد الحداثة).

    2 ـ تسييس العناصر الدرامية (الممثل، المخرج) عبر غلبة الشكلانية السينوغرافية (المجانية)، يعني انتفاء حيويته الانسانية، بحيث يُلغى الممثل كبؤرة أولى للدراما، والمخرج كمنظم وراسم للرؤية، وللنص كحقل دلالي خصب لاستنباط وسائل الإخراج والتقنيات.

    3 ـ هذا التشييء لم يسقط المسرح في اللامسرح، وإنما عزز المنحى الشكلاني الذي يذيب المسرح في أنواع أخرى؛ أي يطمس خصوصيته، وبنيته، وآلياته وحالاته المميزة. مما يجعله فناً مائعاً لا هوية له، ولا دور، ولا فكرة، ولا بنية. ولا سيرورة. فنا يشبه التلفزيون. وفناً يشبه عرض الأزياء. وفناً يشبه مكاناً للإضاءة أو للإنارة. بمعنى آخر، انفصاله عن حيوياته ومكوّناته.

    4 ـ هذا الكلام على السينوغرافيا يستدعي الكلام على الكوريغرافيا، (المسرح الراقص أو مسرح الإيقاع أو الحركة، أو استخدام الرقص) التي بدت في العقدين الأخيرين وكأنها حلت محل المسرح. فكأن مصمم الرقص أخذ مكان المخرج والممثل والنص. أي تماماً ما حدث مع السينوغرافيا. ولعل الانخراط في هذه الموجة "الراقصة" غالباً ما أفرغت العمل من قوته، ومن زخمه، ومن قراره أو مقاصده المنشودة، بحيث وقع العمل في الاستعراض بعيداً عن العرض. وبحيث تحوّل الجسد أداة تزويقية ترفيهية، برانية، بعد أن كان بؤرة الدراما (أرطو، غروتوفسكي).

    إن هذه الانتقالات في المسرح بدأت تتسرّب وتتأكد وتجتاح لأنها، عن وعي أو لاوعي، ارتبطت بالتحوّلات التي أصابت الفكر الحداثي (التنويري) في صميمه.
    فنحن نعرف أنه من منتصف السبعينات بدأت تتراجع الأفكار الكلية والشمولية والأيديولوجية، بل وبدأت تتراجع اقتراحات النهضة والتنوير، سبقها استنفاد لكل المدارس المسرحية والفلسفية من ملحمية (بيسكاتور وبرشت)، وتسجيلية (بيترقايس)، وعبثية (بيكيت، يونسكو)، وقبلها الواقعية الاشتراكية (الستالينية، الشيوعية)، ومن ثم مسرح القسوة (أرطو)، والمسرح الفقير (غروتوفسكي). هذه المدارس (عمقها أيديولوجي) تلازم أفولها، إلى حد كبير مع أفول الزمن الأيديولوجي وزمن الأفكار والحقائق والقضايا الكبرى، من دون أن ننسى تراجع الفكر القومي والاشتراكي والعروبي أي فكر التنوير. فكأنه لم يعد من مكان للأفكار. بل كما هو نقيضها، وقد برزت، بعد ذلك، طفرات ما زالت تطفر، من الغرائز الطائفية والظواهر المذهبية، والدينية والاثنية في ما يسمى صراع الحضارات.

    مرحلة كاملة تراجعت، ليحل مكانها فراغ وأنواع من الارتداد إلى قيم ما قبل الحداثة، وقيم الاستهلاك، والهشاشة، والتقلبات والتبدلات السريعة. (وهي كلها من مفردات ما بعد الحداثة، وإن كانت موجودة في تضاعيف الحداثة). زمن اللاأفكار. واللامشاريع. واللاتجريب. واللادلالات. واللااستبطانات. ولا القرارات المتعددة. زمن القراءة الواحدة المرتجلة. زمن الإغراء اللحظوي. زمن العابر، كل هذا أثر في عمق الحداثة المسرحية، وأضعف هاجس المغامرة، والمجازفة، والخصوصية، والتميّز. فإذا كان كل شيء يتم سريعاً، فليسرع المسرح معه. وفي سرعته هذه بدا، على الأقل في المرحلة الراهنة، وكأنه يصطدم بنفسه، يرتطم بدوره وتاريخه. وينقلب على تراكماته التي امتدت عندنا قرناً ونصف القرن.

    فهل هذا ما نسميه مسرح ما بعد الحداثة، بهذه المواصفات "الفرجوية" العابرة كالنيزك، المتقلبة كالموضة، المفرغة كالاعلانات، المغرية كعارضات الأزياء...

    شخصياً لا أطلق عليه تسمية ما بعد الحداثة لاقتناعي بأن الحداثة لا تنتهي، وبأن ما نراه في المسرح والفنون الأخرى، هو الجزء الآخر من الحداثة. فلنقل أنها حداثة ما بعد الحداثة أو الحداثة ذات السمة الاستهلاكية، وهي حداثة بدأت مع أول عمل مسرحي مع مارون النقاش ورافقت كل المراحل المسرحية.

    في ذلك الوقت كنّا نسميها الحداثة. أما اليوم فنسميها "ما بعد الحداثة".

    (*) تقدم هذه الورقة في الندوة الفكرية التي تعقد على هامش مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة تحت عنوان "المسرح في زمن الحداثة وما بعدها".

    المستقبل - الأربعاء 22 أيلول 2004







                  

العنوان الكاتب Date
وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 02:45 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 03:20 PM
    Re: وداعا جاك دريدا سجيمان10-09-04, 03:26 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 03:23 PM
  Re: وداعا جاك دريدا Nagat Mohamed Ali10-09-04, 03:48 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 03:49 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 03:51 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 03:55 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 04:00 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 04:04 PM
    Re: وداعا جاك دريدا عشة بت فاطنة10-10-04, 06:39 AM
      Re: وداعا جاك دريدا عشة بت فاطنة10-10-04, 06:50 AM
        Re: وداعا جاك دريدا AttaAli10-10-04, 07:14 AM
          Re: وداعا جاك دريدا Sinnary10-10-04, 08:27 AM
        Re: وداعا جاك دريدا عشة بت فاطنة10-10-04, 10:35 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 03:44 PM
  صبحي حديدي:بين جاك دريدا وتفكيك الزرقاوي osama elkhawad10-11-04, 03:47 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 03:51 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 03:53 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 03:56 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:01 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:03 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:06 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:07 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:10 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:14 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:17 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:19 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:27 PM
    Re: وداعا جاك دريدا Abomihyar10-11-04, 04:33 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:37 PM
  جاك دريدا:الدين في عالمنا osama elkhawad10-11-04, 04:40 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:47 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 05:00 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 05:03 PM
  وداعا جاك دريدا ومفهوم "المغفرة" osama elkhawad10-11-04, 05:08 PM
  نظريات التلقي وتحليل الخطاب ومابعد الحداثة osama elkhawad10-11-04, 05:17 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-12-04, 09:07 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-12-04, 09:09 AM
  محاولة لمقاربة ابن عربي في ضوء ما بعد الحداثة osama elkhawad10-12-04, 09:16 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-12-04, 09:28 AM
    Re: وداعا جاك دريدا malamih10-12-04, 11:18 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-13-04, 08:12 AM
    Re: وداعا جاك دريدا Safa Fagiri10-13-04, 08:53 AM
  وجهة نظر اسلامية حول المعرفة في سياق الحداثة osama elkhawad10-13-04, 10:52 AM
  وجهة نظر اسلامية حول ما بعد الحداثة-نقلا عن "اسلامأونلاين" osama elkhawad10-13-04, 10:58 AM
    Re: وجهة نظر اسلامية حول ما بعد الحداثة-نقلا عن "اسلامأونلاين" تراث10-13-04, 01:29 PM
  عن هابرماس بالعربية osama elkhawad10-13-04, 05:42 PM
  من الحداثة وخطابها السياسي لهابرماس-تحدي الاصولية osama elkhawad10-13-04, 05:55 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 05:58 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:00 AM
  هابرماس ومفهوم التواصل osama elkhawad10-14-04, 06:04 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:17 AM
  هابرماس وبوش osama elkhawad10-14-04, 06:20 AM
  Re: وداعا جاك دريدا Yasir Elsharif10-14-04, 06:29 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:35 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:38 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:43 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:45 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:48 AM
  محاضرة لهايدجر osama elkhawad10-14-04, 07:04 AM
  Re: وداعا جاك دريدا abdalla BABIKER10-14-04, 08:10 AM
  رمضان كريم يا عبدالله osama elkhawad10-14-04, 12:00 PM
  مقالة كانط حول الانوار osama elkhawad10-14-04, 12:04 PM
  فوكو يقارب سؤال "ما هي الأنوار" osama elkhawad10-14-04, 12:08 PM
  هايدجر والاختلاف osama elkhawad10-14-04, 12:21 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 12:26 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 12:38 PM
  هابرماس يجيب عن سؤال "ما هو الارهاب؟" osama elkhawad10-14-04, 12:51 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 12:56 PM
  اكاديمي عربي يحكي عن علاقته بأفكار دريدا osama elkhawad10-14-04, 01:02 PM
  دريدا ونقد الميتافيزيقا الغربية osama elkhawad10-14-04, 01:14 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 03:16 PM
  حقل فوكو "الجزء الاول" osama elkhawad10-14-04, 03:20 PM
  حقل فوكو "الجزء الثاني" osama elkhawad10-14-04, 03:49 PM
  عرض للكتاب الذي سرق منه "الفيا" osama elkhawad10-14-04, 03:58 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 10:55 PM
  المسرح العربي بين الحداثة وما بعدها osama elkhawad10-15-04, 08:36 AM
  الحداثة المنقوصة لهشام جعيط osama elkhawad10-15-04, 08:39 AM
  الحداثة والأزمنة العربية الحديثة osama elkhawad10-15-04, 08:42 AM
  الخلط بين الحداثة و التجدد osama elkhawad10-15-04, 08:46 AM
  رأي اسلامي:الحداثة باعتبارها فتنة وباطلا osama elkhawad10-15-04, 08:53 AM
  حوار مع المغربي بلقريز يتحدث فيه عن الحداثة والتحديث osama elkhawad10-15-04, 08:58 AM
  اعلان موت الحداثة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ osama elkhawad10-15-04, 09:05 AM
  الأسرة" بين الحداثة الغربية.. والرؤية الإسلامية..(1) osama elkhawad10-15-04, 09:10 AM
  الأسرة" بين الحداثة الغربية.. والرؤية الإسلامية...(2 osama elkhawad10-15-04, 09:13 AM
  الحداثة والتباين والغربنة osama elkhawad10-15-04, 02:11 PM
  تناقضات الحداثة العربية و تعريفاتها المختلفة osama elkhawad10-15-04, 02:16 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-15-04, 04:59 PM
  رأي اسلامي:سقوط الحداثة osama elkhawad10-15-04, 05:12 PM
  رأي اسلامي حول الحداثة osama elkhawad10-15-04, 05:31 PM
  في نقد الحداثة الكومبرادورية- محسين الدموس (*) osama elkhawad10-15-04, 05:41 PM
  الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا-الجزء الأول osama elkhawad10-15-04, 05:53 PM
  الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا-الجزء الثاني osama elkhawad10-15-04, 05:59 PM
  الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا-الجزء الثالث osama elkhawad10-15-04, 06:09 PM
  الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّاالجزء الرابع والأخير osama elkhawad10-15-04, 06:15 PM
  رأي اسلامي يرفض العولمة ويربطها بالحداثة وما بعدها osama elkhawad10-15-04, 06:23 PM
  الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة osama elkhawad10-15-04, 07:57 PM
  صبيانية الحداثة وعبثها وربطها بالفساد والجنس والمخدرات osama elkhawad10-15-04, 08:04 PM
  راي حول وجود نماذج للحداثة غير النموذج الغربي osama elkhawad10-15-04, 08:20 PM
  رؤية توفيقية للعلاقة بين الاسلام والحداثةمن كاتب ايراني osama elkhawad10-15-04, 08:37 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de