اخيرا مامون حميده وزيرا !!

Quote: نقلا عن صحيفة السودانى العدد رقم: 563 2007-06-12 مقال للدكتور محمد سعيد القدال وقفة وخواطر تاريخية:جامعة الخرطوم..وكرسي البابوية كثر الحديث في الأيام الأخيرة حول قرار جامعة الخرطوم بعدم تجديد عقد عدد من الأساتذة الذين يعملون بعد المعاش. وانبرى نفر من الكتاب للدفاع عن القرار، بينما هاجمه نفر آخر. وعجبت لهذه الضجة. فإذا كان القرار قد اتخذ وفق المعايير الأكاديمية، فلا يحتاج لهذه الضجة. أما إذا كان للقرار ما وراءه، وتدخلت عوامل أخرى عصفت بالنقاء الأكاديمي، فإن تأييده يكون خروجا على ذلك النقاء الأكاديمي ودفاعا عن باطل. وقبل أن أخوض بقلمي في الموضوع، أود أن أستعرض أوضاع جامعة الخرطوم في عهد الإنقاذ، لنرى إن كان القرار يخرج عن سياسة الإنقاذ أم يتمشى معها، لأن التاريخ هو البوصلة التي نستهدي بها لتحديد الموقف الصحيح. كان أول خطوة اتخذتها الإنقاذ في أسابيعها الأولى إزاحة مدير الجامعة الذي جاء بالانتخاب بعد معركة أكاديمية وسياسية. فانتخب الأساتذة استاذا له باع أكاديمي طويل وله خبرة إدارية واسعة المدى. وانهزم مرشح التيار الإسلامي وهو أيضا أكاديمي مرموق، ولكن المعركة شابتها ظلال سياسية. وانهزم كل المرشحين الذين تقدم بهم التيار الإسلامي للمراكز القيادية في الجامعة. ولم يصل أي مرشح من التيار الإسلامي إلى أي منصب في اللجنة التنفيذية للنقابة. فالتيار الإسلامي له مؤيدوه وسط استاذة الجامعة، ولكنهم قلة. وعندما استولت الجبهة على السلطة بانقلاب عسكري، بدأت تتعامل مع الجامعة من تلك القاعدة الضيقة. ولعل أخطر ما أقدمت عليه الإنقاذ أنها سعت إلى تحويل الجامعة من مؤسسة قومية إلى مؤسسة تابعة لها، وعملت بكل ما في وسعها لتحقيق هذا الهدف. فدمرت الأساس الذي تقوم عليه الجامعة. وكلمة جامعة لا تعني ترفا فكريا، بل أساس الجامعة أنها تجمع مختلف التخصصات والتيارات الفكرية التي تصطرع في إطار المنهج العلمي. وبرز إسفاف الهوس الديني في إحدى البلاد العربية بتكوين جامعة تسمى جامعة الإيمان. فأخذت الإنقاذ تعين كوادرها في المناصب القيادية في مؤسسة قومية يقوم كل بنيانها على استقلالها. وفي مؤسسة لا تملك أغلبية وسط أساتذتها. وحتى نظام مايو على أيامه السوداء كان يعين قياديين للجامعة أغلبهم لهم وزنهم الأكاديمي والإداري. وبلغ استخفاف الإنقاذ بالجامعة أنها عينت شخصا عميدا لكلية من خارج المحيط الجامعي وليس له خبرة أكاديمية. وكان التعيين حتى في وظيفة محاضر يخضع لضوابط أكاديمية صارمة. وكانت تلك التعيينات جزءا من سياسة التمكين، ولكنها أدت إلى ترسبات كريهة في المحيط الجامعي. وكانت الممارسة الكريهة الأخرى عندما سمحت إدارة الجامعة على عهد مديرها مامون حميدة بدخول أجهزة الأمن إلى داخل الحرم الجامعي. ولم يحدث أن شهدت الجامعة مثل هذا الجنوح حتى على أيام الحكم البريطاني. بل إن أجهزة الأمن قتلت طالبا في قهوة النشاط، ولأول مرة في تاريخها، وأذكر أني عبرت على الطريق الذي اغتيل فيه ورأيت دمه المطلول ينسكب على قارعة الطريق عنوانا على بطش الأعمى. بل شهدت الجامعة على عهد نفس المدير جنوحا آخر. فقد حمل الطلاب على عربات إلى كلية الشرطة في بري لأداء الامتحان عندما تعزر إجراء الامتحانات في الحرم الجامعي. وكان الأساتذة في دهشة من الذي يجري أمامهم. كانت تلك أياما سوداء كالحة السواد. ولكن جنون السلطة والقاعدة الاجتماعية الضيقة لا تأتي إلا بمثل تلك التصرفات الرعناء. ثم بدأت مذبحة الفصل التعسفي. ابتدرها أيضا مدير الجامعة مامون حميدة، وفصل أربعة من الأساتذة بقرار جمهوري. وكان المديران قبله قد امتنعا عن تطبيق القرار، فأطيح بهما. وتواصلت المذبحة. وأدى الجو الخانق الذي أشاعته الإنقاذ إلى خروح مجموعات من الأساتذة الأجلاء ليجدوا في أرض الله الواسعة مغانم كثيرة وسعة. وأخذ البنيان الأكاديمي للجامعة يتصدع. والإنقاذ لا تهتم بشيء سوى بالتمكين. ونتج عن التشريد المتواصل وانحطاط الأداء الأكاديمي أنه بحلول العام الدراسي 2008\2009 أن 58% من أعضاء هيئة التدريس سيكونون من حملة الماجستير. وقد تناول السيد الصادق المهدي وضع التعليم العالي في السودان في عهد الإنقاذ في الورقة التي تقدم بها إلى ندوة الأكاديميين السودانيين في القاهرة عام 1998 فقال: "لقد كان للتعليم في السودان دائما استقلاليه وقومية وخضوعه لمنهج قومي موضوعي بلغ قمته في مجال التعليم العالي... واتخذ التعليم العالي في بلادنا طابعا ليبراليا أكاديميا... إن الإتقاذ دمرت التعليم العالي في أبشع صورة من صور نكران الجميل لأن القوى السياسية المكونة للإنقاذ نمت وترعرعت في أحضان التعليم العالي... التوسع الأرعن الذي أحدثته الإنقاذ في التعليم العالي جزء لا يتجزأ من بسط التسلط السياسي على البلاد... وعلى نفس الوتيرة التهريجية قرروا تعريب التعليم العالي بلا دراسة وبلا مراجع ولا إعداد أساتذة، فصار التعريب الذي سموه التأصيل وبالاً على التعليم العالي. ولعل أخطر ما سمعت عن جامعة الخرطوم في ظل الإنقذ هو الهمس الذي يتردد عن حلقة صغيرة تدير الجامعة بالتحكم من البعد تحت إشراف جهاز الأمن. وقد تكون هذه مجرد إشاعة يفرزها الكبت السياسي لأن الكبت مدعاة لإفراز الشائعات. ولكن مجرد أن يفكر الأساتذة أن هناك زملاء لهم أصبحوا وكلاء للأمن ويتحكمون فيهم أمر يبعث على الأسى. وأحيل القارئ إلى مداولات إلى ندوة الأكاديميين السودانيين في القاهرة عام 1998 حول واقع ومستقبل التعليم العالي في السودان. وقد استعرضته جريدة الميدان استعراضا وافيا في عددها بتاريخ 5\6\2007. فقد استعرض المقال الأوضاع المأسوية التي مر بها التعليم العالي في ظل حكم الإنقاذ. ثم تأتي إحالة قرابة الخمسين أستاذا للتقاعد فينفجر الجدل. والذين يقولون بأن وراء القرار دوافع سياسية، إنما ينطلقون من تجربة 18 عاما من سياسة الإنقاذ في الجامعة. فلو كانت سياسة الإنقاذ تقوم على أسس رشيدة لما جاء تفسير القرار الأخير بأن وراءه دوافع سياسية. وانبرى نفر للدفاع عن القرار. ولعل د. الطيب زين العابدين من الأكاديميين القلائل الذين يدافعون بقلمهم عن هذا النظام المهترئ، وهذا شأنه. ولكن عليه ألا يعتلي منصة البابوية الأكاديمية ويطلق الأحكام على الآخرين. فنشر مقالا في جريدة الصحافة بتاريخ 19 مايو، وتعرض فيه للذين عارضوا قرار الإحالة. فقال: "تهجم بعض الصحافيين ظلما على جامعة الخرطوم". وقال: "وقال متعجل آخر...". ثم يقول: "ويتشكك المرء في دوافع الهجمة من أولئك وترتد تهمة تسييس القضية على الذين قالوا بها وليس على الجامعة:. ويقول: "التهجم بغير معلومات دقيقة وثابتة على جامعة الخرطوم" ويقول: "إن حرية الرأي ينبغي أن تقترن بالمسئولية، وأول درجات المسئولية هي التأكد من المعلومات والوقائع التي يستند عليها صاحب الرأي خاصة عندما يشير بأصابع الاتهام إلى مؤسسة قومية عريقة مثل جامعة الخرطوم التي تتيح هذه المعلومات لمن يطلبها: (كل التشديد من عندي). يتضح من المقتطفات السابقة الألفاظ العنيفة التي يستعملها د. الطيب في وصف الذين يخالفونه في الرأي. فهم يتهجمون ويستعجلون. ويطالبهم بالتأكد من معلوماتهم, ولكنه يقع هو نفسه في خطأ عدم التأكد من المعلومات (رمتني بدائها وانسلت) مما دفع ببعض من مسهم معلوماته الخاطئة للرد عليه. وإذا كانت جامعة الخرطوم مؤسسة قومية عريقة تتيح المعلومات لمن يطلبها، فمن أين جاء بالمعلومات الخاطئة؟ فهل فقدت عراقتها وقوميتها، أم حورها هو لحاجة في نفس يعقوب؟ وتبدو عدم الدقة في ذكر أسماء الأساتذة الذين لم يجدد عقدهم والذين لا صلة لهم بمعارضي الحكومة، وأصاب في بعضها ولم يكن دقيقا في بعضها. كما ألصق بجلال الطيب تهمة عضوية اللجنة المركزية منذ أن كان طالبا. فهل هذه الدقة التي يطالب بها، أم يريد أن يهول من مكانة جلال مما يحمل في طياته استعداء السلطة عليه؟ أم يريد أن يتفاخر بأن النظام لا يفصل أعضاء اللجنة المركزية ليبرر الاستغناء عن الأساتذة البالغ عددهم قرابة الخمسين؟ ثم يعتلي كرسي البابوية الأكاديمية فيقول إن السلطة لم تستغن عني رغم أني أكتب بتحيز عن ظلم النظام وشوائبه. أأطلق حكم التحيز على كتاباتي، وهذا من حقه، ولكنه لا يسوق مثلا واحدا على تحيزي حتى أرعوي عن هذا الطيش، إلا إذا كانت أحكامه لا تحتاج إلى دليل. وأحب أن أهمس في إذنه بأن ظلم النظام وشوائبه لا تحتاج لتحيز فهي على قارعة الطريق، إلا لمن في أذنيه وقر. كما أن ترقيتي التي يتباها بمنحي لها قد تأخرت 15 عاما بسبب سياسة الإنقاذ من اعتقال وفصل تعسفي واغتراب قسري. وأقول في الختام إن الاستغناء عن الأساتذة لو جاء وفق معايير أكاديمية لما أثار ضجة، ولو جاء من جهة غير سلطة الإنقاذ بممارساتها الجانحة في الجامعة، لما أثار ضجة. فممارسة الإنقاذ في الجامعة طوال فترة حكمها كانت سوداء كالحة السواد. وأتمنى ألا يكون هذا تحيزا آخر. د. محمد سعيد القدال