ود المشرف ... والمريخ ... وقصة الخطاب الغرامي ....

Quote: جلسنا، واقتعد بعضنا الأرض.. رفضت "لمى" المقعد الذي قدمته لها، وتربعت على الأرض على مقربة من زوجها إزاء عصام.. كان المرح بادياً على الجميع - فقد شرب أكثرهم العرق اليوناني بكثرة قبل العشاء وبعده، بل أن "الدكتور فالح" أخرج من جيبه "نصفية" بلاستيكية من الويسكي يشرب منها، وتكرر ذلك أثناء الحديث – فيما راح "فرنندو" يدير عقرب الراديو من محطة إلى محطة.. وكل ما أصاب محطة عربية كان الغناء "لأم كلثوم".... فإذا انتصف الليل العربي، ملأه صوت "أم كلثوم" من كل مكان.. حتى في البحر اليوناني.. ورغم أن "فرنندو" كان يبحث عن أنواع أخرى من الموسيقى، فقد كنا نصر دائماً على التريث عند "أم كلثوم".. وإذا بـ "أميليا"، ونحن في غمرة من الحديث والضحك، تقوم وترقص وحدها رقصاً شرقياً على طريقتها على أنغام "أم كلثوم"، فلحق بها فرنندو بحركات كاريكاتورية، يهز بطنه يميناً وشمالاً... وعلا صوت الصفيق وعلت القهقهات.. وإذا "لمى" التي كانت في الصبح تتحدث عن "توما الأكويني"، والتي كانت أسماء "دوستوفيسكي" و"ابن عربي" و"اليوت" تتطاير من حديثها رغم الضحك ونحن نتناقش حول "النشوة" و"الغيبوبة" و"الجحيم" الذي وصفه "دوستوفيسكي" بالبؤس الذي يجد المرء فيه عاجزاً عن الحب.. إذا هي تقوم وترقص على أنغام "أم كلثوم". وفي لحظتين انسحب "فرنندو" وقد غمز إلى وأتى بحركة بشفتيه.. كأنه يقول: ما هذه الروعة! وانسحبت "أميليا".. محتجة بالتعب، وجلست أرضاً مكان "لمى".. و"لمى" ضاحكة.. ضاحكة.. ضاحكة باستمرار، ترقص رقصة شرقية على غرار راقصاتنا المحترفات.. انعقد لساني، والجميع يحدقون في هذا الجسد البديع المتفجر من الفستان الضيق، وهو يتلوى ويتماوج ويُفعي، مؤكداً دونما خجل على الثديين المنتفضين، والخصر الميَّاس والردفين يتكوران ويستويان، ويستديران ويترجرجان فوق فخذين طويلين مستدقين يميلان وينتصبان، فلا يعرف المرء في أي عضو يركز النظر.. كانت ترفع يدها هازلةً إلى شعرها بحركة الإغراء تلك التي تحترفها الراقصات، ولكن في هزلها أضعاف الإغراء الذي في جدهن.. وكان "الطبيب" يتتبع تماوجها واستدارتها بعين الفخور آناً وبعين المحرج آناً.. غير أنني لمحت "عصام" جامداً في مكانه لا يتحرك ولا يصفق ولا يأتي بصوت.. كانت عيناه مظللتين بسواد كثيف، ولكنني كنت أرى فيهما ناراً تتقد كأنها تنبع من أعماق رأسه.. كان فمه مفتوحاً، فتحة الدهشة والهلع والشبق... وقد جاءنا آخرون في تلك الأثناء، والتفوا حولنا، واشتد التصفيق، ورفع "فرنندو" صوت "أم كلثوم" على أعظمه، و"لمى" ترقص رقصتها الأنثوية العنيفة، وتضحك، وتهزل، ولا تتعب.. وأنا أخشى أن يتمزق ثوبها المشدود على جوارحها الثائرة. قد يبالغ المرء في بعض مشاعره بفعل الظروف المحيطة بما يرى: بفعل "الليل" و"البحر" و"الويسكي" واستسلام النفس في السفينة.. ولكنني نسيت كل تلك التفاصيل المحيطة بـ "لمى".. لقد كانت شيئاً مستحيلاً.. الهة تترنح، بين الحلم والحقيقة، أو جسداً شيطانياً لفظته الأمواج من قمقم قديم.. كانت عيناها مكحلتين بأسود يمتد في خط من الجفن في اتجاه الصدغ: فتبدو العينان واسعتين تجسدان توق الشعراء والرسامين وأوهامهم اللذيذة.. الغانية الذكية، فريسة الهوى التي تفترس محبيها، "سيرسه" التي تحول عشاقها إلى خنازير - ولكنها في رقة ضوء القمر نفسه، وحتى جسدها وهو يتثنى ويتكسر ويبرز الخفي والشهي.. يبدو لوهلة ما كأنه يذوب في النسيم ويشف.. ويتلاشى.. ولكن القديس "توما الأكويني" – ما الذي يفعله بين تينك الشفتين الوامضتين، وراء ذينك النهدين المخمورين؟ أين تتوارى أفكارها الفلسفية عندما تجمّد نفسها من الخصر فأسفل لكي تنفض بالكتفين فتركز الهم في الثديين الرجراجين، ثم تجمّد الصدر وترهز بالردفين!؟ تململ "الطبيب" ثم قال بصوت نصف مسموع: "كفى يا "لمى"" وبدا على وجهه مزيج من الحرج والغضب، ثم كرر: "لمى، كفى!" غير أن "لمى" لم تسمع – أو تجاهلت – أمره، واستمرت تُفعي على صوت "أم كلثوم"، والصوت يردد ويردد وهو في قبضة هوجاء من الهوى، وإذا "فالح" ينهض فجأة، ويرفس الراديو ترانزستور الموضوع على الأرض كالمعتوه ويمسك بمعصم "لمى" ويجرها بعنف من بين المصفقين والمعجبين.. غير أن الراديو رغم انقذافه بين الأرجل بقى يلعلع، وقد كف الجميع فجأة عن التصفيق واللغظ، وفي السكون الفجائي بان صوت "أم كلثوم" كأنه يملأ البحر كله – يرافقه صوت أقدام "فالح" و"لمى" وهو يجر بها ركضاً، بعيداً عنا. وأخذ "عصام" بذراعي، واندفعنا نحو أواسط السفينة، مبتعدين عن "جاكلين" و"أميليا" والآخرين، و"عصام" يقول وهو يرتجف غيظاً: " ما هذا الاضطهاد؟ ما هذا الاضطهاد؟" لم يكن من الصعب أن أدرك ما بينه وبين "لمى" من توتر، ولكنني قلت متجاهلاً: "حق الزوج الزوج على الزوجة". - فليضطهدها كما يشاء، أو فلتضطهده هي.. لن يهمني من ذلك شيء.. ولكن لماذا تضطهدني أنا؟ - يجب أن تفرح لذلك. - أفرح؟ - الحب أعظم اضطهاد في الدنيا.. إذا كانت فعلاً تضطهدك فهي، من الواضح، تحبك. - يا أخي لا أريد حبها إذا جاءني في مثل هذا الاضطهاد.. كل حركة منها طعنة في جسدي.. لن أستطيع التحمل كثيراً. - ولا أظن زوجها يستطيع التحمل كثيراً. - ماذا تقصد؟ اتعتقد أنه .. يعلم؟ - "فالح"؟ لا أظن.. "فالح" كما أراه، من النوع الذي يظل بليداً إلى حد معين.. فإذا بلغت الأمور به ذلك الحد، وقع في غيرة لن يستطيع تحديدها.. سيغار عليها منك ومني ومن كل ملاّح في هذه السفينة.. سترى، ولكن لا بد أنه اعتاد على نزوات زوجته، كما لعله اعتاد على جمالها.. منذ متى تزوجا؟ - منذ ثلاث أو أربع سنوات. - أسمع، "عصام" لا أريد التدخل بشؤونك.. ولكنني سأسألك سؤالاً، لك ألا تجيبني عليه إن شئت. هل كان لقاؤكما في هذه السفينة أمراً مرتباً؟ - أبداً، إنه صدفة.. ولكنها صدفة غير معقولة.. ما كان يخطر ببالي أنها تسافر إلا بالطائرة.

(عدل بواسطة نصر الدين عثمان on 10-07-2015, 10:57 AM)
(عدل بواسطة نصر الدين عثمان on 10-07-2015, 11:14 AM)