س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من الدخول

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-30-2024, 02:16 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة سودانيز أون لاين دوت كم
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-04-2006, 00:36 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18728

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ►██ الغلاف (Re: بكرى ابوبكر)

    المَشْهَدُ الثانِي: مُؤامَرَة عَلى المؤَامَرة

    نسبة إلى أن هذا المشهد ليس معنياً بالتوثيق الكامل، لبدايات تسرُّب عناصر تنظيم الإخوان المُسلمين، في أوساط القوَّات المُسلحة, لهذا سيتركز المبحث في الكيفية التي خُطط ودُبر ونُفذ بها انقلاب الثلاثين من يونيو/حزيران 1989.. علماً بأنه لم يكن وليد تلك اللحظة، فقد طرحت فكرة الانقلاب أكثر من مرة، وفي فترات تاريخية مُختلفة، كانت تطفو أحياناً صعوداً، وتختفي أحياناً أُخرى هبوطاً، طبقاً لمجريات الأحداث. وبغضِّ النظر عن تفصيلات كثيرة، فقد كان تغلغل كوادر عسكرية إسلامية في أوساط القوَّات المُسلحة، في الفترة التي انخرط فيها تنظيم ”الإخوان المسلمين“ في النظام المايوي ”جعفر نميري“، بمُوجب ما سُمِّي بـ”المُصالحة الوطنية“ في 1977، حافزاً في تكوين جناح عسكري للتنظيم، أوكل أمر قيادته للعميد مهندس ”الهادي المأمون المرضي“, لكنه كان بمثابة ”خليَّة نائمة“، وخملت الفكرة نفسها –أي الانقلاب- إلى حدٍ ما، إثر تحكم التنظيم في النظام المايوي العام 1983، بعد تبني الأخير تطبيق ما سُمِّي بـ”قوانين الشريعة الإسلامية“، أو ”قوانين سبتمبر 1983“ وفق الشهر الذي صدرت فيه. ونشطت مرة أخرى، بعد انتفاضة أبريل 1985، تحسُّباً من الضربة القاصمة التي وجَّهها نميري للكوادر القيادية في التنظيم قبيل الانتفاضة، باعتقالاتٍ جماعيَّة في 10/3/1985، طالت معظم قيادات الإخوان، وعلى رأسهم د. حسن الترابي، وأسماهم وقتئذ تشفياً بـ”إخوان الشيطان“.

    في الفترة المذكورة، تولى قيادة التنظيم المُقدم طيار ”مُختار محمَّدين“, بدلاً من العميد المرضي.. وتُجمع المصادر على أن الفترة التي تولَّى فيها ”محمَّدين“ قيادة التنظيم, وهي مطلعُ الثمانينيات، كانت هي البداية الجادَّة لبناء تنظيم عسكري فاعل لحركة الإخوان المُسلمين، داخل القوَّات المُسلحة. ثمَّ تولى بعد ذلك الملف بأكمله في القيادة السياسية للتنظيم، أثناء الفترة الانتقالية، السيد ”علي عثمان محمد طه“، وبرزت فكرة تدبير الانقلاب بشكل جدِّي خلالها، مُوازية للمُشاركة السياسية للتنظيم مع بقية القوى السياسيَّة في الحياة الديمقراطية. ورغم اضطراب وعدم استقرار المناخ السياسي في تلك الفترة، والذي ربما كان مُحفزاً لتنفيذ الفكرة، إلاَّ أن غالبية قيادة التنظيم عارضت تقويتها, بدعوى أن الآثار السالبة التي خلَّفها الحكم ”المايوي“ سياسياً ومعنوياً, ربما تحولُ دون نجاح الفكرة, من حيثُ تأييدها، والتجاوب معها في الأوساط الجماهيرية, وأُرجِئت ريثما تنتهي الفترة الانتقالية, لتقييمُ تجربة مُشاركة التنظيم، الذي اتخذ مُسَمَّى ”الجبهة القومية الإسلامية“ في مايو/أيار1985، قبيل إجراء الانتخابات البرلمانية, ونظامها الديمقراطي الذي سيتأسَّس عليها.

    في غضون ذلك، تمدَّد التنظيم السري العسكري أثناء الفترة الديمقراطية (1986–1989)، وخلال فترتها الزمنية القصيرة, وبما صاحبها من عدم استقرار واضطراب في المُناخ السياسي, تحفزت أوساط ”الجبهة القومية الإسلامية“ لتنفيذ فكرة الانقلاب، بعد أن ساهمت بقدرٍ كبير في إضعاف النظام الديمقراطي نفسه, خاصَّة في النصف الثاني من العام 1988. بَيْدَ أن خُطط الجبهة اضطربت أيضاً، على إثر اختطاف الموت لرئيس التنظيم السري، المُقدم ”مُختار محمَّدين“، بعد تحطم طائرته نهاية العام نفسه، في مناطق العمليات بسماء مدينة الناصر، واختير مُجدَّداً اللواء ”محمد المأمون الهادي المرضي“ الذي حلَّ مكانه لفترة انتقالية قصيرة، ثم اختير العميد ”عثمان أحمد حسن“. ومع ذلك، ظلَّ الأول قريباً من التنظيم, ويبدو أنه كان الأكثر إلماماً بخفاياه: «كانت المفاجأة هي في ظهوره بعد يوم واحد من انقلاب الجبهة الإسلامية في 30 يونيو 1989، كشخص له نفوذٌ كبير في السُلطة الجديدة, إذ قام بتفقد دار الضيافة، التي كانت تضم المُعتقلين من قادة القوَّات المسلحة, وكنتُ شاهد عيان لرُوحِ الغبطَة والتشفِّي التي ظهرت عليه خلال طوافه غير المُبرَّر على منطقة عسكرية، وهو متقاعدٌ خارج الخدمة. عند صدور قرار تعيين مجلس وزراء الانقلاب, عُيِّن اللواء المُهندس الهادي المأمون المرضي وزيراً للأشغال العامة, وكان يقول للمُقرَّبين منه: في واقع الأمر.. ”أنا رئيس هذه الحكومة“.. “I am the defacto Prime Minister of this Government”».. وأصبحت للتنظيم أذرع كثيرة في كل فروع القوَّات المُسلحة داخل وخارج العاصمة.

    نشطت فكرة الانقلاب، واتخذت طوراً فعلياً وعملياً، في الشهور الأولى للعام 1989, ثمَّ ”دشَّنتها“ مُذكرة القوَّات المسلحة، التي قُدِّمت للقيادة السياسية في فبراير/شباط من نفس العام, فصعدت الفكرة إلى مرقى مُتقدِّم في الربع الأخير للفترة الديمقراطية.. ففي إطار تداعيات هذه المُذكرة، كان تقييم الجبهة الإسلامية لها أنها: ”عمل انقلابي“.. أو بالكاد، مُقدِّمة ”لمشروع انقلابي“.. وبالرغم من أن فكرة الانقلاب في ملامحها العامَّة، بدأت تظهرُ بمظهر المشروع المنافس والنقيض لـ”مُبادرة السلام“ (الميرغني- قرنق)، وبالرغم من أن المُبادرة نفسها، إن أقدم طرفاها -الحكومة والحركة الشعبية- على تنفيذها ”بمُعجزة“، فإن الجبهة الإسلامية لن تجد ما تعتاشُ به في خطابها السياسي والتعبوي، القائم على النقيض، بقرع طبول الحرب.

    إلا أنه، وفق ما أشرنا إليه في محور سابق، لم تكن أولوية التنظيم في قطع الطريق أمام ذلك الهدف، ولكنه جاء تالياً.. ويبدو أن ذلك ما رمى له الماسك بزمام الملف في حديث جاء بين السطور, وإن استجار فيه بذرائع فقه الضرورة، فقال: «على الصعيد العسكري، الانقلابيون الذين عملوا باسم ضباط المُذكِّرة، أو غيرهم من المدارس الانقلابية، هم الذين أنهوا النظامُ الديمقراطي التعدُّدي. وعلى الصعيد السياسي، كانت موافقة رئيس الوزراء صاحب الأغلبية البرلمانية على الامتثال لوجهة نظر بضعة ضباط, هُم ضباط المُذكِّرة التي تمثل انقلابا على الديمقراطية والشرعية والتعددية. ففي مناخ كهذا أعتبر نفسي فيه زعيماً للمُعارضة, وفى أي برلمان أعارض بعد أن تحوَّل البرلمان المُنتخب لجثة هامدة, ورث شئونه آخرون، لا تمثيل ولا وجود لهم في الجمعية التأسيسية؟ إن موقفي وموقف غيري من الذين وقفوا مع الإنقاذ وهُم من مختلف الأحزاب والتيارات والمدارس الفكرية, انطلق من حقائق ثابتة، تقول إن الانقلابيين اليساريين وبعض الذين لا يمكن أن يؤتمنوا على البلد في طريقهم لوأد النظام البرلماني التعددي».. عليه، وبغض النظر عن التبريرات، فقد كان هاجس الجبهة الإسلامية أخذ زمام المُبادرة، باستباق تنظيماتٍ سرية وعلنية، أخذت تتبارى لتنفيذ ذات الفكرة.. ولما كانت القوات المسلحة هي هدف أولئك جميعاً، فقد رأت الجبهة الإسلامية أن المُذكِّرة وفَّرَت فرصة يمكن استثمارها، كغطاء تأميني يزيد من معدَّلات نجاح الانقلاب.

    المُفارقة، أن د. حسن الترابي، الأمين العام ”للجبهة القومية الإسلامية“ لم يُظهر مُيولاً حماسية لتنفيذ فكرة انقلاب عسكري لإجهاض النظام الديمقراطي الأخير, إلاَّ في رحلة الشوط الأخير تلك.. ولم يكن ذلك زهداً في العمل الانقلابي نفسه، ولا حُباً في النظام الديمقراطي كمنهج سياسي، ولكن تلك هي إحدى طرائقه في المُمارسة السياسية، كما خبرها المُقرَّبون، ولهذا رغب –التفافاً- أن تأتي الفكرة من داخل المؤسَّسة التنظيمية, وهي هيئة مجلس شورى الجبهة الإسلامية (التناقض أن عملاً غير شرعي يبحثُ عن مؤسَّسية), والتي اجتمعت بكامل عضويتها (60 عضواً) عقب المُذكرة، لمُناقشة فكرة الانقلاب، نزولاً عند رغبة الأمين العام، الذي تظاهر وقتئذٍ بالوقوف على السياج.. وبعد طرحها وتداولها، أجاز المجلس الفكرة بشبه إجماع، ولم يعترض صراحة سوى د. الطيب زين العابدين، وتحفَّظ عليها السيد أحمد عبدالرحمن، ود. إبراهيم أحمد عمر، ويبدو أن تحفظهما كان من مُنطلق التشكك في نجاحها، سيَّما وأن الأول -وفق ما أوردنا في مشهد سابق- كان من أنصار انقلاب مُزدَوج بين الجبهة الإسلامية وحزب الأمَّة. وبعد إجازة الاقتراح، وجد د. الترابي نفسه أمام واقع لن يُجدي معه الحياد فتيلاً, ويُعتقدُ أيضاً أن توجُّسه لم يكن مُتعلقاً بالفكرة نفسها، بقدر ما كان مُتعلقاً بمُنفِّذيها من العسكريين, الذين لا يعلمُ عنهم شيئاً, وليست له صلة مُباشرة معهم, بل إنه لا يملكُ أي معلومات كافية عن أيٍ منهم.. فعلاقتهم المُباشرة كانت، وظلت محصورة مع نائبه، السيد علي عثمان محمد طه، كما ذكرنا.

    قرارُ إجازة الانقلاب من الهيئة, تبعته قراراتٌ أخرى, حيث أوكِل للأمين العام الإشراف على تنفيذ الفكرة, على أن يختار بحريَّة من يشاء لإنجازها, وبحيث لا يعلمُ أعضاؤها أسماءهم، أو مهامَّهم, ويقوم الأمين العام كذلك ”بتنويرهم“ كل ثلاثة أشهر.. وبدوره، قام د. الترابي باختيار ستة، هم السادة: علي عثمان محمد طه, ياسين عمر الإمام, إبراهيم السنوسي, علي الحاج, عبدالله حسن أحمد, عوض الجاز.. واستند الاختيار إلى أن الأوَّل هو المسؤول منذ البداية عن المِلف العسكري, بينما كان الأخير مسؤولاً عن التأمين والجهاز الأمني في التنظيم، منذ البداية أيضاً.. أما البقية، فقد انحصرت مهامهم في الاستقطاب، التعبئة، التمويه، التمويل، وتأسيس خلايا هرمية ولجان، وكذلك السيناريوهات السياسية والحملات الإعلامية, وتهيئة الأوساط الجماهيرية (مثل التظاهرات المُتواصلة ضد المُبادرة، بذريعة التخلِّي عن الشريعة والاستسلام ”لحركة التمرُّد“) ولعلَّ تفرُّعاتها معروفة في هذا الصدد.

    غير أن أخطر ما طرح في سيناريو التنفيذ، ما اقترحه أحدهم حول ”ضرورة تصفية القيادات الطائفية، وقياديين من الحزب الشيوعي“، الأمر الذي تباينت حوله آراء المجموعة بين مُؤيِّد (3)، ومُعترض (1)، ومُتحفِّظ (2)، فتداولوها مع د. الترابي، الذي رفضها تماماً.. وعوضاً عن ذلك، تمَّ التواصي والاتفاق على سيناريو ”عدم استخدام العنف إلاَّ في حالة مُبادرة الطرف الآخر“. أيضاً وضع المُخطِّطون نسبة كبيرة للفشل، بمعطيات الأمر الواقع نظرياً, مُستندين على أن القوى السياسية والنقابية ربما تلجأ إلى تفعيل ”ميثاق الدفاع عن الديمقراطية“, ممَّا سيضع الانقلابيين في محك صعب.. إضافة للحاجز النفسي، الذي يُحتملُ أن يقف حائلاً دون تقبُّل الشارع السُوداني لفكرة الانقلاب نفسها, خاصة أن مُمارسات الديكتاتورية الثانية لم تطمس آثارها بعد. وقد وجد السيناريو علاجاً لهذه الاحتمالات المُتوقعة, بالتراضي حول اتباع الأسلوب الفرانكوي، ”الصدمة الفجائية“, وذلك باستخدام ”العنف بمقدارٍ“ ترهيباً, و”الإغراء بإسراف“ ترغيباً, وهو المنهج الذي استمر لعدة سنوات بعد الانقلاب.

    على صعيد الترتيبات العسكريَّة، لم يكن الضبَّاط العسكريون الخمسة عشر, الذين أنيطت بهم مُهمَّة التنفيذ, من المُنتمين فعلياً لتنظيم الجبهة الإسلامية، سوى ستة منهم، وثلاثة ذوي توجهات إسلامية خاصة، والبقيَّة لا من هؤلاء ولا أولئك.. وكلتا المجموعتين، أُلحقت بالفكرة إلحاقاً.. بعضهم قبل التنفيذ بأيام معدودات، وهم لا يعلمون من أمرها نصباً, كما أن الستة المُنضوين تحت لواء التنظيم فعلياً, لم يكن بينهم واحدٌ في الهيكل التنظيمي للجبهة الإسلامية, ويشارُ إليهم جميعاً بـ”التنظيم العسكري السري“, وبأسماءٍ ”كودية“.. لهذا، فقد ارتأى المسؤول عن الملف إدخال عُنصر المال، لأول مرة في تاريخ الانقلابات العسكرية في السُودان, باقتراحٍ وافقت عليه المجموعة, وبموجبه تمَّ تسليم كل منهم مبلغ ستة ملايين جنيه سُوداني، نقداً وعينياً, تحوطاً لتأمين أُسرهِم من غوائل الدهر، في حال فشل الانقلاب، وتعرُّضهم لمُحاكماتٍ قد تصل حدَّ الإعدام. ولعل شراء الذِمَم هذا قد شكل ضمانة في قطع دابر الثرثرة، التي طالما كشفت أسرار معظم الانقلابات العسكريَّة في السُودان.

    استلزمت نواحٍ إجرائية تعديل قيادة التنظيم العسكري السرِّي، بإحلال العميد عمر حسن أحمد البشير بدلاً من العميد عثمان أحمد حسن, وذلك نسبة لتردُّد الأخير دوماً، بدعوى ”عدم الجاهزيَّة“.. أما الأول، فإضافة إلى حماسه واندفاعه المعروفين، وعُضويته المُبكرة في التنظيم, ورُتبته العسكريَّة الكبيرة، فإن اختياره تمَّ وفق ما يُسمَّى بـ”التقييم الذاتي“ في الأجندة التنظيمية للجبهة الإسلامية في اختيار القيادة، وهو يختصُّ بتقييم مَلَكَات وصِفات وسُلوك الشخص المعني, وأهمَّ ما فيه، افتراضه عدم خضوع المَعنِي بالاختبار للعاطفة ”في حال وجد نفسه في موقفٍ ينشأ عند التنفيذ، أو بعده، في أي إجراء يتطلَّب توطيد أركان السُلطة في أوقات الشدَّة والأزمات“.. وقد تطابقت ”الظروف الاجتماعية الخاصة“ للعميد البشير في التقييم مع تلك الفرضيَّة، والتي تماثل إلى حدٍ ما ذات ”الظروف“ التي كانت مُحيطة بتكوين الرئيس المخلوع جعفر نميري, ويعتقد بأنها تحكمت في تصرُّفاته، ومُمارساته في الحكم.. ويُذكرُ أن منهج التقييم المذكور, يتم إجراؤه بصورة سريَّة، دون علم الشخص المعني, ويظلُّ كذلك.. وربَّما يعلمه لاحقاً، بطريق غير مباشر، أو لا يعلمه على الإطلاق.

    أرسل السيد على عثمان طه -المسؤول عن المِلف- أحد كوادر الحركة الإسلامية، ”علي سليمان“، إلى العميد عمر حسن أحمد البشير، في قيادته بمنطقة المُجلد، جنوب كردفان.. وحضرا معاُ وِفقَ توجيهاته, وأقاما لبعض الوقت في مدينة الأُبيِّض, في منزل مسؤول الحركة الإسلامية ”علي النخيلة“، ومن ثمَّ اتجها نحو الخرطوم.. وكان أول عملٍ قام به العميد البشير، بعد وصوله, تسجيل البيان الأول للانقلاب في استوديوهات ”مُنظمة الدعوة الإسلامية“، وبإشراف فني من مسئول الاعلام فيها”عوض جادين“ وآخرين.. وبعد الاطمئنان على اكتمال كل الترتيبات، حدَّدت المجموعة ساعة الصفر لتنفيذ الانقلاب في الثانية بعد منتصف ليلة الخميس 22/6/1989.

    غير أن حدثاً مفاجئاً أربك الخُطة لبعض الوقت, إذ تمَّ في صبيحة الأحد 18/6/1989 اعتقال عدد من قادة وحدات عسكريَّة في العاصمة، على رأسهم العميد أحمد فضل الله، بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري, وهو الحدثُ الذي أشرنا له بتفاصيل في المشهد السابق, وقلنا إنه كان ينبغي أن يكون حافزاً للقيادة السياسيَّة والعسكريَّة لاتخاذ المزيد من التأمين والإجراءات التحوطيَّة, واعتبره كثيرٌ من المُحللين السياسيِّين انقلاباً تمويهياً، للتغطية على الانقلاب الحقيقي, ولم يكن في واقع الأمر كذلك, فقد فوجئت به مجموعة الستة، وسابعهم د. الترابي, وكان الشيء الوحيد المربك -بالنسبة لهم- هو أن الاعتقالات شملت عدداً من كوادر التنظيم السرِّي، المُناط بها تنفيذ الانقلاب الحقيقي, فاستلزمت الخطة تغييراً طفيفاً!! كان المُدهشُ فيها تأجيل ساعة الصفر، لتكون بعد أسبوع واحد فقط من الموعد الأول, الأمر الذي اعتبره البعض أيضاً استهانة بالإجراءات الأمنية, لكن المجموعة استندت إلى عدَّة أسباب, أهمُّها خشيتها من ترهُّل الخطة، وسيناريوهاتها المتعدِّدة، والتي وُضِعَت بإحكامٍ، وقطعت شوطاً بعيداً.. كذلك للاستفادة من انشغال الأجهزة الاستخباراتية العسكرية, والقيادتين السياسية والعسكرية أيضاً بالتحقيقات حول المُحاولة المذكورة.. علاوة على أن رئيس الانقلاب نفسه كان مُقدَّراً له أن يُغادر السودان في الأول من يوليو/تموز، لحضور دورة في أكاديمية ناصر العسكرية بمصر لمدة عام, وجيء به من حاميته بغرض إكمال إجراءات استلام أمر تحرُّكه.. ولذا، فإن تأجيله لفترة طويلة قد يُلفت الأنظار لشيء ما.. المُفارقة، أنه حتى ذاك الوقت لم يحدُث أن التقاه د. الترابي, الذي كان لا يعرفه سوى اسماً، وكذا بقية المجموعة، باستثناء السيد علي عثمان طه.

    ضمن إطار سيناريوهات الانقلاب, قرَّرت مجموعة الستة المُشرفة, من باب التمويه ودرءاً للشبهات، أن تشمل الاعتقالات د. الترابي وآخرين، منهم: إبراهيم السنوسي وياسين عمر الإمام، واستثنت علي عثمان طه وعوض الجاز، وطلب من عبدالله حسن أحمد الاختفاء مؤقتاً, ووُجِّه د.علي الحاج بالسفر للخارج, فتجوَّل بين العواصم لأكثر من خمسة أشهر, حتى بعد نجاح الانقلاب!! وتمَّ التأكيد لدكتور الترابي بأن اعتقاله مع الآخرين لن يدوم لأكثر من شهر، على أسوأ الفروض.. ويبدو أن الفكرة قد راقت له, وصادفت هوىً في نفسه, فهي في وجهها الآخر تجعله بمنأى - في حال الفشل- عن فعلٍ بغير المُخاطرة، فهو لا يدفع أي سياسي للافتخار أو التباهي, لا سيَّما وقد عُرف عن د. الترابي أنه من جنس السياسيِّين الميكافيليين والدُهاة, الذين لا يتورَّعون عن بناء مجدٍ شخصي على أنقاض الآخرين. ومع كل ذلك، لم تحقق فكرة التمويه أغراضها المرسومة، وفق ما خططت المجموعة.

    في الشوط الثاني من السيناريو، وبعد أن وضعت مجموعة علي عثمان طه الترتيبات النهائية، بتغيُّراتها الطفيفة التي تضمَّنت ساعة الصفر البديلة, عرض الأمر برمَّته على د. الترابي، الذي طلب أن يُحضِروا له الضابط الذي وقع عليه الاختيار ليكون قائداً للانقلاب, فجيء إليه بالعميد عمر حسن البشير قبل يومٍ واحد من التاريخ المُحدَّد، أي في 29/6/1989, وفي ذاك اللقاء، الذي كان قصيراً, فوجئ الأخيرُ بالأوَّل يضعُ المُصحف بين يديه, علماً بأنه أدَّى القسم سلفاً, لكن الترابي طلب منه في المرة الثانية أن يُقسِم ”بألاَّ ينفرد بالسُلطة مُستقبلاً في حال نجح الانقلاب, وتوطدت أركان السُلطة الجديدة“.. لم يكن المذكورُ في وضعٍ يسمحُ له بأن يفكر مليَّاً فيما قاله ”الشيخ الدكتور“, ربَّما ليُبعِد أي شكوك أو هواجس قد تنعكس سلباً على علاقة مازالت تحبو, أو ربَّما كان في عجلةٍ من أمره، لمعانقة مَجد شخصي!! وأياً كان التفسيرُ، فالمُهم أنه أقسم دون تردُّدٍ، ودون تعقيب.. ولم يكن فيما تبقى من حديثٍ غير دعم القسم, بالتأكيد على ما يُطمئِنُ في توجهاته الإسلامية على المستوى الخاص, وزاد عليها بإلحاق غالبية الأسرة على المُستوى العام.. والمُفارقة، أن المُزايدة في التوجُّهات، لم تمنع تكرار القسم، وبذات المشهد، على مدى فترات التوتر في العلاقة بينهُما, وحتى قبيل ما سُمِّي بـ”المُفاصلة“ التي شقَّت صف الحركة الإسلامية، بعد عقدٍ كامل من نجاح الانقلاب.

    لم يكن السيد علي عثمان طه نجماً ساطعاً في الحركة الإسلامية، بالنظر إلى آخرين قضوا جُلَّ عُمرهم فيها، منذ بواكير تأسيسها, وإن كانوا جميعاً مِمَّن يدينون بولاء كبير للترابي، وزعامته للكيان، ذلك باستثناء الجناح المُنقسِم عن الحركة، بزعامة صادق عبدالله عبدالماجد وآخرين، تمرَّدوا على قيادته، بذريعة الاختلاف معه حول بعض أفكاره الجدلية، وليس من بينهم من يُمكن أن يُنازعه تلك الزعامة التي تبوأها بملكاته الخاصَّة, وقد تمَّ ترفيعُ علي عثمان طه في المؤتمر الثاني، بمساندة حقيقية من الترابي نفسه، ليُصبح نائباً له.. وبالتالي، فقد كان يتمتَّع بثقته المُفرطة، التي كرَّست الانطباع بأنه وريثه في زعامة الحركة الإسلامية أيضاً. وللسيد علي عثمان طه قدرات ومُميِّزات خاصة أيضاً, سيَّما في العمل خلف الكواليس، وسياسة التخفي, بمثال دوره.. فبالرغم من أنه لعب دوراً محورياً في تخطيط وتنفيذ فكرة الانقلاب، كما أوردنا, إلاَّ أنه ظلَّ في حالة نفي مُستمر، حتى في الوقائع التي صنعها بيده: «لم أُعتقل بالرغم من كوني كنتُ مطلوباً القبض عليّ في قائمة السياسيِّين الآخرين, ولكن الجنود أخطأوا عنوان بيتي, ممَّا منحني فرصة الاتصال بمجموعتي التي قيَّمت الموقف تجاه الطلاَّب, ثم طوَّرته من خلال القطاع الطلابي، والذي تسيطر الجبهة الإسلامية على اتحاداته, حيث قامت اللجنة التنفيذية لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم بنقل مُساندتها وتأييدها للانقلاب العسكري للفريق البشير».

    واقعُ الأمر، رغم أسلوب المراوغة الذي اتَّبعته الطغمة الحاكمة في إخفاء هُويَّة الانقلاب السياسية والأيديولوجية, إلاَّ أن الاتهام ظل محورياً في الداخل والخارج, وبالتالي كان ثابتاً في كل الحوارات التي أجراها الصحفيون العرب والأجانب مع قادة الانقلاب.. لم يتردَّد في طرحه حتى الذين شاركوهم ذات الانتماء الأيديولوجي, مثل الكاتب المصري الإسلامي فهمي هويدي، الذي جاء إلى الخرطوم في زيارة طابعها البحث والتأكد, فطرح السؤال على الفريق عمر البشير، وكالعهد به، كانت إجابته غريبة ومدهشة معا: «الذين يعارضوننا لم يجدوا شيئاً يتهموننا به، سوى مسألة الانتماء للجبهة الإسلاميَّة, وسيظلُّ هذا السيفُ مُشهراً حتى يجدوا شيئاً آخر يأخذونه علينا.. فيلاحقوننا به.. ونحن نفهم دوافع المُلحِّين على مسألة العلاقة بالجبهة, فهم يُريدون حصارنا وعزلنا سياسياً وإعلامياً في الداخل، بوضع الثورة في حدود ذلك المجرى الضيِّق». وبمثل هذا الخطاب المُتلجلِج، سار حتى الذين قلنا إنهم أُلحِقوا بالفكرة إلحاقاً، وهم لا يعون من أسرارها شيئاً: «هذا هراءٌ تجاوزناه، لأننا ثورة قامت لاستقطاب جميع الفعاليات, والدعوة التي وجَّهناها للدكتور الترابي للمشاركة، هي نفسها الدعوة التي وجَّهناها إلى جون قرنق ومحمد عثمان الميرغني والصادق المهدي». لم يكن من السهل على الحاكمين الجُدُد الاستمرار طويلاً في سياسة إنكار هويَّة الانقلاب, وذلك بالنظر إلى الواقع الذي كانت مُجرياته تؤكد بوضوح أيلولة الوضع بالكامل للجبهة الإسلامية.

    قبل أن يطوي العام الأوَّل أوراقه, بدأت السلطة بإزاحة القناع تدريجياً, بالإيحاء أولاً بأن الجبهة الإسلامية تعملُ لتأييد الانقلاب، وبأنه ليس من صنعها، فقبَيل الاحتفال بالذكرى الأولى للانقلاب، صدر تقريرٌ تقييمي سرِّي, تمَّ توزيعه في نطاقٍ ضيِّق للمُوالين, وكان بعنوان: ”السودان, حقائق ووثائق“، جاء فيه: «إن تأييد الجبهة الإسلاميَّة للنظام في ظلِّ مُعاداة القوى الأخرى له يؤدي إلى مزيد من التلاحم، ولو من باب المصير المشترك, وستسعى الجبهة لتنمية علاقتها مع النظام كل يوم جديد, بنفس الكفاءة السابقة مع نظام نميري، إن لم يكن بتجويدٍ أكثر».. ومضى التقرير في الكشف الفاضح: «إن ثراء فقه الجبهة في مجال التعاون مع النظم العسكرية هو المدخلُ لفهم العلاقة بين الجبهة والثورة, فإذا كان كل حزب له كامل الحرية في تحمل نتائج سلوكه السياسي, فمن باب أولى أن تسلك الجبهة ما تشاء, فقط أن لا تبني مواقفها على مواقف أحزاب أخرى».

    إن إزاحة القناع تدريجياً كانت قد أملتها ظروف نأي جميع القوى السياسية عن المشاركة، أو التأييد.. إضافة إلى اتخاذ غالبيَّة الجماهير موقفاً حيادياً أقرب إلى السلبيَّة, كما أنها جاءت في إطار تحوُّل كلي، أزمعت السلطة الجديدة عليه, بغية عدم إتاحة الفرصة في أن تتحوَّل تلك المُقاطعة إلى فعل إيجابي، مُتمرِّد عليها, فقد جُوبهت حينذاك بأوَّل إضراب نفَّذته ”نقابة الأطباء“، في 26/11/1989, الأمر الذي دعاها إلى تنزيل المنهج القمعي، أو ”الصدمة الفجائية“ ترهيباً لكلِّ من تسوِّلُ له نفسه مُعارضتها, فأصدروا حكماً بالإعدام على نقيب الأطباء، د. مأمون محمد حسين, وحكماً بالسجن لمدة 15 عاماً على د. سيد محمد عبدالله بتاريخ 10/12/1989، في اليوم الذي يُصادف الاحتفال بذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, وفى ذلك حكمة!! ثم تواصل مُسلسَلُ العنف الدموي بإعدام [28] ضابطاً في شهر رمضان، وعشيَّة عيد الفطر, وتلك حكمة أخرى!! وابتدعت السُلطة ظاهرة المُعتقلات السريَّة التي سُمِّيت من فرط ما يجري في داخلها بـ”بيوت الأشباح“, مارست فيها شتى صنوف التعذيب على المُعارضين, حدَّ التورُّط في جرائم جنائيَّة مُتعدِّدة, على يد عصبة تخصَّصت في ذلك, وبإشرافٍ مُباشر من د. عوض الجاز، د. نافع علي نافع واللواء بكري حسن صالح.. كذلك شرعت السلطة في تصفية جهازي الخدمة المدنية والمؤسَّسة العسكرية، وبقية القوَّات النظامية (الشرطة، السجون، حرس الصيد وضباط الجمارك) بقوائم فصلٍ تعسفي مُتتالية، سُمِّيت بالإحالة للتقاعد ”للصالح العام“, وإحلال كوادرها، وآخرين ذوي انتماءاتٍ هشة، بغرض استمالتهم.

    كانت هذه الإجراءات الترهيبية قد خلقت ”علاقة عصبية“, بين السُلطة الجديدة والمُواطنين, تواصل ليلها بنهارها، في ظلِّ القوانين المقيِّدة للحريَّات, ودبَّابات وعربات مجهزة شاهرة فوَّهات مدافعها، ومُرابطة -حتى يومنا هذا- في المواقع الإستراتيجية.. أيقنت السلطة أن القمع هو الوسيلة الوحيدة التي يُمكن أن توطِّد أركان حُكمها, فاستمرَّت فيه على مدى الأيام, لم يمل فيها الجلاَّد أنين الضحيَّة.

    بعد يوم مُضنٍ أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 1989، جاء العميد ”فيصل مدني مُختار“ إلى منزله مساءً، وقبل أن يستجم قليلاً، جاءه ”الرائد إبراهيم شمس الدين“، و”العقيد الطيب إبراهيم“ (الشهير بـ”سيخة“)، وألحَّا عليه بالخروج معهُما، فطافا به على بعض نقاط التفتيش، وكذلك على المواقع التي خصِّصت كمُعتقلات، وانتهى بهم الطِوافُ إلى منزل في الرياض، فتِحَت لهم بوَّابته بعد إشارات معيَّنة، ”نورُ السيَّارة وجهازُ التنبيه“، وصعدوا إلى صالونٍ في الطابق الثاني.. وبعد فترة قصيرة، دخل عليهم السيد علي عثمان طه ود. عوض الجاز، وكانت هذه هي المرَّة الأولى التي يرى فيها العميد فيصل المذكورين.. ودار حديثٌ مقتضبٌ حول حُدود علاقة التنظيم بالانقلاب، أهمُّ ما فيه ما قاله الأول للأخير، فيما يشبه التوجيهات: «يا أخ فيصل، طبعاً الانقلاب ده نحن عملناه، وبالتالي نحن بنساعدكم بعمل قرارات وإجراءات، وما عليكم إلا التنفيذ فقط». وفي صباح اليوم التالي، قابل المعني بالحديث العميد عثمان أحمد حسن، والعقيد فيصل أبوصالح، وسرد لهم فحوى ما دار في لقاء الأمس، فقال له الثاني إن نفس هذه القصَّة تكرَّرت معه، واستغرب الأول الرواية، أو هكذا ادَّعى, لأنه لا يستطيع أن يقول بأنه كان من المُفترض أن يكون قائد الانقلاب نفسه، فذهب ثلاثتهم للعميد عمر البشير، الذي أنكر من جانبه خُضوع المجلس العسكري لأي تأثيراتٍ خارجية. واتضح أن السيناريو برمته كان مُرتباً, فقد جرى مع آخرين أيضاً.

    تزامناً مع تلك الإجراءات، بدأت الروايات تتواترُ عن وجود ”مجلسٌ أربعيني“ يُديرُ شُئون الحكم من وراء ستار, وأخذت الروايات طابعاً أسطورياً, قامت السُلطة نفسها بتغذيتها على النهج الماسوني, في الوقت الذي لم يكن فيه هناك مجلسٌ أربعيني بعينِه, وكان ذلك عبارة عن ”المنظومة داخل النظام“، وهي المجموعة التي يقفُ على رأسها السيد علي عثمان طه, وتوسَّعت بعد نجاح الانقلاب، بالاعتماد على كوادر مُدرَّبة, كوَّنت أجهزة أمنيَّة ومهنيَّة مُتعدِّدة، لإحكام القبضة على مفاصل المُجتمع, وإخضاعه بالعنف والقهر والترويع، وفق المنهج المذكور من قبل.. وفي هذا الصدد، غذَّت السُلطة أيضاً روايات أخرى، مثل مخابئ سريَّة لأسلحة مُخزَّنة في الأحياء، تحسُّباً لساعة مُواجهة, وإن كانت الظاهرة حقيقية، لكن كان تضخيمها بغرض التخويف والترهيب.

    في أوائل ديسمبر/كانون الأول 1989، ظلَّت سيِّدة مُرابطة في منزل العميد فيصل مدني، ورفضت أن تغادره ما لم تره، وعند وصوله في وقتٍ متأخر من المساء، قالت له السيدة إنها خالة شاب اسمه ”مجدي محجوب محمد أحمد“، ورَوَت له حكاية اعتقاله ومحاكمته: «...وأنهم قالوا حيعدموه».. وأضافت أنها قصدته، لأنهم أخبروها: «...بأنك رجل طيب و”ود ناس“».. فحاول العميد فيصل الاتصال بعدَّة أرقام لزملائه في المجلس العسكري، ولم يوفَّق.. غادر منزله إلى ضاحية الرياض, وقصد المنزل الذي سبق أن ذهب إليه مرَّة واحدة، واتَّبع نفس الطريقة، الإشارات وجهاز التنبيه، ففتِحت له البوَّابة.. اتضح لاحقاً أن هذا المنزل هو مقرُّ منظمة الدعوة الإسلامية.. وجد هناك اللواء الزبير محمد صالح ود. عوض الجاز، فأخبرهم بسبب مجيئه.. وبينما صمت الثاني، قال الأول: «يا فيصل يا أخي، الناس ديل مُساندِننا، ومشاكل البلد دي تقيلة، وفهَّمونا إنو قصَّة الاقتصاد دي ما بتتحلَّ إلا يكون في إجراءات عنيفة، كان إعدام ولا غيره»، وصمت.. ثمَّ قال الثاني بعدها، وباختصارٍ شديد: «الموضوع البتتكلَّم عنه ده انتهى بدري»!! وخرج المذكور لا يلوي على شيء .

    كان لهذه الإجراءات وغيرها وجه آخر غير مرئي، في إطار النظام نفسه، و”المنظومة“ التي بداخله.. فالترابي ظلَّ في سجن كوبر، ضمن المُعتقلين الآخرين، لفترة ناهزت الستة أشهر, تحجَّج له خلالها المُخططون والمُنفذون, بأن إطالة بقائه لمزيدٍ من التمويه، غير عابئين بالروايات التي أجهضت منذ اليوم الأول السيناريو المزعوم.. أما ”المنظومة“ التي يقف على رأسها السيد علي عثمان طه, التي تغيَّرت وجوهاً ومهام, فبعد أن نجح سيناريو الانقلاب, أخذت زعيمُها العزَّة بالإثم، فتمدَّدت آماله وطموحاته وأحلامه, وراودته النفسُ الأمَّارة في زعامة التنظيم والنظام, والتي لن تتأتَّى إلاَّ بعملٍ دؤوب خلف الكواليس، يُزيحُ به الترابي عن موقعه.. وقد رسموا له دوراً أبوياً، بُغية أن يُمارس دور ”المُرشد“، كما في الثورة الإيرانية, فعمل الزعيم جاهداً مع الفئة التي اصطفاها، على ترتيب شئون النظام الجديد، في غضون الفترة التي قضاها المذكور في سجن كوبر, وهو لا يدري أن ما كان يجري خارج الأسوار، قطع شوطاً طويلاً, أصبح فيه ”النائبُ“ فاعلاً، و”الفاعلُ“ فعلاً مبنياً على المجهول!!

    بعد قضائه شهور ”العدَّة السياسيَّة“ في سجن كوبر, خرج الترابي، وبدأ يلمسُ ابتعاد شئون الدولة الجديدة بعيداً عن شواطئه.. فتعمَّقت شكوكه وهواجسه تجاه العسكريِّين, فقام في العام 1992 بحلِّ المجلس العسكري, ظناً منه أن ذلك سيقطعُ دابر الفتنة.. ومرة أخرى، لم تمتد ظنونه لأبعد من ذلك, ولأنه -”بعناده“ المعروف- أراد أن يكون المُتحكِّم الوحيد, في وسطٍ ذاقَ فيه الأخيرون طعم السُلطة.. كان من الطبيعي، أن ينشأ توتر دائم, ورغم أن صراعاً في طوره الجنيني بدأ يتبلور - دون حدَّة أو ضجة- وراء الكواليس، إلاَّ أن الطرفين استطاعا إخفاءه لبعض الوقت.

    صاحَبَ ذلك دخولُ حدثين مُهمَّين, أربكا سياسة التخفي، وسارعا في كشف قناع السُلطة نهائياً، على المستويين الداخلي والخارجي, وانعكسا من جهة أخرى على صِراع الكواليس, وفيه تسنَّى للترابي الإمساك بخيوط السلطة، وإعادتها إلى حياضه.
    • الأول: عندما حدث الغزوُ العراقي لدولة الكويت، في أغسطس/آب 1990, اتخذت الطغمة الحاكمة في السودان قرارها بالانحياز للدولة الغازية, وكان ذلك تنفيذاً لقرارٍ من التنظيم الدولي للحركة الإسلامية, وللترابي فيه نفوذ ودور مؤثر. وكما هو معروف، فقد بنى التنظيم حساباته, ليس حباً في نظام صدَّام حسين، وإنما استند إلى تقديرات إرث القوميَّة العربيَّة، التي عَصَفَ بها الغزو, فتدافعوا نحو بغداد، وأعلنوا تأييداً مُطلقاً للنظام العراقي، في السرِّ والعلن, وهم يعلمون أنه يخوضُ معركة خاسرة.. وشرعوا في تعبئة المُواطنين في العواصم العربية والإسلامية، بتظاهراتٍ مُتصلة، وبشعارات إسلامية، أقنعوا النظام العراقي سلفا بتبنِّيها, مُوقنين بأن تلك التعبئة التي قدحوا زنادها، ستحقق لهم وجوداً بين الجماهير من المحيط إلى الخليج.. وفى ذلك، زايدت الطغمة الحاكمة في الخرطوم, برسالة فحواها أن نموذج الدولة الإسلامية المُرتجى قد وَضَعَ لبناته في السُودان.

    نتيجة لكل ذلك, حدثت القطيعة الكاملة بين النظام والحكومة المصريَّة, أكثر الأطراف التي كانت مُؤيِّدة وداعمة له، منذ لحظة استيلائه على السلطة, وأصبحت الدولة المصرية فيما بعد أُولى ساحاته في تطبيق إستراتيجية ”تصدير الثورة الأصولية“. كذلك أورَث الانحياز إلى جانب العراق السلطة مقاطعة إقليمية ودولية شبه كاملتين, وانعكست بصورة أساسيَّة في المجال الاقتصادي, لكن الترابي -من خلال الرسالة الموجَّهة للتنظيم الدولي- عَمِلَ على سدِّ الفجوة الاقتصادية, ونجح في استدرار دعمه, واستقطاب كوادر إسلامية للاستثمار في السُودان. ثم خطا الترابي خطوة أخرى، بتوسيع قاعدة التنظيم العالمي من خلال فكرة ما أسماه بـ”المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي“, وجمع شتاتاً مُبعثراً في أرجاء الدنيا، لتأسيس الكيان الجديد, واجتمعوا في الخرطوم في أبريل/نيسان 1991، وانتخبوه أميناً عاماً.

    في إطار صراع الكواليس، هدف الترابي من وراء كل ذلك، إلى تأكيد زعامته للحاكمين بأنه ”المُخلِّص“ الذي يُمكنُ الاعتماد عليه في المُلمَّات, ونظراً لأن الآخرين لا تتعدَّى علاقاتهم الحُدود الجغرافية للسُودان, فقد اختار ميداناً لا يستطيع أي أحدٍ مِمَّن يُمكنُ أن تسوِّل له نفسه منازعته الزعامة, منافسته فيه.. وبعد اختياره أميناً عاماً للتنظيم الجديد, أراد الترابي تسجيل نقطة إضافية تعزِّز وجوده، على مستوى السلطة، ومستوى التنظيم, فاختار ميداناً آخر، كان يُمثل مُعضلة حقيقية للحركة الإسلامية العالمية, فاختار أفغانستان، لأن المُتعاركين فيها ”إخوة برباط العقيدة“, فغادرَ إلى بيشاور منتصف يوليو/تموز1991، للتوسُّط بين ”المجاهدين“ الأفغان, وإيقاف بحور الدم المُنهمرة من كل الأطراف.. وفي هذه الزيارة، التقى للمرة الأولى أسامة بن لادن، وآخرين من المتطرِّفين الإسلاميين, ودعاهم لزيارة السودان ”ضيوفاً مُقيمين“, وقد لاقت الدعوة هوىً في نفوسهم، فلبُّوها مُهْطِعين.

    كذلك استخدم الترابي علاقاته في تأسيس علاقة خاصة وداعمة، بين طهران والخرطوم.. وقبل أن يطوي العام آخر أيامه، كان الرئيسُ الإيراني هاشمي رافسنجاني قد حلَّ زائراً السُودان في 13/12/1991، على رأس وفد ضخم، مُكوَّن من 157 شخصاً بينهم أكثر من 80 ضابطاً في الجيش والاستخبارات, قضوا ثلاثة أيام في الخرطوم, وتوطدت العلاقة بمشاريع مُختلفة ومُتعدِّدة، بعضها أثار جدلاً.. وكانت تلك الزيارة مدعاة للمُجتمع الدولي بوضع العلاقة في عين العاصفة, حتى أصبح التحلحُل منها صعباً ومكلِّفاً فيما بعد.

    • ثانياً: أما التطوُّر الثاني، الذي استمر الترابي خلاله في إرسال إشاراته لزمرة الكواليس, فقد تمثل في التحوُّلات الدراماتيكية التي حدثت في منطقة القرن الأفريقي، مُستهل العام 1991, إذ انهار نظام سِياد برِّي في الصومال في فبراير/شباط1991, الأمر الذي أغرى التنظيم الجديد، ”المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي“، الذي يقفُ على رأسِه الترابي، بدخول ”المستنقع“ الصُومالي، بغرض تصدير الأصوليَّة الدينيَّة, مُستنداً إلى مُكوِّنات المُجتمع الصومالي في توافر العناصر الروحيَّة العقائدية.. وهو القطر العربي الأفريقي الوحيد الذي يدينُ جميع سكَّانه بالإسلام، على هدى مذهبٍ واحد، هو المذهبُ الشافعي.. كذلك انهار نظام مَنغِستو هيلاماريام في إثيوبيا في مايو/أيار1991, حيث تتوافرُ ذات العناصر، وإن بدرجة نسبيَّة، إذ يُقدَّر عدد المُسلمين فيها بأكثر من 65% من جملة السكان، الذين يناهزون الستين مليوناً, إلاَّ أن الإحصاء الرسمي يُقلِّلُ من تلك النسبة.. ثم برزت أيضاً إريتريا كدولة وليدة في المنطقة، بعد تحرُّرِها من إثيوبيا في مايو/أيار 1991، وكذا تشيرُ الإحصاءات الرسمية فيها إلى أن شُعُوبها تتناصفُ الإسلام والمسيحيَّة. ومِمَّا يجدُر ذِكرُه، أن الجبهة الإسلامية، وتحديداً زعيمها الترابي، كانت له علاقاتٌ وطيدة ومُبكِّرة مع قادة النظامين الجديدين ”الجبهة الديمقراطية لشعوب إثيوبيا“ في أديس أبابا، و”الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا“ في أسمرا, وذلك أثناء حقبة الديمقراطية الثالثة في السُودان, وقد أسقطت تلك العلاقة الخلفيَّة الماركسية للجبهتين معاً, وتوطدت أكثر بعد استلام الجبهة الإسلامية مقاليد السُلطة, وقبيل وصول الجبهتين لسُدة الحكم, وذلك من خلال تقديم دعم عسكري ولوجستي لهُما، كان له أثره الفاعل في المساعدة على سُقوط نظام مَنغِستو.. ومن جهة أخرى، كانت التحوُّلات في إثيوبيا قد أصابت الحركة الشعبية لتحرير السودان في مقتل, وتغيَّرت تبعاً لذلك استراتيجية النظام نحو جنوب السُودان, من ”مزاج“ التهيؤ والاستعداد، والعمل على فصله, إلى كيانٍ يُمكن إخضاعه - تبعا لتلك التحوُّلات- بالقوة العسكريَّة, وأسلمَته ليُصبِح جسراً أمام التمدُّد الأصولي نحو قلب القارة الأفريقيَّة. وعموماً، نظر التنظيمُ الجديد لكل تلك التحوُّلات باعتبارها ساحة للتحرُّك في أوساط نحو خمسين مليون مُسلم في منطقة القرن الأفريقي, ولم يستصعب الغاية, حتى وإن طال السفر.

    مضى الترابي في توجيه رسائله المُباشرة وغير المُباشرة لعدّة أطراف, أهمُّها جماعة ”صراع الكواليس“.. واختار في الخطوة التالية هدفاً توخى فيه تأكيد ”عالَميَّته“, فذهب إلى واشنطن لمُحاورة القطب الذي أصبح متسيِّداً الشأن الدولي، فيما سُمِّي بـ”النظام العالمي الجديد“.. أعدَّ له مجلس النوَّاب الأمريكي ”الكونجرس“ جلسة استماع في مايو/أيار 1992 لمُحاورته, ورغم الاتهامات التي انهالت عليه، وكانت دفوعاته حولها ضعيفة, إلاَّ أن الترابي، بميكافيليته المعهودة، كان سعيداً بالمُناسبة، والتي كانت بزعمه - وفق وقائع محضر الجلسة- رسالة لمن يهُمُّه الأمر. ويذكر أن الادارة الامريكية كانت قلقة بشأن علاقة النظام بدوائر ارهابيه, لكنها لا تملك دليلاً كافياً, وفق ما أكده سفيرها حينذاك في الخرطوم «الحكومة السودانية كانت تنكر علاقتها بالارهاب, وكنت أردد أن واشنطن لديها أدلة, وسئلت عن أدلة للأسف لم تملكني واشنطن معلومة أستطيع أن أطلق بها يدي وأضغط على الحكومة, مع أنني كنت على يقين بأن هناك علاقة مع بعض الاطراف في الحكومة ومنظمات, مثل حماس وحزب الله والجماعة الاسلامية وحركة الجهاد الاسلامية لتحرير فلسطين».

    لم يكن ختامُ تلك الزيارة مِسكاً بالنسبة له, إذ تعرَّض لاعتداء من مُواطن سُوداني مُقيم في كندا ”هاشم بدرالدين“, وبمنطق الغرائز الإنسانية، لم يكن غريباً أن يستدعي الحادث شماتة بعض المُعارضين.. إلاَّ أن الغريب في الأمر حقاً أن بعض جماعة ”المنظومة“ رأت أن الأقدار وفَّرت لها فرصة في استثمار مأساويَّة الحدث، وتجييره لمصالحها, وذلك بالاستمرار في ترتيب شئون الحكم، إبان الفترة التي قضاها مُستشفياً.. ولاحقاً، زلَّ لسانُ أحدهم، وأفصح عن تلك المشاعر السالبة، بالتشكيك في قواهُ العقلية.

    خلال هذا وذاك, كان الصراعُ -أو الترابي نفسه- قد دفع السُلطة للكشف تماماً عن وجهها الثيوقراطي, وشرعت في تطبيق برنامج الجبهة الإسلاميَّة، وتنزيله على أرض الواقع, باستخدام الشعارات البرَّاقة، دون مضمونٍ حقيقي, واستعمال الخطاب الديني بكثافة, وتفسير غير المألوف للناس في مناحي حيواتهم المُختلفة.. بفقه الضرورة حيناً, وبشيء من الديماجوجية أحياناً أُخَر.. وفي هذا الصدد، فقد أدهش الفريق عمر البشير زميلة صحفية، سألته عن ظاهرة حظر التجوُّل التي امتدَّت لأكثر من ثلاث سنوات من عمر النظام، فقال لها:
    = حظر التجول رغبة مفروضة علينا من الشعب, فقد وجد الشعب الاستقرار الأسري فيه, فالأبناء والأزواج يعودون إلى بيوتهم باكراً، وعندما جئنا إلى الحكم، كان هناك فراغٌ أمني في الخرطوم, نلاحظ كيف كان الناس يضعون السلك الشائك حول بيوتهم، لحماية أنفسهم من زوَّار الليل ”الحرامية“، وحظر التجوُّل جعل الناس مُطمئنين، ينامون الليل إلى الصبح، بلا إزعاج الحرامية.
    • هل تتكلم بجدية سيادة الرئيس؟
    = أنا أتكلم جدي, وأنا أطلب منك أن تأتي إلى السودان وتتجولي في الشارع السُوداني لاستفتاء الناس في شأن حظر التجول, فإذا لم يكن هو رغبة شعبية، خصوصاً من العنصر النسائي, فنحنُ نلغيه في اليوم التالي.
    • لا يمكن أن أتصوَّر أن أي شعب يريد أن يفرض على نفسه حظر التجوُّل, هذا كلامٌ بعيد عن المنطق؟
    = تعالي الخرطوم إذن.. أطلبُ منك أن تأتي إلى الخرطوم وتستفتي الشعب السُوداني، خصوصاً العنصر النسائي مثلك, إن كان يريد رفع حظر التجوُّل أم لا. نحن متأكدون أن أكثر قرار سيكون غير مقبول لدى الشعب السُوداني هو رفع حظر التجول.

    الغريب أن الرئيس الذي حاكى باستلامه السُلطة الذين عناهم بتسوُّر حيطان المنازل ليلاً، كان يُدلي بآرائه تلك في ردهات الهيئة الأمَمِيَّة في قلب مدينة نيويورك, والتي واحدة مِن مهام تأسيسها، رعاية حقوق الإنسان في العالم.

    غير أنه لم يكُن وحده آنذاك، فقد تواصل مُسلسلُ الدهشة.. ففي المجال الاقتصادي، شاء آخرون إحياء عظام ”ماري أنطوانيت“ وهي رميمٌ.. فردَّاً على سؤالٍ عن الغرض من الإجراءات الماليَّة التي أثارت سُخط المُواطنين، قال أحدهُم: «إن المُواطن العادي في قمة السعادة من تلك الإجراءات, وكلُّ ما يُشاعُ في هذا الصدد من حديثِ الأغنياء».. وجاراهُ ثانٍ: «الشعبُ السُوداني يتفهَّم تماماً ما حدث ويحدُث، وأعرفُ أن المُواطن السُوداني الذي يحصلُ على ثلاث وجبات، يُحاوِلُ توفير واحدة منها للدفاع عن البلاد».. وبزَّهُم ثالثٌ: «إنهم في الخارج يتساءلون، لماذا التزم السودانيون الهدوء, رغم المُعاناة والضيق، وارتفاع تكاليف المعيشة، ولم يتضجَّروا أو يندفعوا في المُظاهرات كما هو حالهم كلما أرادوا التعبير عن السُخط والغضب, وقد قال لي نقابيٌ قديم، إن السبب وراء هذه الظاهرة هو الاقتناع بطهارة الحكم».. ثم زاد: «إن السُودانيِّين لا يثورون بسبب الفقر أو عدم مقدرتهم على شراء اللحوم, ولكن يحدُث ذلك إذا حدث الفساد والانحراف، أو إذا أُهينوا في تفسير صمتهم, والشعب السُوداني يمنحُ فرصته للجديَّة، ونظامُ الإنقاذ يلمسُ الأوتار النفسيَّة، ويضعُ يده على مزاج وقناعات الشخصيَّة السُودانيَّة».. ثم ضربَ مثلاً بمدينة ”ثائرة“ من مُدُن السُودان: «فمدينة عطبرة، وهي عاصمة العمَّال في السودان، ظلت تاريخياً تتحرَّك وتتمرَّد ضد أقل القرارات تأثيراً على حياتها. الآن بلغ سعر كيلو اللحم خمسمائة جنية, ومع ذلك فإن الحياة في المدينة تمضي طبيعيَّة». وختم آخرٌ بمدحٍ في مكان ذم: «لا أعتقدُ أن الشعب السُوداني مُغفل أو ضعيف إلى درجة تأييد هذه الحكومة قهراً وقمعاً على مدى10 سنوات».. على الرغم من أن الأخير هذا ناقض حديثه بعد أقل من عامين, إثر تجرُّعه من الكأس نفسها، المرارة التي أذاقتها الإنقاذ للذين فسَّر المذكور صمتهم بالرضى, فأصبح يدعوهم جهراً للإطاحة بالنظام؟!

    مع ذلك، فإن النماذج سالفة الذكر، مع ملاحظة أن جميعها نشِرَت خارج السُودان في ظلِّ تشدُّد السُلطة بعدم دخول أي مطبوعة للبلاد, تشحذ الأذهان للتأمُّل في ظاهرة استطالة سنوات الإنقاذ, رغم الواقع الذي يدحضُ كلَّ حرف نطق به المذكورون أعلاه.

    كانت الأزمة الاقتصادية كلما اشتدت، وزادت ضيقاً ومعاناة على المُواطنين, عصَبَت السُلطة بطونهم بخطابٍ وشعارات لا تغني ولا تسمِن ولا تشبِعُ مِن جوعٍ، مثال: «لقد حدَّدنا أهدافنا ومبادئنا, فإذا كان الهدف هو الإسلام، حسب إيماننا، فإن ما نطبقه الآن في السُودان هو أمرٌ من ربَنا سُبحانه وتعالى, فلا يمكن لنا أن نحاول أن نُرضي البشر لنُغضِبَ الله سُبحانه وتعالي, مهما كان الأمر».. وقوله أيضاً: «الاقتصاد يُعاني اليوم لأننا حمَّلناه فاتورة الشريعة, وهل كان الناس يتوقعون منا أن نبيع ديننا بدراهم معدودات».

    ظلَّت ألسُن مبعوثي العناية الإلهيَّة لأهل السُودان ترسِلُ مثل هذه ”الصواعق“ الشعاراتيَّة, في حين أن المُخاطبين يعلمون بأنهم جُبِلوا على دين الإسلام بالفِطرة.. يبدأون يومهُم بالبَسمَلة، ويختمونه بالحوقلة, وهم ثاني ثلاثة في الأمَّة الإسلاميَّة جمعاء مِمَّن اعتادوا الصلاة على المُصطفى ”صلعم“ كلَّما خرجت مِن جوفهم زفرة حرَّى، تدهمهم حينما يسمعون مثل ذلك اللغو مِن الحديث.. ولم يدَّع أحدٌ منهم أنه أراد أن يبيع دينه بدراهم، كثرُت أو قلَّت, وإنما قالوا: نريدُ نظاماً يكفلُ لنا حريَّاتنا الأساسيَّة.. يُطعِمُنا مِن جوعٍ, ويسقينا مِن ظمأ, ويؤمِّننا مِن خوفٍ.

    خطابُ التعمية شمِلَ أيضاً المجال السياسي، فعندما تسألُ السُلطة عن مُصادرتها الحريَّات العامة, تلجأ الطغمة الحاكمة إلى فقه المقارنات البائس.. فردَّاً على سؤالٍ حول ما إذا كان النظام يقبل بالتعدُّدية، ومُشاركة المُعارضة في الحكومة، يكون الرد: «لماذا تتحدَّثين عن التعدُّدية في السُودان وحدَهُ, وأين التعدُّدية في العالم العربي؟؟».. أي أن افتراض غيابها في العالم المذكور، يُبرِّر غيابها عن السُودان.. وأحياناً يأتي المُبرِّر نفسه -بعد عولمته- بمنطق الوصاية, علماً بأن قائله كان يومذاك في قمَّة مجده الشخصي، قبل أن ينقلب عليه حواريِّوه: «إن الذي يحدُثُ عندنا باسم التعدديَّة، أو الديمقراطية الغربية, هو أقربُ إلى السُلطة الديماجوجية، أو الغوغائية, التي تقود حفنة من الأفراد والبيوتات إلى السُلطة بدون مُمارسة الشورى الحقيقيَّة, لا في داخل الحزب نفسه، ولا في داخل القطر عامة».. والمُفارقة، أنه حتى بعدما انقلبوا عليه، لم تحُل المِحنة عُقدة من لسانه، ليقول للملأ إن المُغامرة العسكرية المؤدلجة صادرَت حق الشعب في خياراته السياسية الطبيعية.

    استكمالاً للدائرة، فقد طالت مُمارساتُ الإنقاذ قطاعات أخرى, الأمر الذي استنفر أحد الكتاب السياسيِّين، فكتب مُستنهضاً هِمم المُتقاعسين، لجعل مُمارسات السُلطة فيما أسماه بـ”أم الكبائر“، منطلقاً للإطاحة بها: «إنني أرى أن النظام الأصولي العسكري أبشعُ نظام حكم في البلاد منذ أن تكوَّن السُودان -بشكلٍ عام- على يد محمد علي باشا القرن الماضي, ومن أعظم الكبائر في سِجلِّ النظام، مُعاداته للآداب والفنون والفكر, ولهذا ينبغي تنسيق كل الطاقات لإطاحة الديكتاتورية، ووضع حدٍ للتدمير الذي تمارسه على جميع الأصعدة».. بالرغم من أن الداعي لم يمضِ شخصياً – بقلمه- في ذات الطريق، للوصول بالدعوة إلى نهاياتها المنطقية.

    بَيْدَ أنَّ هذه المُمارسات طارت شظاياها، وأصابت آخرين, وكان لها انعكاساتها على مستوى الإقليم, ويبدو أنها -رغم سلبيتها- كانت بمثابة بروباجاندا ”دعاية“ لصالح الترابي، في صراعاته الخفية.. فقد جاء أول اتهام من بلد نَمذَجَت الجبهة الإسلاميَّة تجربته، واعتبرتها إحدى منطلقاتها في الانقلاب.. فبعد سلسلة مُظاهراتٍ واضطرابات شهدتها العاصمة الجزائرية, صرَّح مسؤولون لوكالة الأنباء الرسمية بتاريخ 31/5/1991: «بتورُّط نظام الجبهة الإسلامية السُودانيَّة في الشئون الداخلية لبلادهم».. ثم أعقبتها تونس على لسان رئيسها، زين العابدين بن علي، في الليموند الفرنسية بتاريخ 12/7/1991, بنفس الاتهام، إلى أن سحبت سفيرها من الخرطوم في 15/10/1991, حيث كان ”راشد الغنوشي“ زعيم ”حركة النهضة“ من بين المشاركين في فعاليات المؤتمر الشعبي الإسلامي, وبموجب توجيهاتٍ من الترابي، مُنِحَ جواز سَفَرٍ سوداني ”دبلوماسي“ في مايو/أيار 1991!! وعندما قامت السُلطات التونسيَّة بنشر نسخة مُصوَّرة منه, اعترف الترابي في تصريحاتٍ صحافية بتاريخ 18/10/1991، وقال: «إن ذلك جزءٌ من التقاليد السُودانيَّة في مُساعدة اللاجئين».. وتلاهُما الرئيس المِصري حُسني مُبارَك في الحياة 16/7/1991, بشيء مِن السُخرية: «البشير راجل طيِّب وأمير، بس الثاني اللي بيلعب مِن الخلف، ونحن فاهمين»، وأضاف: «الترابي هو الذي يعمل المشاكل، وفاهم بأنه سينشر مبادئه الهدَّامة في كل منطقة من العالم, ويلعب على دول المغرب العربي».. ثم مؤكداً في موقع إعلامي آخر بأنه يملكُ: «أدلَّة دامغة على تورُّط نظام الجبهة في أحداث الجزائر».

    الذين تسابقوا في تأكيدات تورُّط النظام، والترابي بصفة خاصة, لو كانوا يعلمون صراع الكواليس، لأدركوا أن الرجُل حينها كان سيسعَدُ بالمزيد، حتى لو كالوا له أطناناً منه.. وكان حينما يقول: «لا دور لي في إدارة الحكم, ولكن بالضرورة لي دور فكري عام»، فإن تلك من الرسائل المعنيَّة بها ”زُمرة الكواليس“, وبعضهُم يقرؤها جيداً، أكثر من أصحاب القرار في دول الإقليم، التي استهدفتها طموحاته, وليس المشروع كما تخيَّلوا.. وبعد تأكيد الترابي زعامته مُجدَّداً، كان بعضُ أفراد ”الزمرة“ نفسها قد استكان, وبعضُها الآخر رضخ لمشيئته وزعامته, فأصبحت ”المنشية“ مَحَجًّاً لكل رجالات الدولة, بعد أن صارت القراراتُ، صغيرها وكبيرها، يُصدِرُها ”الشيخ الدكتور“ مِن دارِه تلك، دون قرطاسٍ، أو قلمٍ يُدمي بنانه.

    غير أن للشفاهة تفسيراً آخر في مُمارسات ”الشيخ الدكتور“, فالمُتربِّصون به تورَّطوا في انتهاكات جنائية متعدِّدة على المستوى الداخلي (التعذيب, التصفيات الجسدية, الإعدامات) وأيضاً على المستوى الخارجي لاحقاً.. وقد اكتفى في جميعها بحُدود العِلم، عِلماً بأنَّ حُدود العِلم هي أيضاً نوعٌ من التواطؤ، أو المشاركة النسبيَّة في المسؤولية.. لم يكن ذلك اجتناباً للشرِّ، بقدر ما كان الترابي يُدرِكُ، بدهائه ومكرِه المعروفين، أن ثمَّة لحظة فاصلة يُحتملُ حدوثها.

    عاد الترابي بعد شفائه لمُمارسة دوره, في حين تضاءلت غايات ”زمرة الكواليس“, انحناءً للعاصفة، أو استسلاماً لواقعٍ أحكم الشيخُ الدكتور قبضته عليه.. غير أنه أقدم في العام 1993 على خطأ إستراتيجي في إطار الصراع, حيث أصدر مُغترَّاً ”فرماناً“ يقضي بحلِّ تنظيم الجبهة، لعدم جدواه، بعد أن أصبحت نظاماً: «سعيتُ لتوسيع دائرة الحزب كلَّما اكتشفتُ ازدياد الذين يُؤمنون بما أدعو إليه, للدرجة التي وصلتُ فيها إلى قناعة كاملة بأنَّه ليس هناك ما تسَمَّى بالجبهة القومية الإسلامية, وارتضينا على رؤوس الأشهاد أنه لو قدِّر لهذه البلاد أن تعود مرة أخرى إلى نظام أحزاب، فإنني لن أكون عضواً في حزبٍ يحمل اسم الجبهة الإسلامية، أو غيرها من الأحزاب». رغم أن ذلك قولٌ يدُلُّ على أن ذكاءه لم يُسعفه في قراءة صحائف المُستقبل قراءة صحيحة، فالأشهاد الذين خبروا ميكافيليته يعلمون أنه الآن رئيس حزب المؤتمر الشعبي.. وتبع ذلك حلُّ هيئة مجلس الشورى ”بالتجاهُل“، إلى أن غابت في زحمة الأحداث.. وبهاتين الخطوتين، يبدو أن الترابي اقتنع بأن الكرة قد استقرَّت تماماً في ملعبه, بلا رقيبٍ أو حسيب, فوجَّه أبصاره إلى ما خلف الحُدود, مُتوخياً دوراً أمَمِيَّاً، بغرورٍ شديد: «إنه نموذج سُوداني سنجرِّبه ونحسنه، ثم نهديه إلى المُسلمين, ثم بعد ذلك إلى الغرب».

    في الفصلين الثالث والخامس، سنتابع الأحداث التي أدَّت إلى بداية التصدُّع بين الترابي و”المنظومة“, إلى أن اختار كلُّ طرفٍ المُضي في طريق.

    الهوامش:
                  

العنوان الكاتب Date
س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من الدخول بكرى ابوبكر08-04-06, 00:09 AM
  ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:17 AM
    Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:25 AM
      Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:27 AM
        Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:29 AM
          Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:31 AM
            Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:34 AM
              Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:36 AM
                Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:37 AM
                  Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:38 AM
                    المَشْهَدُ الخَامِس: سُوَّاسُ الأحْصِنَة بكرى ابوبكر08-04-06, 00:40 AM
                      المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد بكرى ابوبكر08-04-06, 00:41 AM
                      المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد بكرى ابوبكر08-04-06, 00:41 AM
                        Re: المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد عاصم الطيب قرشى08-04-06, 01:33 AM
                      Re: المَشْهَدُ الخَامِس: سُوَّاسُ الأحْصِنَة adil amin08-10-06, 02:22 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmuez08-04-06, 02:34 AM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عصام أحمد08-04-06, 03:32 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال تولوس08-04-06, 06:16 AM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال القلب النابض08-04-06, 06:51 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmosley08-04-06, 08:45 AM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عويس08-04-06, 09:27 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kostawi08-04-06, 01:28 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-04-06, 02:02 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-04-06, 01:46 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عبد الله محمود08-04-06, 02:54 PM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kostawi08-04-06, 03:07 PM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Abureesh08-04-06, 03:09 PM
            Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال نادية عثمان08-04-06, 03:26 PM
              Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kostawi08-04-06, 04:25 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-05-06, 12:04 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-04-06, 07:21 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال غادة عبدالعزيز خالد08-05-06, 01:04 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال على محمد على بشير08-05-06, 10:38 AM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عبد اللطيف عبد الحفيظ حمد08-05-06, 10:58 AM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال نادية عثمان08-05-06, 11:38 AM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-05-06, 12:17 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-05-06, 12:43 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Abomihyar08-05-06, 01:33 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Abomihyar08-05-06, 01:38 PM
  مذبحة الديموقراطية hassan bashir08-06-06, 04:08 AM
    Re: مذبحة الديموقراطية عبدالرحمن عثمان08-06-06, 06:15 AM
      Re: مذبحة الديموقراطية hassan bashir08-06-06, 06:45 AM
        Re: مذبحة الديموقراطية Adil Isaac08-06-06, 10:34 AM
          Re: مذبحة الديموقراطية رأفت ميلاد 08-06-06, 02:38 PM
            Re: مذبحة الديموقراطية سعدية عبد الرحيم الخليفة08-07-06, 01:28 AM
              Re: مذبحة الديموقراطية Elmontasir Abasalih08-07-06, 04:13 AM
                Re: مذبحة الديموقراطية hassan bashir08-07-06, 04:38 AM
                  Re: مذبحة الديموقراطية Elmontasir Abasalih08-07-06, 10:13 AM
                    Re: مذبحة الديموقراطية saif khalil08-08-06, 06:28 AM
                      Re: مذبحة الديموقراطية Elmontasir Abasalih08-09-06, 11:55 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال saadeldin abdelrahman08-08-06, 10:10 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عزالدين محمد عثمان08-08-06, 07:28 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-09-06, 08:38 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال اندرو كوات08-09-06, 12:54 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Muna Khugali08-09-06, 10:57 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-10-06, 00:22 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-10-06, 08:34 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-14-06, 10:56 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kabar08-10-06, 01:21 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-13-06, 11:28 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-14-06, 01:20 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عبد الخالق عابد08-14-06, 02:54 PM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Bakry Eljack08-15-06, 03:37 AM
            Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-15-06, 07:06 AM
              Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-15-06, 09:20 PM
                Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-16-06, 12:24 PM
              Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-16-06, 12:59 PM
                Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-17-06, 09:14 AM
                Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-17-06, 09:14 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de